رؤى

قضايا إسلامية (9): السنة النبوية.. نهج الإسلام العملي

السنة هي النهج، والسنة المحمدية هي نهج الرسول –صلى الله عليه وسلم– في تبيان أحكام الله عز وجل كما جاءت في كتابه العزيز. والرسول في نهجه هذا، كان وما يزال وسوف يظل، لنا فيه “أسوة حسنة”.. وذلك كما في قوله جل جلاله: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا” [الأحزاب: 21].

وفي مقالنا السابق (قضايا إسلامية.. مقاربة أولى في مفهوم السنة النبوية)، كان التساؤل الذي توقفنا عنده هو ماذا عن الآية الكريمة “قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ”؟

الوحي والتلاوة

عند النظر إلى قوله سبحانه وتعالى “قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ” [الأنبياء: 45] هنا ينبغي أن نلاحظ أن لفظ الْوَحْيِ ورد في الآية معرفًا بالألف واللام، وهو الموضع الوحيد من بين (78) موضعًا وردت فيها كلمة وَحْيِ ومشتقاتها. فإذا ما أدركنا أن هذه الآيه مكية، يصبح تعريف وَحْيِ بالألف واللام للإشارة إلى القرآن الكريم وما احتواه، ليكون المعنى: “أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ” أي أنذركم بالقرآن مما يتعلق بمصيركم المشئوم.

وهذا هو ما يشير إليه، ليس فقط التسلسل الموضوعي للآية مع الآية التي تسبقها [الأنبياء: 44].. ولكن يشير إليه أيضًا المواضع التي وردت بها كلمة وَحْيِ مرتبطة بالإنذار.

يقول سبحانه وتعالى: “قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ” [الأنعام: 19].. ويقول سبحانه: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ” [الشورى: 7].. ويقول تعالى: “قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ • أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ • مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ • إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ” [ص: 67 ـ 70].

بل إن مما له دلالة في هذا الإطار، هو ورود فعل الْوَحْيِ –الوحي إلى الرسول الكريم– مرتبطا بفعل التلاوة –تلاوة الرسول لهذا الوحي– وذلك في قوله عز وجل: “كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ” [الرعد: 30].

ومن خلال هذه الآية، لا يكون عسيرًا أن نهتدي إلى أن المقصود بـ”الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ” هو آيات الله الكريمة التي تضمنها كتاب الله، خاصة إذا أدركنا أن فعل التلاوة، في اللسان العربي تشير إلى إعادة لفظ نص بحرفيته دون شرح ولا تعليق وبشكل متتال.. وهو ما يتبدى بوضوح من خلال قوله عز وجل: “يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ • هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ” [الجمعة: 1 ـ 2].. إضافة إلى الفصل بين “يَتْلُو عَلَيْهِمْ” و”يُعَلِّمُهُمْ”، فإن الهاء في “آياته” لا يمكن أن تعود إلى الرسول، ولكن إلى “الله… الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ”.

ولننظر إلى قوله سبحانه وتعالى: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ” [الكهف: 110؛ فصلت: 6].. هنا ينبغي أن نلاحظ أن هذه الآية تشير إلى أن النبي –صلى الله عليه وسلم– وإن كان بشرًا مثل باقي البشر، إلا أنه يتميز عنهم بالْوَحْيِ..

فمن حيث كونه –صلى الله عليه وسلم– بشرًا، فقد قال سبحانه: “وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ” [الشورى: 51].. ومن حيث كونه –صلى الله عليه وسلم– نبيًا، فقد قال تعالى: “إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا” [النساء: 163].

فكأن المسألة، هنا، تبدو في صورة: إن محمدًا –صلى الله عليه وسلم– هو بشرٌ، ولكنه يتميز عن باقي البشر بما أوحي إليه (الكتاب الكريم) من الله سبحانه وتعالى، وبإذنه، تمامًا مثلما أوحى الله إلى من سبق النبي –صلى الله عليه وسلم– من النبيين.

إشكالية الاجتزاء

ولعل ما يؤيد ذلك، أن قوله سبحانه وتعالى: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ”، فقد ورد بنفس الكلمات في موضعين مختلفين في كتاب الله الكريم.

ومما يضيف دلالة إلى هذه الدلالة، أن قوله سبحانه وتعالى قد جاء كمقدمة تليها نتيجتان تحذران من الشرك بالله عز وجل، وذلك بعد التأكيد عبر مقدمة الآية على أن النبي –صلى الله عليه وسلم– بَشَرٌ، وأنه يُوحَى إليه، وأن الله عز وجل إِلَهٌ وَاحِدٌ.. يقول سبحانه: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدً” [الكهف: 110].. ويقول تعالى: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ” [فصلت: 6].

والآن.. لننظر إلى قوله سبحانه وتعالى: “مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” [الحشر: 7].. هنا ينبغي أن نلاحظ أن “اجتزاء” ألفاظ من الآية، يمكن أن يغير من المعنى الذي يشير إليه السياق العام للآية.. إذ أن “اجتزاء” قوله سبحانه: “وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا” ، لن يؤدي إلا إلى فهم أن المراد من الآية “أحاديث الرسول” (ص)، وهو أمر غير صحيح.

فالآية، بكامل سياقها، تشير إلى ما أفاء الله تعالى به على رسوله –صلى الله عليه وسلم– بعد استيلاء المسلمين على مستعمرات يهود خيبر، وإلى كيفية تقسيم هذا الفيء وضرورة أن يلتزم المسلمون بهذا التقسيم، ولا علاقة لهذه الآية الكريمة بأحاديث الرسول –صلى الله عليه وسلم– ويؤكد هذا أن فعل آتَاكُمْ جاء بمعنى أعطاكم ولا يعني أقواله –صلى الله عليه وسلم– بصورة من الصور. لذلك يكون معنى “وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ”، أي ما نهاكم عن آخذه “فَانْتَهُوا”.

في هذا السياق، يمكننا الاطمئنان إلى نقاط ثلاث أساسية:

النقطة الأولى، أن السنة المحمدية هي النهج.. نهج الرسول –صلى الله عليه وسلم– في تبيان أحكام الله عز وجل كما جاءت في كتابه الكريم. والرسول –صلى الله عليه وسلم– في نهجه هذا كان وما يزال وسوف يظل لنا فيه “أسوة حسنة”.. وهي، على هذا الوجه، ليست من الْوَحْيِ، بل هي تمثل ـ إن شئنا الدقة ـ وجه الإسلام العملي. وبالتالي لا يمكن أن تنفصل أو تتم محاولة فصلها عن كتاب الله الكريم، بحال من الأحوال. ذلك أن الكتاب بما يتضمنه من أحكام الله سبحانه وتعالى، قد جاء في كثير من المواضع، والمواضيع عامًا ومجملًا، ولذا جاءت السنة كـ”نهج”، أي: جاءت “الأسوة المحمدية الحسنة” بمثابة الشرح والتفصيل لهذه النصوص العامة والمُجملة، وبصورة عملية (الصلاة، أحد الأمثلة؛ وزكاة الفطر مثال آخر).

السنة والحديث

النقطة الثانية، أن هناك فارقًا بين السنة كـ”نهج”، و: كـ”فعل”، وبين الحديث الشريف كـ”قول”. صحيح أن الاثنين صدرا عن الرسول –صلى الله عليه وسلم– لكن يبقى من الصحيح أيضًا أن السنة هي “أعم” من الحديث. هذا على اعتبار أن السنة سبقت في وجودها الحديث، وهي التي رافقت دومًا نزول الكتاب على المستوى العملي التطبيقي.

فنحن المسلمين، قد توارثنا أداء الصلاة الإسلامية، كما نؤديها اليوم، بطريق التواتر العملي، جيلًا بعد جيل. ولم يصلنا عن طريق الأحاديث، التي جمع معظمها بعد عقود طويلة من بعثة الرسول  – صلى الله عليه وسلم–  وبالتالي لم يحتج أحدنا، في ذلك إلى مراجعة قول أو رواية..

كما يبقى من الصحيح كذلك أن السنة هي “أكثر يقينية” من الحديث. هذا على اعتبار أن السنة قد وصلت إلينا عن طريق التواتر جيلًا بعد جيل كما أشرنا، في حين أن الحديث لم يتم تدوينه إلا بعد قرن ونصف تقريبًا من تاريخ ظهور السنة إلى حيز الوجود، وأنه (الحديث) عندما تم تدوينه، جمع عن طريق “الرواية” عن أفراد عديدين (العنعنة).

النقطة الثالثة، أن اختلاف الطريق والأسلوب في كيفية وصول السنة والحديث، كليهما، إلينا.. وإن كان يفسر لماذا لم يحدث الخلاف في ما بين أبناء الأمة الإسلامية حول “السنة” في حين أنه حدث ويحدث حول الحديث –لم يوضع “علم الحديث” إلا لهذا السبب نفسه– إلا أن ذلك لا يعني، ولا يمكن أن يعني، التقليل من شأن الحديث؛ بل على العكس.

إنه يعني أن “السنة” وإن كانت لا تتعادل مع الحديث (مهما كانت قوة إسناد الحديث) فإن الحديث لابد من فهمه في ضوء كتاب الله الكريم لا العكس أي ألا نفهمه خلافًا لصريح نصوص الكتاب الكريم.. وأن التعامل بالحديث لابد أن يتم بعد الكتاب ثم السنة، وليس قبلهما، كما هو شائع راهنًا.

وفي ما يبدو هكذا فإن الدائرة المكونة لهذه النقاط الثلاث تشير وتؤكد على ضرورة النظر إلى مصادر الرؤية الإسلامية بشكل متكامل، وتراتبي في الوقت نفسه “الكتاب” و”السنة” و”الحديث”… يتبع.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock