أكدت مصادر إعلامية متعددة أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، سيقوم بجولة ثانية إلى أفريقيا، يزور خلالها المغرب وموريتانيا، فضلًا عن تونس، وذلك بعد الجولة التي قام بها في نهايات يناير الماضي. وتأتي جولة لافروف هذه، في إطار مساعي موسكو المتواصلة للرفع من مستوى علاقاتها مع البلدان الأفريقية عمومًا، والبلدان العربية في غرب أفريقيا على وجه الخصوص؛ من أجل الرفع من مستوى الشراكات الثنائية بين موسكو وهذه البلدان، لتعويض التأثيرات السلبية على الاقتصاد الروسي، بفعل العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية على موسكو.
وأمام عودة القطب الأمريكي من جديد إلى الواجهة في القارة الأفريقية، تبتغي موسكو بدورها منافسة واشنطن في معاقل نفوذها السياسي، بعد إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن، مراجعة السياسات الأمريكية الموجهة لـ”القارة السمراء”، التي كانت تفتقد إلى الأهمية الاستراتيجية لصانع القرار في واشنطن.
كسب المغرب
إن إدارج المغرب، في جولة لافروف الأفريقية الثانية، تسعى من خلاله موسكو إلى كسب المغرب، وكسب دعم الرباط في العديد من القضايا ذات الصلة بالقارة الأفريقية، لاسيما الملفات المرتبطة بالمحاور الأمنية والاقتصادية والاجتماعية لمنطقة الغرب الأفريقي، خاصة أن روسيا تعتبر المغرب أحد المفاتيح المهمة لبلوغها السوق في هذه المنطقة وتنمية المشاريع فيها.
وتعتمد موسكو على جانبين مهمين في توطيد علاقاتها ومحاولتها في كسب المغرب:
فمن جانب، تقوية التعاون السياسي بين موسكو والرباط؛ إذ بدت في السنوات الأخيرة ملامح اتخاذ موسكو لمواقف أكثر حيادية، في قضية الصحراء، عكس مواقفها السابقة، وهو الأمر الذي يشير إلى تطور هام لصالح المغرب، خاصة في ظل التطور الإيجابي بين الرباط وموسكو. وقد ظهر هذا التطور في العديد من القضايا، من بينها رفض المغرب التصويت ضد روسيا في مجلس الأمن، لإدانة تدخلها في أوكرانيا، أو التصويت على قرار فرض العقوبات ضد موسكو.
ويبدو أن موسكو لا ترغب في فقدان المغرب كـ”شريك” يُقدم الكثير من الحلول لروسيا، في مجالات متعددة؛ كالصادرات الفلاحية، وتسهيل عبور الطائرات والسفن الروسية، وهو الأمر الذي يُفسر مواقف روسيا الأخيرة من قضية الصحراء الغربية.
ومن جانب آخر، تفعيل العلاقات الاقتصادية مع المغرب؛ فقد صاحبت التطورات الإيجابية في العلاقات الثنائية السياسية والدبلوماسية، بين المغرب وروسيا، تطورات أخرى إيجابية على الصعيد الاقتصادي؛ حيث ارتفعت المعاملات التجارية بين البلدين بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد زيارة العاهل المغربي، الملك محمد السادس، لموسكو، عام 2016. وبحسب موقع “آر تي عربي” فقد زاد حجم التبادل التجاري بين البلدين بنسبة 50 % في الفترة من يناير إلى فبراير 2022، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021؛ حيث زادت الصادرات الروسية إلى الرباط بنسبة 53 % كما زادت الواردات الروسية من المغرب بنسبة 36 %.
وفي هذا الإطار، رخَّصَ المغرب لعشر سفن بحرية روسية، في الأشهر الثلاثة الأخيرة، من أجل الصيد في المياه المغربية، بالرغم من العقوبات الغربية على موسكو؛ كما أن المغرب لازال يتيح أجواءه لعبور الطائرات الروسية بعد إغلاق أوروبا لمجالها الجوي أمامها.
تحييد موريتانيا
تسعى كل من روسيا وحلف شمال الأطلسي “ناتو” إلى كسب تأييد موريتانيا، بعد تصدّع مجموعة دول الساحل الأفريقي الخمس، وتثبيت موسكو لتموضعها في مالي، وتحركها نحو بوركينا فاسو، وسعيها للتموقع على الساحل الأطلسي، في مواجهة الجناح الجنوبي للحلف. وتحاول روسيا الرد على محاولة الناتو تطويقها من الغرب والشرق، عبر البحث عن فضاءات حيوية في شمال أفريقيا، وغربها، لتهديد جناح الحلف الجنوبي، سواء من ليبيا أو من موريتانيا.
وهذا يفسر المحطة الموريتانية، وأهميتها، في جولة لافروف الأفريقية الثانية؛ إذ تبدو محاولة موسكو في تحييد موريتانيا، بعد الحديث عن رغبة الناتو في إقامة قاعدة عسكرية، في هذا البلد.
وتعتمد موسكو، في محاولتها هذه، على جهتين مهمتين:
فمن جهة، محاولة إبعاد موريتانيا عن مخططات الناتو؛ حيث إن تكثيف قيادات عسكرية أمريكية وأوروبية زياراتها إلى نواكشوط، ولاسيما المناطق الشمالية والشرقية الحدودية مع كل من الجزائر ومالي، يُثير القلق الروسي؛ خاصة في ظل الحديث عن رغبة حلف الناتو في إقامة قاعدة عسكرية مركزية في موريتانيا.
ولأن الناتو لايسعى من وراء إقامة قاعدة عسكرية في موريتانيا، لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي وحسب؛ بل محاولة تقويض أي محاولة روسية للتمدد نحو موريتانيا وساحل المحيط الأطلسي، وتهديد الجناح الجنوبي للحلف، وبالأخص جزر الكناري الإسبانية.. لذا تأتي زيارة لافروف إلى موريتانيا لبحث مسألة إقامة قاعدة عسكرية للحلف على أراضيها، مع المسئولين الموريتانيين، الأمر الذي من شأنه تهديد تواجد “فاغنر” الروسية في مالي؛ كما تُمثل محاولة روسية لاستقطاب موريتانيا، أو على الأقل تحييدها عن أي صراع مُرتقب مع الغرب في منطقة الساحل الأفريقي.
ومن جهة أخرى، تفعيل التعاون العسكري مع نواكشوط؛ إذ تدرك موريتانيا أنها دولة صغيرة، سكانيًا واقتصاديًا وعسكريًا، أمام قوى عسكرية كبرى بحجم روسيا والولايات المتحدة وفرنسا والصين، لذلك لا تريد أن تكون رأس حربة في أي مواجهة بين الكتلتين المتصارعتين. وبالمقابل، تحاول موريتانيا استغلال موقعها الاستراتيجي، والتنافس الدولي لاستقطابها، لتحقيق مكاسب على عدة أصعدة، سواء الاقتصادية منها والعسكرية.
ومن المتوقع أن تعرض موسكو على نواكشوط تعزيز تعاونهما العسكري. فموريتانيا، رغم تعاونها الوثيق مع فرنسا والولايات المتحدة، إلا أنها وقعت اتفاقية عسكرية مع موسكو، في يونيو 2021. ومن شأن هذه الاتفاقية العسكرية أن تكون بوابة روسيا لزيادة نفوذها في هذا البلد، ذو الموقع الاستراتيجي الذي يصل منطقة المغرب العربي بدول منطقة غرب أفريقيا؛ على الأقل من منظور أن الاتفاقية هي أقرب إلى الرد على عدم إيفاء فرنسا بالتزاماتها تجاه مجموعة الساحل، سواء ماليًا أو عسكريًا.
إعادة ترتيب
في هذا السياق، يمكن القول بأن الجولة الجديدة لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ومرتكزاتها في شمال غرب أفريقيا، وخاصة في موريتانيا والمغرب، فضلًا عن تونس، ترتبط بسياقين أساسيين: أولهما، يتعلق بمحاولة موسكو إعادة ترتيب سياساتها الخارجية ونطاق تواجدها في العالم، وهو ما ركزت عليه في الآونة الأخيرة لمنافسة الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وخاصة فرنسا، في منطقة الساحل الأفريقي، وغرب أفريقيا عمومًا.. ويأتي الثاني، مُرتبطًا بالسعي الروسي لتنشيط علاقاتها مع دول شمال غرب أفريقيا، “العربية”، في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية.
من هنا، فإن نقطة تقاطع هذين السياقين، تستند إلى السعي الروسي في تشكيل “أجندة” دولية وإقليمية، من خلال جولات لافروف الأفريقية، والثانية منها بوجه خاص، لتقديم رؤيتها للنظام الدولي الجديد؛ حيث تسعى إلى بلورة علاقات قوية مع تلك الدول المهمة في منطقة شمال غرب أفريقيا.. ليكتمل بذلك التمدد الروسي عبر شمال أفريقيا، من البحر الأحمر شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، وصولًا إلى امتداد منطقة الساحل الأفريقي من تشاد وحتى موريتانيا.