رؤى

الفقر والغنى في فكر وأدب “مصطفى صادق الرافعي” (2)

إنه من اللافت للنظر والداعي إلى التأمل، أن يكون ما صوَّره الرافعي في كتابه “المساكين” منذ أكثر من قرن من الزمان، ما زال هو أعظم ما تعاني منه البشرية إلى اليوم؛ فالفقراء والمساكين حول العالم باتت أعدادهم تقدَّر بالملايين، ومعنى ذلك أن الخلل في نظام الاجتماع الإنساني الذي أوضحه الرافعي من قبل؛ ما زال مستفحلًا في العالم بالرغم من التقدم التكنولوجي الملحوظ، ومن الطفرات العلمية الهائلة والسريعة، ومن الرخاء ورغد العيش الذي تتمتع به فئة محدودة من البشر. وربما السبب في ذلك يعود إلى الطغيان الذي مهَّد له النظام الرأسمالي العالمي، وإلى عدم توازن القوى العالمية في ظل احتكار قوة واحدة للسلطة في العالم؛ فلا يزيدها ذلك إلَّا استعلاءً في الأرض، ونهبًا للثروات، وتدميرًا للبلاد التي سلبتها حريتها، وقضت عليها بأن تكون تابعة لها تبعية عمياء مدى الحياة.

فهؤلاء الذين من ناحية يسرقون خيرات البلاد البعيدة عنهم، ومن ناحية أخرى يتباهون بتقديم المعونات للضحايا والأبرياء فيها، هم سبب ذلك الخلل الملحوظ في النظام العالمي؛ لأنهم لا يقبلون سوى بأن يكونوا بمفردهم في كفة مع أتباعهم وذيولهم، بينما بقية العالم في الكفة الأخرى، وهكذا يضمنون أن يظلوا هم الأقوى والأعظم نفوذًا، ومن ثم الأكبر والأضخم في السلطة والسيادة.

ومن هنا حدث ذلك الخلل في الموازنة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، فهذا الثقل في إحدى كفتي الميزان –وفقًا لوصف الرافعي– سواء خف أو ثقل لا يعني سوى السقوط للكفة الأخرى عديمة الثقل، إما سقوطًا لأسفل أو سقوطًا إلى فوق! وهذا هو حال القوة التي تأمر وتنهى ولا تسمح لغيرها سوى بالطاعة والامتثال لأوامرها وتوجيهاتها، فهي بكل جبروت تسمو بنفسها إلى مرتبة الألوهية التي لا تقبل سوى بالخنوع والخضوع والاستسلام التام.

ولن يتم علاج ذلك الخلل إلَّا بالوقوف أمام ذلك الطغيان والتلاحم من أجل القضاء على قوته التي استعلت وتجبرت واستفحلت شرورها حتى بات الضعفاء هم الثروة الحية لكل مستبد، والتي لا تنمو وتتضاعف إلَّا بازدياد عدد الضعفاء والمحتاجين. ولكن للأسف كلما اشتعلت أية ثورة من أجل البائسين والمساكين لا تلبث إلَّا أن تخمد؛ حتى يظن طغاة الأرض أنها لن تتأجج مرة أخرى إما من فرط الألم والمعاناة أو بسبب الخوف واليأس، ولكن الحرية كما يصفها الرافعي هي فطرة كل إنسان عاقل ولا يمكن انتزاعها من ضميره إلَّا بانتزاع روحه من جسده؛ فتعود الروح للحرية مرة أخرى غير عابئة بفناء الجسد الميت.

فهل آن الأوان لكل فقير وضعيف للخروج من تلك العزلة، التي فرضها عليهم الأغنياء والطغاة؛ حتى صاروا ناقمين على الحياة برمتها؛ في ظل تلك الحالة المزرية لحاضرهم وذلك الوضع الممقوت لمستقبلهم، فيعلنون دون خوف أو تردد رفضهم لإهمالهم وتجاهلهم وقتلهم قتلًا جماعيًّا بهذا البطء وتلك الخسة؟

إن الحقير كما يصفه الرافعي هو من لا يوقِّر أبدًا إلَّا من هو فوقه، وكأنه لا يرى في الدنيا كلها من هو أسفل من نفسه! وأفقر الفقراء ليس هو من لا يجد غذاء بطنه وجسده بل هو من لا يستطيع أن يجد غذاء شعوره وروحه. وأصحاب الضمائر الميتة مهما تعاظمت ثرواتهم وأموالهم لن تتجاوز سعادتهم جوارحهم وحواسهم الظاهرة، فبالرغم من تمكنهم من شراء كل ما تشتهيه تلك الحواس إلَّا أن قلوبهم لن تسعد بشيء من النعم أو تتلمس أي معنى للخير ما داموا يعيشون في معزل عن الحق والعدل والفضيلة والأخلاق والضمير.

ومثلما تمنع المعدة المريضة صاحبها من التلذذ بأطيب الأطعمة، فإن موت الضمير وقسوة القلوب يحولان دون شعور النفس بالسعادة ولا يفيضان سوى بالتعاسة والضجر والشقاء؛ وذلك لأن كل شيء إنساني – مثلما أوضح الرافعي– لابد فيه من حقيقة باطنة في نفس الإنسان تعطيه بصحتها أو مرضها قوة اللذة أو الألم، وتلك هي الحكمة الإلهية والعدل الإلهي فلا يكون هناك فرق بين الغني والفقير ما دام لكل منهما لذة و ألم؛ إذ أنهما هما التعبير الحقيقي عن السعادة وليس كثرة الأموال أو قلتها. وذلك هو تفسير ما نراه من تعاسة نفسية لبعض الأثرياء دون أي تمتع بلذة الغِنى شأنهم شأن أفقر الناس ممَّن يعانون من الألم النفسي للفقر.

فما السبب إذن وراء ما يعانيه كثير من الفقراء من ازدياد الألم من الفقر؟

إن الرافعي يرجع سبب ذلك إلى طبيعة الخوف المتمكنة من البشر والتي جعلتهم يتوهمون بخيالهم آفة أكبر من آفة الفقر التي يعانون منها؛ فيزداد ألمهم بسبب تفكيرهم في شيء موهوم. أي إنهم إذا كانوا يقيسون حاضرهم على ماضيهم وماضي غيرهم من الفقراء ويقيسون مستقبلهم على حاضر غيرهم من الأغنياء فسيظل كل منهم يتمنى أكثر مما يستحق؛ ومن ثم سيتألم بأكثر مما يستحق. وهذا التفكير بتلك الطريقة ليس سوى استغراق في الأوهام، وتضييع لقوة الإرادة، وتكاسل عن العمل وبذل المجهود اللذيْن هما المعنى الحقيقي للغِنى. فأن تبذل كل ما في وسعك ثم ترضى بما قُسِم لك من رزق هو ما يمنح الراحة لضميرك والسكينة لنفسك فتخف بذلك حدة الألم المادي باختفاء الألم المعنوي.

فماذا إذن عما يسميه الناس حظوظ الدنيا؟ إنه ليس فقط ما قُسِم لكل إنسان من صحة وقوة بدنية، ومن متاع الدنيا وزينتها من مال وبنين؛ ولكنه أيضًا ما يتمتع به كل فرد من عقل مفكر، وقلب رحيم، وضمير يقظ، وأخلاق نبيلة، وروح حرة، وكل ذلك هو ما يمنح الإنسان السلامة النفسية والسكينة.

أما ما اعتاد أن يسميه الناس الحظ فهو في حقيقة الأمر يرادف التوفيق، فعلى لسان الشيخ علي يوضح لنا الرافعي في كتابه “المساكين” أن من لم يكن كفؤًا لما يناله هلك بما يناله؛ ومن ثم فالتوفيق هو أن لا يكون لك إلَّا ما تصلح له، ولذلك عندما يعي الإنسان ما هو الصالح له فسيرضى بما قُسِم له ولن يحزن على مافاته وليس من نصيبه حتى لو لم يدرك حكمة المنع في حينها؛ فإيمانه بحكمة مقسِّم الأرزاق هو الذي سيُدخل على قلبه ونفسه الطمأنينة والرضا. وتلك الحالة من الرضا والطمأنينة كفيلة بأن يستمتع الإنسان بحياته دون ضجر أو سخط، وتلك هي السعادة الحقيقية النابعة من داخل الإنسان ولا دخل لما يحيط به من خارج نفسه بزيادتها أو نقصانها أو بوجودها من عدمه.

كما تعرَّض الرافعي في كتابه (المساكين) لموضوع الربا ووصفه بالرذيلة الاجتماعية، وأوضح أن من دلائل ضعف النفس البشرية أمام إغواء المال هو إقبالها الشره على الربا والتمادي في المعاملات القائمة عليه في غفلة للضمير وتغييب للفضيلة. فالربا لا يتسبب فقط في إفساد المجتمع لما ينتج عنه من انتفاع بفقر الفقراء واستغلال لظروفهم القاسية؛ بل إنه أيضًا يأكل بلا رحمة ما يتبقى من الفقير بمضاعفة احتياجه والاستمرار في إرهاقه مما يتسبب في قتله اجتماعيًّا مرة أخرى.

وهكذا لا يجد الفقير أمامه إلَّا أن يتنكر له الغَني البخيل أو أن يُقرضه الغَني اللئيم؛ فيشدُّه كلاهما بعيدًا عن الفضيلة التي هي من نور الله، فإذا به يتوه بين أوهام الدنيا وضلالاتها حتى تنتهي حياته وهو لا يدري كيف أمضاها. آنذاك لا تبقى سوى العِبرة لمن أراد أن يعتبر فيشهد من بقي حيًّا على موت الأحياء حاملًا إياهم إلى حفر قبورهم مثلما يشهد على أهل الرذائل والمنكرات من أحياء الأموات حاملًا في نفسه وذاكرته ما بقي من أخبارهم بعدما تساوى كل من رقدوا في قبورهم فلم يعد هناك فرق بين غني وفقير أو بين سيد وحقير.

فهل بعد الموت سيكون للغَني أي انتفاع بماله مهما كثر؟ أم سيكون هناك أي بقاء للألم الذي تكبده الفقير من فرط حاجته وفاقته؟ وهل حقًّا العمل والسعي الذي كرَّس الإنسان حياته لهما سيلازمانه كظله حتى بعد موته؟ وهل بعد الموت من الممكن أن يكون في القبر أي معنى للسعادة أو الألم أو الغنى أو الفقر؟

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock