مختارات

هل تحوّل الحرب الأوكرانية أوروبا إلى قارة فاشلة؟

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن صحيفة عُمان

حسين عبد الغني

 

 

 

وهي تقترب من دخول عامها الثاني، تشير كل المؤشرات في الحرب الأوكرانية إلي مزيد من التصعيد في الحرب بالأسلحة التقليدية.

ويجعل هذا التصعيد كما يقول معهد استوكهولم لأبحاث السلام خطر وقوع الحرب النووية بين روسيا والولايات المتحدة في أعلى مستوياته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وسواء بقي التصعيد في مجال الأسلحة التقليدية أو تجاوزها إلى الجنون النووي فإن الحرب مرشحة لمزيد من التغييرات العميقة في توازنات القارة الأوروبية التي جعلتها تنعم بالسلام، القارة “المختلفة” التي عرفها العالم بعد الحرب العالمية الثانية وبالتحديد بعد مشروع مارشال للمساعدات الاقتصادية الذي استخدمته أوروبا أفضل استخدام للخروج من حالة الدمار الشامل التي كانت أوصلته إليها حربين عالميتين قامت أوروبا بإشعالها في العالم كله وكانت هي أول من يحترق بها في مدة تقل عن ثلاثة عقود بين نهاية الحرب العالمية الأولى ١٩١٨، وبداية الحرب العالمية الثانية ١٩٣٩.

عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها كانت القوى الأوروبية الكبرى قد تحولت إلى قوة دولية من الدرجة الثانية وتركت القارة العجوز مقعد القيادة العالمية الذي شغلته في القرون الثلاثة السابقة إلى الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق.

وكان حال هذه القوى “بريطانيا وفرنسا” وباقي أوروبا دولا اقتصادها منهار وبنيتها التحتية مدمرة ومصانعها في أضعف طاقاتها الإنتاجية تموج بعشرات الملايين اللاجئين الأوروبيين الهائمين على وجوههم وتضرب المجاعات والأوبئة سكانها.

الحرب العالمية الثانية
الحرب العالمية الثانية

تأمل الأوروبيون أحوالهم منذ أواخر القرن الخامس عشر؛ فوجدوا أن الحروب على الموارد والمستعمرات وعلى الهيمنة على القارة والعالم إضافة إلى الحروب الدينية بين الكاثوليكية والأرثوذكسية وبين الكاثوليكية والبروتستانتية وبين الدول الأوروبية والإمبراطورية العثمانية الإسلامية قد دمرت القارة.

قررت هذه الدول ـ رغم الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقية وأسطورة الستار الحديدي ـ أن تقوم بحل مشكلاتها سلميا والتخلي عن الحرب كوسيلة لحل الصراعات ورفع الدولة القومية أو الوطنية الحديثة فوق الصراعات العرقية والدينية والمذهبية وصراعات الحدود والجيوبولتكس.

وكان الحل العبقري الذي توصلت إليه هو “تحييد مناطق التماس المفجرة الحروب الأوروبية أي تلك المجاورة للقوى الأوروبية الأربعة الكبرى “بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا”.

فتم تحييد عسكري كامل لكل من فنلندا والسويد وايرلندا في أطراف القارة والنمسا وسويسرا في أواسط القارة وتهدئة بارود الأزمات المسمى بمنطقة البلقان، وتفرغت أوروبا للتنمية والتفوق التكنولوجي والتسابق في تحسين جودة الحياة وتقديم الخدمات العامة لمواطنيها وعرفت أوروبا غربا وشمالا على الأقل دولة الرفاهة وانتقلت في مجموعها إلى ما بات يعرف بالدول المتقدمة Developed Countries أو دول العالم الأول مع أمريكا وكندا واستراليا ونيوزيلندا واليابان. وبدلا من أن تكون بلادا طاردة ومصدرة للهجرة انقلب الحال وباتت دولا مستقبلة للهجرة وحلما لمواطني العالم الثالث Under developed Countries.

بعد ذلك عشنا وهم إعادة كتابة التاريخ الأوروبي بأنها كانت دوما قارة السلام وعشنا معها مصاحبة لها ثقافة التعالي على تخلف الجنوب الذي مازال يلجأ إلى الحروب لحل نزاعاته

الحرب العالمية الثانية

وسادت وهيمنت سردية وصف الغرب الأوروبي لدول العالم الثالث بل قارات بأكملها مثل إفريقيا بأنها قارات فاشلة من زاوية عجزها عن تجاوز الإرث التاريخي للحروب ومشكلات الحدود أو الحروب العرقية والمذهبية والقبلية كما في رواندا والسودان ولم تفعل كما فعلت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية بفكرة التزام الحياد العسكري من الدول الأصغر المجاورة للقوى الأوروبية الأربعة الكبرى المشار إليها فباتت تعمل كجدار عازل مانع للمواجهة المباشرة بين الشرق والغرب الأوروبي.

وأضافت إليها بعد ١٩٧٥، إطار هلسنكي للتعاون والأمن الأوروبي فكرة بناء التفاهم والتعاون الاقتصادي مع روسيا بدلا من الحرب الباردة .

كل هذا الإنجاز الأوروبي مرشح بعد تطورات الحرب الأوكرانية إلي انهيار شامل وباتت القارة العجوز مرشحة للعودة إلى وضعها القديم كقارة مشعلة ومصدرة للحروب لا تكاد تنتهي من واحدة منها حتى تدخل في أخرى أي أنها قد تكون في وقت ما بعيد نسبيا قارة فاشلة مثلما وصفت هي إفريقيا وقارات الجنوب الأخرى.

يمكن إجمال هذه التطورات التي تعتبر بمثابة انقلاب شامل على صيغة الأمن الأوروبي في الـ ٧٧ عاما الأخيرة فيما يلي:

سقوط حالة الحياد التي أنهت حروبا مزمنة استمرت قرونا في أوروبا:

باندفاع السويد وفنلندا إلى تزويد أوكرانيا بالسلاح والمشاركة في العقوبات الاقتصادية على روسيا وإعلانها الفعلي عن التخلي عن وضع الحياد التاريخي بطلب الانضمام لحلف الناتو كسرت كل التابوهات السابقة التي كانت تمنع الحرب مع روسيا والذي ضمن السلام الأوروبي في العقود السبعة الماضية. وعندما يضاف ذلك إلى توسع الناتو شرقا بعشر دول بما في ذلك دول لديها عداوات تاريخية متأصلة مع روسيا مثل بولندا، فإن ما حدث هو إحياء كل العداوات القديمة ومشاعر الكراهية بين روسيا وفنلندا “تاريخ فنلندا يمكن اختصاره بشكل مبسط بأنه صراع روسيا والسويد على الهيمنة عليها في مرحلة تاريخية وصراع روسيا وألمانيا للسيطرة عليها في مرحلة لاحقة”.

اتفاقية هلسنكي
اتفاقية هلسنكي

إحياء كراهية الصراع التاريخي بين السويد وروسيا الذي شهد تبادل في سيطرتهم على مناطق في اسكندنافيا ومناطق في بحر البلطيق. إحياء كراهية الصراع التاريخي بين بولندا وروسيا وتبادلهما احتلال بعضهما البعض في أوقات مختلفة من التاريخ. الأخطر هو إحياء الكراهية والصراع التاريخي بين العملاقين الروسي والألماني مع سقوط سياسة الانفتاح شرقا على روسيا التي بدأها العبقري مستشار ألمانيا ويلي برانت منذ ١٩٦٩، وواصلها بعده مستشارون كبار من وزن شرودر وميركل. هذا المخزون من الكراهية وإرث العداوات بين هذه الشعوب وروسيا إذا استمر الانفلات الحالي في إطلاقه من عقاله ومع وجود السلاح النووي ينذر بأن حرب أوكرانيا التي ستنتهي في يوم ما ستخلف وراءها عشرات الحروب الجاهزة للاشتعال في اوروبا.

إحياء العسكرية الألمانية

إذا كان هناك من خبرة للحربين العالميتين الأولى والثانية تم استخلاصها هو أن كلا من ألمانيا واليابان مهيآن على نحو خاص لاستعادة الروح العسكرية الشوڤينية وأن كبح جماح قوتهما ومنعهما من شن الحرب عندما تصلان مع هذه الروح إلى تقدم اقتصادي وتقني هو من أصعب المهام. وفي حال ألمانيا بما أن الحديث هنا عن أثر حرب أوكرانيا في إعادة خلق أوروبا القديمة المسكونة بالتوترات ومصادر الصراعات المسلحة فإن عودة العسكرية الألمانية التي عبرت عنها النازية أسوا تعبير ليست مستبعدة تماما ليس فقط للصعود في التيار النازي في ألمانيا من جديد خاصة بعد تدفق المهاجرين من سوريا وغيرها في السنوات العشر الأخيرة ولكن أيضا للتغير الخطير الذي لحق بالسياسة الدفاعية الألمانية.

إذ تخلت أمريكا وباقي أوروبا عن سياسة احتواء العملاق الألماني وجعل حضوره العسكري محدودا دائما وفي إطار الناتو والقواعد الأمريكية على الأراضي الألمانية دائما. على العكس تم السماح لبرلين بعد حرب أوكرانيا بتصدير السلاح لطرف يحارب روسيا ورفع قيمة الإنفاق على السلاح إلى٢٪ من الدخل القومي والإعلان عن بناء جيش ألماني كبير ومحترف مع إنفاق إضافي بمائة مليار يورو. من الذي يضمن مع مشاعر الكره التي أعيد تفجيرها ضد روسيا وتنامي القوى الشعبوية المتطرفة أن لا يصل إلي الحكم عبر انتخابات حرة ما يعرف بالحزب الديمقراطي الألماني النازي كما فعل هتلر عام ١٩٣٣، مطلقا الرايخ الثالث وواضعا الأساس للحرب العالمية الثانية.

هتلر

تدمير أسس الازدهار الاقتصادي والصناعي الأوروبي في الخمسة عقود الأخيرة:

من المعترف به أن جزءا لا بأس به من المعجزة الاقتصادية والصناعية الأوروبية عموما والألمانية خصوصا في العقود الخمسة الأخيرة كان نتاج الانفتاح شرقا على روسيا والتعاون اقتصاديا معها خاصة في الاعتماد الكبير على موارد الطاقة الروسية الرخيصة من الغاز الطبيعي والنفط. هذه الطاقة الرخيصة كانت وراء المكاسب الهائلة لصناعة وصادرات السيارات وغيرها من صناعات ألمانيا الشهيرة إلي العالم كله. بفقدان هذه المصادر تدريجيا مع سياسة العقوبات والاستغناء عن الطاقة الروسية الرخيصة والقريبة ستدخل الصناعة الأوروبية والتجارة المرتبطة بها وموازين التجارة ومعدلات النمو والتضخم في أوروبا مراحل غير إيجابية ستوقف عجلة النهوض الأوروبي وإذا ترافق ذلك مع استمرار صعود التيارات القومية المتطرفة التي باتت تهيمن على حكومات دول أوروبية مثل بولندا والسويد وإيطاليا والمجر… إلخ واحتمالات إحياء الروح العسكرية الكامنة في العملاق الألماني وترافق أيضا مع تأجيج مشاعر الكره التاريخية بين روسيا وشعوب ما لا يقل عن ثمانية دول في البلطيق وشمال أوروبا ووسطها فإن احتمالات سقوط أوروبا من جديد في هاوية الحروب داخل القارة لم يعد مستبعدا تماما، مما يصح معه الاستنتاج أن الولايات المتحدة التي دفعت أوروبا لهذا الموقف العدائي من روسيا بعد حرب أوكرانيا لا تمانع في سبيل إبقاء نفسها القوة العظمى الوحيدة في العالم بأن تعود أوروبا إلى حالة الحروب والدمار السابقة التي عرفتها قبل عام ١٩٤٥.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock