كما النسمات العابرة تمر النغمات الراقية فتهفو لها الروح، وتصغي إليها الآذان، وتستكين لرقتها النفس في إباء عن البوح بما اختلج في الصدر، وارتجفت له أوصال الجسد، وخفقت له نبضات القلب. إنها ليست مجرد رحلة مع النغم يشدو فيها صاحب الصوت العذب بأطيب الكلمات؛ ولكنها تجربته مع أجمل ما في الحياة إذا تأكد أنه قد امتلك زمام نفسه فلم تقهره الدنيا بكل ما فيها من غرور، ولم تعبث به خطوبها ونوازلها بكل ما فيها من تسلط وجبروت، آنذاك يتعرف وجهًا لوجه على الحرية فلا يملك في البداية سوى مصافحتها على استحياء، ثم إذا همَّت هي بمغادرة المكان يجد نفسه متشبثًا بها تشبث الطفل الوليد بصدر أمه، فلا تهنأ له حياة بدون عناقه لها، ولا هي يُسفِر وجهها إلَّا بازدياد عدد أبنائها والتصاقهم بها.
وجهها ذو الملامح الرقيقة ينطق بما تتمتع به من رزانة واتزان، ولكن خلف نظراتها العميقة المتطلعة إلى الحكمة والموحية بالاستعلاء على التفاهات والدنايا يمكنك أن تلحظ مدى إقبالها على الحياة بالرغم من تمسكها بسمت الحياء والخجل الأنثوي اللذيْن غالبًا ما تفقدهما أية فنانة محترفة عليها أن تتمتع بالجرأة وعدم الخشية من مواجهة الجمهور. ومثلما هناك من يهوى الغناء فيحترفه سعيًا وراء الشهرة والصيت وكثرة الأموال، هناك أيضًا من يستمتع بالفن أكثر من حبه للمال والانتشار، ويجد في شدوه بالكلمات الهادفة رسالة يجب عليه أن يهديها لكل إنسان يبحث عن حياة لها قيمة وتحمل معنى ما.
فدوى عبيد هي مطربة لبنانية تألقت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي بعدما قدمت إلى القاهرة وعرَّفها الدكتور مصطفى محمود بالموسيقار محمد عبد الوهاب كما قدَّمها أيضًا إلى الموسيقار رياض السنباطي الذي تبنى موهبتها وأثرى مسيرتها الفنية، أما الموسيقار بليغ حمدي فكان هو من قدَّمها إلى الإذاعة والتلفزيون في مصر. وبالرغم من أنها ولدت في لوس أنجلوس عام 1939، إلَّا إن والديها أصرَّا على تعليمها اللغة العربية وإرسالها إلى لبنان كي تتلقى تعليمها هناك في إحدى مدارس الراهبات حيث اكتشفت جمال صوتها الرخيم الناعم عندما كانت تردد أغنيات أم كلثوم وليلى مراد ومحمد عبد الوهاب. وبالرغم من احترافها الغناء بعد ذلك إلَّا إنها ظلت حريصة على تثقيف نفسها بعدما أنهت دراستها الجامعية، وحصلت على الماجستير في علم النفس.
وما بين مشاغبات الطفولة، والخيالات الحالمة للفتاة المراهقة، والافتتان بالتحليل النفسي، والغرام بالموسيقى والغناء والشعر- تشكّلت شخصية فدوى عبيد ونضجت إلى درجة جعلتها مختلفة عن بقية المطربات من جيلها، فارتقت بروحها عن مشاكل الوسط الفني والمنافسة المدمرة والصراعات المستهلِكة للنفس، وساعدها على ذلك ممارستها لليوجا وقراءاتها المتعمقة.
وفي كل من لبنان ومصر قدمت فدوى عبيد مئات الأغنيات، ومن أشهر أغانيها اللبنانية أغنيتها الشعبية الخفيفة “شاب حليوة أفندي” من ألحان ملحم بركات وكلمات الشاعر ميشال طعمة، والتي حققت جماهيرية كبيرة وكانت لونًا مختلفًا غامرت بتقديمه بعد إجادتها للابتهالات الدينية وقصائد الفصحى. كما تعاونت مع العديد من الملحنين اللبنانيين كان أولهم الملحن حليم الرومي الذي غنت له أغنية “قلبك وين” المعروفة باسم “باعرف قلبي فيك مولع يا كحيل العين” من كلمات طانيوس الحملاوي. كما تعاونت مع الملحن جوزيف عطا الله الذي لحَّن لها أغنية “بكره إنت ورايح” من كلمات مارون كرم.
أما الملحن زكي ناصيف فقد لحَّن له أغنية من كلماته هي أغنية “ع دروبك”، وتعاونت أيضًا مع إلياس رحباني في أغنية “مطرح ما تكون” من كلمات مارون كرم، ومع الأخوين رحباني في أغنية “ناطرة” من كلمات الشاعر جورج جرداق. وتعاونت أيضًا فدوى عبيد مع الموسيقار توفيق الباشا الذي لحَّن لها أغنية للبنان بعنوان “فوق تلالك” من كلمات مارون كرم، وكذلك القصيدة الدينية “يا قاصدًا أرض الرسول” من كلمات الشاعر عبد الله الموسوي، بالإضافة إلى القصيدة العاطفية “قالوا من أنت أحورية؟” كلمات الدكتور مصطفى محمود الذي أنشدت أيضًا له قصيدة “زارني ذات مساء” من ألحان شفيق أبو شقرة.
كما شاركت فدوى عبيد في العديد من المسرحيات الغنائية منها: مسرحية “من ليالينا” التي قدمت عام 1971، بمشاركة جوزيف عازار، ودريد لحام، وغنت فيها العديد من الأغنيات كلمات جورج جرداق مثل: “قُول للحلوة”، و “يا ساكن الليل”، وأغنية “روح واتركني لحالي”، لحن تلك الأغنيات الملحن وليد غلمية الذي كان له مكانة خاصة عندها وبمنزلة أبيها الروحي إذ عمل على اكتشاف مناطق جديدة في صوتها.
اشتركت فدوى كذلك في مسلسلات لبنانية غنائية مثل: مسلسل “أنا أنت” عام 1976، مع فهد بلان ونجاح سلام، ومسلسل “عليا وعصام” عام 1977، ومسلسل “ليالي شهرزاد” عام 1980.
لقد استطاعت فنانتنا أن تثري مسيرتها الفنية بغناء مئات الأغنيات، ما بين عاطفية وشعبية ووطنية ودينية، ولكنها تميزت بإنشاد قصائد الفصحى التي قدمتها في مصر ونالت بسببها مكانتها الفنية؛ خاصة وأنها تعاونت في بداية مسيرتها الفنية مع الموسيقار رياض السنباطي في عدد من الأغنيات منها الديني مثل: “لبيك ربي”، و”إله العالمين” من كلمات الشاعر عبد الله شمس الدين، وقصيدة “محمد المختار”، وابتهال “يا اللى الوجود صنعة إيدك”، وابتهال “مع الله” الذي نظمه الشاعر محمود حسن إسماعيل، وكان منها أيضًا الأغنيات العاطفية مثل: قصيدة “لا تكابر”، وأغنية “حبك على جبيني قدر” من كلمات حسين السيد، وكذلك أغنية “عايزة أسامحه”، بالإضافة إلى أغاني وطنية أخرى مثل: “عروس السلام” و”أوطاني عربية”.
كما لحَّن لها الموسيقار محمد الموجي الابتهال الديني “مع السارين” كلمات عبد الله شمس الدين، وأغاني عاطفية أخرى مثل: “شغل بالي”، و”الصيف اللي فات”، و”ليه في ضي عينيك”، وأغنية “في دوامة”.
ومن ألحان عبد العظيم محمد وكلمات حسين السيد غنت أغنية “جانا الحب”، وأغنية “تُب لك يوم وكفاية”. ولحَّن لها سيد مكاوي الأغنية العاطفية “على وين ما تروح يا هوى”، بالإضافة إلى قصيدة “لبست ثوب الرجا” التي يقول فيها “ابن النحوي”: لبستُ ثوب الرجا والناس قد رقدوا، وقمت أشكو إلى مولاي ما أجدُ .. أشكو إليك أمورًا أنت تعلمها، مالي على حملها صبرٌ ولا جلَدُ.
https://www.youtube.com/watch?v=19CRMjWJJl8
أما آخر ألبومات فدوى عبيد الغنائية؛ فصدر في بداية الثمانينيات وكان يحمل عنوان “سهرانة” وكانت تلك الأغنية من ألحان فاروق سلامة وكلمات مصطفى الضمراني. وشاركت أيضًا فدوى عبيد الفنان فريد الأطرش في أغنية وطنية من ألحانه وكلمات الشاعر اللبناني عبد الجليل وهبي بعنوان “يا بلادي” بعد هزيمة 67، وقالت فيها “اللى بيخون البلاد مستحيل يلقى محل في حماكي يا بلادي)، كما أعادت بصوتها أغنيته “ماله الحلو ماله”.
وبالرغم من تعاون فدوى عبيد مع كبار الملحنين في مصر ولبنان إلَّا أن الأضواء قد انحسرت عنها بعدما ابتعدت عن صخب المجتمعات الفنية وسهراتها، ونأت بنفسها عن الاضطرار إلى تقديم أية تنازلات أو التفريط في مبادئها وأخلاقها في سبيل الاحتفاظ بالشهرة والأضواء، فظلت حتى آخر عمرها مكتفية فقط بحضورها الفني الذي تفرضه أعمالها الغنائية المتميزة.
وبعد عدة عقود من الغياب والاختفاء عن الأضواء وارى الثرى – منذ أكثر من عام- جسد المطربة اللبنانية فدوى عبيد رحمها الله، إذ وافتها المنية في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت وصيتها أن يُلَفّ جثمانها بعلم بلدها (لبنان) اعتزازا منها بموطنها وقوميتها.