رغم أن حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة قد انتهت ولايتها “محليًا” بانتخاب حكومة باشأغا من قبل مجلس النواب، و”دوليًا” بانتهاء اتفاق جنيف، يوم 21 يونيو 2022، وفق خريطة الطريق التي تولى بموجبها عبد الحميد الدبيبة حكومة الوحدة الوطنية.. إلا أن الأخير رفض التخلي عن السلطة لحكومة باشأغا، التي ماتزال تحاول ممارسة مهامها من مدينة سرت، بعد تأكيد الدبيبة أنه لن يسلم السلطة إلا بعد إجراء الانتخابات.
في ظل هذا الانقسام السياسي، ليس من الواضح ما إذا كانت المؤسسات الرسمية الليبية سوف تستمر في التعاطي والتعامل مع حكومة الدبيبة، خاصة أن الأوضاع الميدانية توحي باحتمال تصادم عسكري جديد؛ في ظل انتشار الميليشيات الموالية للدبيبة في شوارع العاصمة طرابلس ومداخلها الرئيسة.
انقسامات سياسية
هكذا، تجد ليبيا نفسها من جديد أمام مشهد مشابه لما كان عليه الحال عام 2015، حكومتان على الأرض لكل منهما جناح عسكري؛ وهو ما يدفع إلى التأزم والاحتقان، خاصة بعد إخفاق محادثات القاهرة، المتتالية، في التوصل إلى قاعدة دستورية توافقية، تعبر بالبلاد إلى ضفة التحول الديمقراطي، عبر الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
وكانت الأطراف السياسية الليبية قد اتفقت، بجنيف في نوفمبر 2020، على الذهاب بالبلاد نحو انتخابات وطنية، كان من المقرر أن تُجرى في 24 ديسمبر الماضي، عام 2021، لإنهاء الانقسامات السياسية والصراعات الأمنية التي تعصف بالساحة الليبية، منذ انهيار نظام معمر القذافي في عام 2011؛ إلا أن هذه الانتخابات لم تتم في الموعد المحدد لها، بسبب ما وصِف بـ”القوة القاهرة”.
رغم ذلك، ورغم ما يبدو من توافق بين الدول الغربية الخمس، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، على ضرورة إنهاء المرحلة الانتقالية التي تمر بها الساحة الليبية.. إلا أن هذا التوافق لا يلغي وجود قدر من التنافس بينها بخصوص المصالح الاستراتيجية لكل منها على هذه الساحة.
مقاربات أوروبية
ويتبدى هذا التنافس عبر المقاربات الأوروبية في التعامل مع الأزمة، كما يلي:
فمن جهة، وفي إطار تراجع الدور الأمريكي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نتيجة الاهتمام بما يحدث في شرق أوروبا، وتوجه النظر الأمريكي إلى آسيا، لا يُتَوَقع للولايات المتحدة، في ظل إدارة بايدن، تقديم رؤى استراتيجية حول ليبيا. وفي ما يبدو، فإن الولايات المتحدة تركت المسألة برمتها إلى الاتحاد الأوروبي، فيما يشبه تاريخيًا تخلي القوى الكبرى (بريطانيا، فرنسا)، عن دورها، بعد الحرب العالمية الثانية، لصالح أمريكا في منطقة الشرق الأوسط.. من منظور أن الولايات المتحدة تثق كثيرًا في إيطاليا، كدولة تُعتبر “حليفًا وشريكًا استراتيجيًا” لليبيا، حيث تتوغل إيطاليا هناك عبر شركة “إيني” الإيطالية الحكومية.
ولعل هذا نفسه ما يوضح “أحد الأسباب المُهمة” في تمديد مجلس الأمن الدولي “عملية إيريني”، منذ الجمعة 3 يونيو الماضي، التي تعمل في قلب البحر الأبيض المتوسط، وتتمثل مهمتها الرئيسة في دعم تنفيذ حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا، وتسهم في الحد من تهريب النفط غير المشروع، والإتجار بالبشر.
و تتخذ عملية إيريني من روما مقرًا لقيادتها، وكانت قد انطلقت، في 4 مايو 2020، بحصولها على الضوء الأخضر من الاتحاد الأوروبي.
من جهة أخرى، طموحات بريطانيا بالعودة إلى شمال أفريقيا من البوابة الليبية، حيث تُريد لشركاتها ومستثمريها أن يكون لهم موطئ قدم في بلد به فرص جيدة للاستثمار، في حال توافر الأمن. ومن ثم، لا مناص لبريطانيا من أن تكون شريكًا في صناعة الحد الأدنى من الاستقرار في ليبيا. وفي هذا الإطار، تأتي إعادة الافتتاح الرسمي للسفارة البريطانية في العاصمة طرابلس، في 4 يونيو الماضي؛ كما يأتي العمل البريطاني على بناء قاعدة استطلاع في القاعدة الجوية في مصراتة، بالتعاون الوثيق مع إيطاليا.
أيضًا، هناك التنافس الفرنسي الإيطالي في ليبيا، خاصة أن فرنسا تعتبر ليبيا المدخل الرئيس لها بالعمق الأفريقي، وذلك في محاولة استغلال إرث القذافي السابق بأفريقيا، وما خلفته ليبيا بالقارة السمراء من استثمارات ضخمة؛ هذا، فضلًا عن أنها البلد الذي كان محتلًا للجنوب الليبي، ويعرف خبايا تلك المنطقة وكيفية التعامل مع القادة المحليين، من تبو وعرب وطوارق، وخلق فراغات بين هذه المكونات للاستفادة منها. حيث تحاول فرنسا أن تستخدم الملف الليبي لصالح مشروعها الاقتصادي والأمني بأفريقيا.
وتأتي زيارة جورجيا ميلوني، رئيسة الوزراء الإيطالية إلى ليبيا، في 28 يناير الماضي، في سياق هذا التنافس على النفوذ في ليبيا؛ خاصة إذا لاحظنا أنه لم يكن من المصادفة أن تُشرف ميلوني بنفسها على توقيع الاتفاق بين شركة “إيني” ومؤسسة النفط الليبية، لمدة 25 عاما وبقيمة ثمانية مليارات دولار، ويتضمن توسيع نشاط شركة إيني لزيادة القدرة الإنتاجية لحقلين بحريين للغاز إلى نحو ثمانمئة مليون قدم مكعب.
من جهة أخيرة، يأتي الطموح الألماني في المنافسة الاقتصادية، والدخول كشريك مهم لأفريقيا عبر ليبيا، ومنافسة الصين التي تعمل بصمت تام في مناطق نفوذ الغرب القديم؛ هذا، رغم أن ألمانيا ليس لها إرث استعماري بالمنطقة، وسياستها الخارجية تجاه ليبيا، والشمال الأفريقي عمومًا، محدودة الطموح؛ حيث تتركز رؤيتها الخارجية على شرق أوروبا الذي يمثل مجالها الحيوي الأهم؛ خاصة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
ويبقى بعد ذلك، التوجه الروسي في التواجد المتوسطي، عبر محور “سوريا – ليبيا”؛ إلا أنه، وبعد الحرب الروسية في أوكرانيا، لا يبدو أن ثمة مقاربات سياسية ذات ملامح عقابية يستطيع بها الاتحاد الأوروبي ردع روسيا في الوقت الحالي، فالأوراق المتناثرة بين الفريقين بسوريا وإيران والعراق ولبنان، وليبيا، لا تسمح لأي منهما أن يكون الفائز الأوحد، إنها أشبه بسايكس بيكو غير معلنة، لا تفرضها المفاوضات بعد حروب منهكة، بل يفرضها الاقتصاد المنهك واختبار أي الطرفين أقدر على تحمل تبعات التحرك العسكري.
أما الدول الأخرى، مثل تركيا التي أقرت بقاء قواتها العسكرية في ليبيا ثمانية عشر شهرًا أخرى؛ أو إسبانيا التي تحاول الدخول على خط الأزمة الليبية، بسبب ملف الطاقة.. فإن مدى تأثيرها في تفاعلات الأزمة الليبية يظل محدودًا، خصوصًا في ظل التنافس القوي معها من جانب القوى الإقليمية، خصوصا مصر والجزائر.
مواقف متباينة
في هذا السياق، يمكن القول بأن ثمة مواقف متباينة لكبرى دول الاتحاد الأوروبي في ليبيا، وهي سياسات جزئية متعارضة في ما بينها، تستخدم فيها كل دولة قدرتها لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة. ومن ثم، ستظل ليبيا المجال الحيوي لصراع الدول الأوروبية الكبرى الأربعة: إيطاليا، بريطانيا، ألمانيا.. وفرنسا، إضافة قطعًا إلى الولايات المتحدة، وروسيا.
ولعل ذلك ما يساعد حكومة الدبيبة، المنتهية ولايتها، في استغلال تذبذب الموقف الدولي المتأثر بالحرب الروسية في أوكرانيا، التي ألقت بظلالها على الملف الليبي في أروقة مجلس الأمن الدولي؛ حيث يبدو الانقسام بوضوح بين التكتل “الروسي الصيني” وبين التحالف “الأمريكي البريطاني الفرنسي”.