فجّر ترحيل الناشطة السياسية الجزائرية أميرة بوراوي من تونس باتجاه فرنسا – جدلًا واسعًا حول مستقبل العلاقات التونسية/الجزائرية، خاصة بعد استدعاء الجزائر لسفيرها في فرنسا للتشاور، واحتجاجها رسميًا على ترحيل المواطنة الجزائرية المطلوبة للعدالة في بلدها.
ولئن لم تأت مختلف البيانات الصادرة عن الخارجية الجزائرية على ذكر تونس، فإن ترحيل بوراوي سيكون له تداعيات على العلاقات بين الجارتين في شمال أفريقيا. يأتي هذا رغم أن تونس، مع ما تمر به من أزمة اقتصادية خانقة، ومع احتياجها لفرنسا لدعمها في الحصول على تمويلات أجنبية لميزانيتها التي تواجه صعوبات كبرى – قد اختارت أقل الأضرار وعزلت وزير خارجيتها، عثمان الجرندي، للتخفيف من التوتر.
منحنى العلاقات
هذا، وإن كان يُفسر “سكوت” رئاسة الجمهورية التونسية، وعدم إصدار أي بيان حول هذه القضية؛ إلا أنه، في الوقت نفسه، يُشير، حسب رأي البعض، إلى الموقف القانوني لتونس، حيث إن بوراوي تقدمت بجواز سفر “فرنسي”، وبالتالي سُمِحَ لها بالسفر.
رغم ذلك، لم تكتف الجزائر بتشديد المُراقبة على المعابر الحدودية البرية، التي تربط بينها وبين تونس، ولكن وسعت من إجراءاتها ضد هذه الأخيرة، لتشمل أمنها الطاقي. فقد ذكرت إذاعة “موزاييك”، في 15 فبراير، نقلًا عن مدير شركة بيع قوارير الغاز بالجملة بولاية القصرين، مبروك الحامدي، أن “الشاحنات المعنية بتوريد قوارير الغاز من الجزائر، لم تزوّد بهذه المادة القادمة من البلد الجار منذ يوم الخميس المنصرم (9 فبراير)..”.
وفي ما يبدو.. فإن منحنى العلاقات بين تونس والجزائر يسير على وتيرة من التردد بين الصعود والهبوط، وتستخدم فيه الجزائر إمكاناتها، الخاصة بقطاع الطاقة، في محاولة التأثير على توجهات السياسة الخارجية التونسية.
يتبدى ذلك بوضوح عبر ملاحظة التغير في الموقف الجزائري مما يدور في الداخل التونسي؛ إذ، يؤشر هذا التغير إلى قيام الجزائر بـ”إجراء مراجعة سياسية” بشأن التطورات الجارية في تونس؛ فضلًا عن “إعادة تقدير الموقف” بخصوص الاختلاف الحاصل بينهما إلى درجة التناقض تجاه بعض القضايا الإقليمية، وفي مقدمتها الأزمة الليبية التي تشكل حجر الزاوية في الدائرة الأمنية الجزائرية (المواقف المتناقضة تجاه رئيس الحكومة المكلف من قبل البرلمان الليبي، فتحي باشاغا.. مجرد مثال)؛ إضافة إلى ملف قضية الصحراء الغربية، الذي يتسبب في الصراع الدائر بين الجزائر وجارتها من الجهة الأخرى.. المغرب.
غاز الجزائر
بصرف النظر عما تمثله الجوانب المُشار إليها، من قضايا سياسية مؤثرة في ما بين الإدراة الجزائرية ونظيرتها في تونس، خاصة أن ثمة اختلافات بينهما حولها.. يأتي الغاز الجزائري ليمثل العصب الرئيس الذي تستند إليه التفاعلات بين الجارتين المتجاورتين.
ونتيجة لمضاعفة الجزائر لسعر الغاز، على خلفية تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، فإن تونس، التي تعتمد بنسبة 99 % على الغاز الطبيعي في إنتاج الطاقة الكهربائية مهددة بأزمة، بحسب تصريحات الكاتب العام لجامعة الكهرباء والغاز، عبد القادر الجلاصي، إلى موقع “سبوتنيك” الإخباري؛ حيث تستورد البلاد ما يُقارب 65 % من الغاز الطبيعي من الجزائر، لسد حاجتها الضرورية لإنتاج الطاقة، في ظل انحسار الإنتاج المحلي في حدود 35 %، بحسب الموقع الرسمي لوزارة الصناعة والمناجم والطاقة في تونس.
ومع التضاعف الحاصل في استهلاك التونسيين للطاقة الكهربائية، بما يعني اللجوء إلى طلب كميات إضافية من الغاز الجزائري، تتبدى الإشكالية نتيجة رفع الجزائر لأسعار الغاز إلى الضعف، وتزايد الطلب على الغاز الجزائري خاصة من الدول الأوروبية.
ويؤكد بلحسن شيبوب، مدير عام الكهرباء بوزارة الصناعة والمناجم والطاقة في تونس، في تصريحات له، منذ أكثر من ثمانية أشهر، في مايو 2022، على أن فاتورة عمليات شراء تونس للغاز من سوناطراك الجزائرية، تُقدر بنحو مليار دولار تبعًا لاتفاق الأسعار التفاضلية مع الجزائر؛ ولكنها قد تصل إلى 1.5 مليار دولار في ظل الارتفاع الحاد للأسعار العالمية، إذا اعتمدت من جانب الجزائر.
واردات تونس
يتمثل الإشكال الأكبر في ملف الغاز الجزائري، أن تونس لا تمتلك بديلًا آخر في الوقت الراهن على الأقل، خصوصًا في ظل تقلص الاكتشافات لحقول الغاز، وغياب برنامج لإعادة جلب المستثمرين في مجال الطاقة. هذا فضلا عن أن مهمة البحث عن أسواق جديدة خارج “الاحتمال الجزائري”، تبدو صعبة مع تضاعف تكلفة النقل عشر مرات خلال العامين الأخيرين.
وقد توصلت شركة الكهرباء والغاز التونسية، مع سوناطراك الجزائرية، في يناير 2020، إلى تمديد الاتفاقية المبرمة بين البلدين في مارس 1997، وهو الاتفاق الذي تقرر بموجبه تزويد تونس بالغاز الطبيعي حتى عام 2027.
وتجدر الإشارة إلى أن الكميات التي تحصل عليها تونس من الغاز الجزائري، تأتي عبر وسائل ثلاث: الأولى، كمية عن طريق العقد الموقع مع عملاق الطاقة الجزائري، سوناطراك.. والأخرى، كمية في مقابل مرور أنبوب الغاز الجزائري “ترانسماد” عبر أراضيها.. والأخيرة، عن طريق كمية إضافية خارج إطار التعاقد.
أنبوب “ترانسماد”
يمر أنبوب الغاز الجزائري، هذا، عبر الأراضي التونسية، بطول يصل إلى 2485 كيلو متر، وبقدرة نقل تصل إلى 33.7 مليار متر مكعب، ويضمن تزويد ثلاث دول، هي تونس وإيطاليا وسلوفينيا، بالغاز الطبيعي. وبموجب الاتفاقية الجديدة التي وقع عليها، في 11 أبريل الماضي، 2022، بين شركتي إيني الإيطالية وسوناطراك الجزائرية، بمناسبة زيارة رئيس الوزراء الإيطالي، ماريو دراغي، إلى الجزائر.. سوف تحصل إيطاليا على كميات إضافية من الغاز الجزائري، تصل إلى 9 مليارات متر مكعب سنويًا؛ بما يعني زيادة صادرات الجزائر من الغاز الطبيعي إلى إيطاليا بنحو 50 %.
ومن حيث إن تونس هي الممر الاستراتيجي لأنبوب ترانسماد، الذي دُشن عام 1984، ويعبر تونس والبحر المتوسط وصولًا إلى جزيرة صقلية.. يضمن الاتفاق رفع حصة تونس من الرسوم الإجمالية على الغاز الجزائري (المحددة بـ 25.5 % من الغاز المنقول عبر الأراضي التونسية)، والتي تقدر حاليًا بمقدار 19.4 مليار متر مكعب؛ بما يعظم من المكاسب التونسية.
نقطة الارتكاز
خلاصة القول، أن إمدادات الغاز، تأتي ضمن أهم المؤثرات على مسار العلاقات التونسية الجزائرية؛ خاصة أنها أدوات تبعث من خلالها الجزائر بما تراه مناسبًا من رسائل سياسية إلى الإدارة التونسية.
والملاحظ، تبعًا لمؤشرات مسار منحنى العلاقات اللافت، والواضح، بين الجارتين المتجاورتين، هو قيام الجزائر بـ”إجراء مراجعة سياسية” بشأن التطورات الجارية في تونس؛ فضلًا عن “إعادة تقدير الموقف” بخصوص الاختلاف الحاصل بينهما إلى درجة التناقض تجاه بعض القضايا الإقليمية.
ومع ذلك، يبقى ملف الغاز الجزائري هو “نقطة الارتكاز” التي تستند إليها العلاقات التونسية الجزائرية؛ بل، يُمثل العصب الرئيس في حسابات المكسب والخسارة بالنسبة إلى كل منهما، وفي التفاعلات الجارية بينهما.. وسوف يظل هكذا، ما لم تستخدمه الجزائر كـ”ورقة ضغط” تجاه بعض توجهات السياسة الخارجية التونسية، على المستوى الإقليمي.