رؤى

أغاني رمضان القديمة.. بهجة مصرية يكسوها الإيمان (1)

هي بهجة انتظار الغائب، وفرحة الاستبشار بقدوم الأحبة؛ تلك التي اصطبغت بها أغنيات استقبال شهر رمضان، والتي باتت توصف بالقديمة؛ خاصة بعد مرور أكثر من ستين عامًا على إنتاج الكثير منها، وما يناهز الثمانين عامًا على إنتاج الأغنية الأقدم (وحوي يا وحوي).

وإذا كان بعض تلك الأغنيات يتميز بإيقاعات مبهجة أو راقصة مما يراه البعض لا يتناسب مع روحانية شهر الصيام، إلَّا أن الكثير منها لم يخلُ من العظة والتذكير بالحكمة من الصوم، ومن أهمية الإنفاق وإطعام الفقراء والمساكين، ومن الحث على عدم اكتناز المال. وربما يكون ذلك المزج التلقائي وغير المفتعل بين بهجة استقبال شهر الصيام والتنبيه إلى ما يجب الالتزام به من عبادات وطاعات هو السبب في استمرار تلك الأغنيات حاضرة بكل قوة ليس فقط داخل المجتمع المصري؛ بل أيضًا في كثير من المجتمعات العربية؛ ليكون ذلك دليلًا واضحًا على تفرد مصر بتلك الحالة الإيمانية التي لا تنفصل فيها الدنيا عن الدين.

ولعلنا نتساءل عمَّا يميز تلك الأغنيات القديمة التي أُنتِجت خصيصًا لشهر رمضان؟ هل هي كلماتها المعبرة عن الروح الإيمانية المصرية، أم هي الألحان المميزة التي تشع بالبهجة وتنقل المستمع إلى أجواء حقبة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، أم هي الأصوات الطربية التي كانت متوفرة بكثرة في ذلك الزمان، والتي أتيحت لها الفرصة للظهور والشهرة؟

لقد عرفت مصر الاحتفاء بقدوم شهر رمضان، منذ أن دخلها الإسلام، في إطار الاهتمام بالشعائر التعبدية مثل: إقامة صلاة التراويح في جماعة، والبعد عن الالتهاء بملذات الحياة الدنيا والإسراف في التمتع بها، والإقبال على إقامة موائد الإطعام للفقراء والمحتاجين، والإكثار من تحصيل العلم وحضور مجالسه. ومع الحكم الفاطمي لمصر كانت المبالغة في المظاهر الاحتفالية والالتهاء بها تدريجيًّا عن الاهتمام بمجالس العلم، وهو ما تبناه المماليك ثم العثمانيون والذي ظل مستمرًّا إلى الآن. ولذلك ليس غريبًا أن تجد في مصر من يغتنمون هذا الشهر بعيدًا عن الملهيات وتجنبًا للمنكرات جنبًا إلى جنب مع من ينغمسون في اللهو، مكتفين بما في شهر رمضان من مباهج ومبتعدين عن فضائله ومكارمه.

وبما أن أغنيات شهر رمضان – خاصة مع ظهور الإذاعة المصرية- قد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من المنظومة الشعبية الاحتفالية بهذا الشهر، وبما أنها ما زالت محفورة في ذاكرة كل من عاصروها؛ بل وكل من يستمعون إليها الآن بعد صدورها بعشرات السنين، فلا مانع إذن من إلقاء نظرة سريعة على هذا التراث الغنائي المصري الذي يشيع البهجة والسرور بين الناس، وكذلك يدعوهم إلى التراحم والبذل والإنفاق وعدم الإسراف.

ومن خصوصية مصر أنها من البلدان التي تتفرَّد بذلك المزج الثقافي واللغوي الذي فرضه تعاقب الحضارات على أرضها، وهو شأن كل بلد عريق يقهر كل غازٍ له؛ ليظل هو صامدًا على مر العصور والأزمان. وفقط علينا أن نتأمل كلمة من كلمات اللغة المصرية القديمة مثل: (ايعح أو اعح) التي أصبحت في القبطية (يوح) والتي تعني القمر وكيف أنها ما زالت مستخدَمة حتى الآن في العامية المصرية بصيغة (إيَّوحا) أو (إيَّاحا).  وتلك الكلمة بفضل تراث مصر الغنائي ما زالت تتردد على ألسنة الناس بكافة فئاتهم، خاصة مع قدوم شهر رمضان وهو ذلك الشهر الذي له طقوس تعبدية إسلامية تعتمد على رؤية ميلاد الهلال الجديد لبدء شهر الصيام. وأيضًا هناك كلمة (حالو) القبطية التي تعني شيخ، وكلمة (وحوي) وأصلها في المصرية القديمة (واح) وتعني استمر أو اصبر وتحمَّل.

وبالتالي فإنه بفضل شعراء العامية في مصر خلال القرن العشرين، لم يُهمَل تراث مصر اللغوي بل استدعيَّ ليظل حيًّا في مزج يدل على عدم انفصال أهلها من مسلمين ومسيحيين، فليس أدل على الانسجام المجتمعي وعدم التعصب من هذا الإحياء للتراث والحفاظ على تلك الوحدة الوطنية، فهو دليل عملي واضح على امتزاج ذلك الشعب الأصيل وارتباطه بتلك الأرض الطيبة وبحضارتها.

ومن تلك الكلمات القبطية ذات الأصول المصرية القديمة والدالة على الترحيب بقدوم شهر رمضان واستقبال قمره الوليد مثل: وحوي وحوي إيُّوحا، وحالو يا حالو، كتب شعراء العامية العديد من الأغنيات المرتبطة بشهر رمضان والتي يغنيها الأطفال بصفة خاصة ويرددها الجميع كبارًا وصغارًا ابتهاجًا بشهر الصيام.

وأقدم الأغنيات المرتبطة بشهر رمضان كانت في أصلها طقطوقة من الفن الشعبي بعنوان (وحوي يا وحوي إيَّاحا) كتبها حسين حلمي المانسترلي –صاحب العديد من المونولوجات الشعبية– ولحنها الملحن أحمد شريف وأدتها المطربة عزيزة حلمي منذ ما يقرب من قرن من الزمان. ولكن هذه الطقطوقة كانت تتغزل في بنت فلاحة واصفة جمالها بطريقة إباحية وبدون أي تحفظ إذ تقول كلماتها: “وحوي يا وحوي إيَّاحا، البنت الخفة الفلاحة، وفـإيدها خوخة وتفاحة، ماسكة الفانوس أحمر وأخضر ماشية بتغني وتتمخطر بصوت جميل … أقول لِدي إيه أنا متحير … لابسة القميص والطرحة والصدر باين بِرَّاحة ونهودها بارزة مرتاحة تقولش إنها فلاحة، مشيت وراها للساحة .. طلبت أعرف فين بيتها ومين نينتها أخطبها …”.

ومع بداية بث الإذاعة المصرية كانت هناك عناية خاصة بأغنيات استقبال شهر رمضان، ولذلك أعيدت صياغة كلمات أغنية (وحوي يا وحوي) التي ظهرت في ثلاثينيات القرن العشرين لتظل تلك الأغنية إلى الآن بصياغتها الجديدة التي قدمها مؤلفها الأصلي وبلحنها المميز والبسيط هي الأغنية الأشهر والأكثر ارتباطًا برؤية هلال رمضان. وقد غنى هذه الأغنية المطرب والملحن أحمد عبد القادر بصحبة كورال الأطفال الذين نجحوا في التعبير عن معاني البهجة والسرور بكل بساطة وتلقائية مردِّدين: “وحوي يا وحوي إيَّاحا، رُحت يا شعبان إيَّاحا، وحوينا الدار جيت يا رمضان، هل هلالك والبدر اهو بان، يالله الغفار، شهر مبارك وبقالو زمان، يالله الغفار، محلا نهارك بالخير مليان، جيت بجمالك صقفوا يا عيال، محلا صيامك فيه صحة وعال، نِفدي وصالك بالروح والمال، وحوي يا وحوي .. طول ما نشوفك قلبنا فرحان، في الدار خيرك أشكال وألوان …”

ومع استمرار بريق أغنية وحوي يا وحوي المفعمة بالبهجة والمشبعة بعبق الروح المصرية الأصيلة، ظهرت بعد ذلك أغنية (رمضان جانا) على موجات الإذاعة من كلمات حسين طنطاوي وألحان الموسيقار محمود الشريف وكانت بصوت المطرب محمد عبد المطلب بعدما رفضت الإذاعة أن يغنيها أحمد عبد القادر بسبب غنائه من قبل لأغنية وحوي يا وحوي عن استقبال رمضان، ليتقاسم كلا المطربيْن إلى الآن غناء أيقونتي رمضان الغنائية، وليكون محمد عبد المطلب هو المطرب المصري الوحيد الذي إذا استمعت إلى أغنيته رمضان جانا تتأكد من مصداقية رؤية هلال شهر الصيام.

 بعض كلمات تلك الأغنية عُدّل في عام 1965 عندما سجلت للتلفزيون إذ أصبحت لا تناسب ذلك العصر بسبب دخول الكهرباء؛ ومن ثم ألغي مقطع (بالليل نولع قناديلك والشمع يقيد، والليل بطوله نغنيلك ونقول ونعيد).

ولم تتوقف أغنيات استقبال شهر رمضان عند إنشاد أغنية رمضان جانا التي تقول كلماتها: “رمضان جانا وفرحنا به بعد غيابه وبقاله زمان، غنوا وقولوا شهر بطوله غنوا وقولوا أهلًا رمضان .. رمضان جانا، بتغيب علينا وتهجرنا وقلوبنا معاك، وفي السنة مرة تزورنا وبنستناك، من امتى واحنا بنحسبلك ونوضبلك ونرتبلك …”، فلم تكن تلك الأغنية هي الوحيدة التي تعبر عن فرط الشوق لهذا الشهر الكريم أو عن الفرحة والسرور بقدومه، ولكن كان هناك أيضًا العديد من الأغنيات الأخرى مثل الأغنية الشهيرة (مرحب شهر الصوم) كلمات محمد علي أحمد وألحان وغناء الفنان عبد العزيز محمود التي صدرت عام 1966، وتقول كلماتها: مرحب شهر الصوم مرحب، لياليك عادت بأمان  بعد انتظارنا وشوقنا إليك جيت يا رمضان، مرحب بقدومك يا رمضان، ونعيش ونصومك يا رمضان. كما أنشد أيضًا عبد العزيز محمود لرمضان أغنية أخرى بعنوان (جلجل يا آذان).

وهناك أيضًا أغنية شهيرة لاستقبال شهر رمضان غناها الفنان محمد قنديل بعنوان (والله بعودة يا رمضان)، وهي من كلمات عبد الوهاب محمد وألحان الموسيقار جمال سلامة. وتقول كلماتها: ” يا شهر العبادة والخير والسعادة والرضا والغفران، يا مجمع قلوبنا على سنة حبيبنا وبهدي القرآن، من طلعة هلالك غمرنا جلالك آيات من جمالك من نعم الرحمن، على صومك نوينا ودعينا وصلينا وهبت علينا نفحات الإيمان”. وقبل هذه الأغنية غنى محمد قنديل أغنية باللهجة البدوية لشهر رمضان بعنوان (شهر الصوم) كلمات محمد إسماعيل وألحان حسين جنيد.

ومن كلمات محمد إسماعيل وألحان أحمد علي أنشد الفنان عبد الغني السيد أغنية (يا مرحبا بك يا شهر غالي يا رمضان) ويظهر فيها بوضوح الاستبشار بقدوم شهر الصيام إذ تقول كلماتها: “بعد احتجابك وطول غيابك هليت يا رحمة من الرحمن، بشَّر هلالك بنور جمالك قلوبنا فاضت بالايمان، يا شهر آية صومك هداية وحكمة غالية للإنسان، من العام للعام نلقاك تهدي الإسلام بهداه”.

أما عن الحكمة من شهر الصيام ومن إخراج الزكاة للفقراء وإطعام المساكين فيقول المقطع الأخير من الأغنية: “سبِّح لربك واعطِف بقلبك وانعِم بمالك ع المحروم، واعمل حسابك ليوم حسابك غير الطيب فيه ما يدوم، واسعد حيران بالجود تلقى الإحسان مردود…”.

أما الفنان عبده السروجي فله أغنية لاستقبال شهر رمضان بعنوان (أهلًا أهلًا يا رمضان) كلمات الشيخ محمد الفيومي وألحان محمد قاسم، وتقول كلماتها: “بعد الغيبة هلالك بان، شهر عبادة وزكاة وصيام، تحلى أيامه بذكر الله، شهر مبارك عالإسلام، جايب الخير والسعد معاه، وفرحنا بك يا رمضان بعد غيابك يا رمضان، هل هلاله شهر النور عمره ما يخلف المواعيد ..”. وتلك الأغنية يظن الكثيرون خطأً أنها للفنان محمد فوزي بينما هي للمطرب عبده السروجي الذي ارتبط اسمه بأنشودة المسحراتي أو يا مؤمنين بالله التي قام أيضًا الفنان محمد عبد المطلب بغنائها بصوته.

“أنوار وزينة في كل مكان، وشموع بتقيد، على قدومك يا رمضان الخير بيزيد، والناس تقول لك يا رمضان يا شهر كلك خير وأمان، أنوار وزينة في كل مكان يا رمضان، فيك ابن آدم زي ملاك لا أكل ولا شرب في يومك، وربنا بفضله علَّاك جعل الهنا للي يصومك، والصوم ده صحة للأبدان وفريضة سمحة يا رمضان، يا شهر مبروك عالإسلام فيك ليلة نتبارك بيها، دي ليلة القدر بمية عام باب السما مفتوح فيها، تدعي قلوبنا للرحمن وتزيل كروبنا يا رمضان …”.

وبهذه الكلمات التي تغنى بها المطرب إبراهيم حموده في أغنيته لاستقبال شهر رمضان بعنوان (أنوار وزينة في كل مكان) سنختم هذا المقال على أن نستكمل في مقال قادم بقية أغنيات شهر رمضان القديمة التي أبدعها المطربون المصريون.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock