بانقضاء الحقبة الاستعمارية وبروز التجربة الناصرية التي أنتجها تحول حركة الجيش في يوليو 1952، إلى ثورة شاملة امتد تأثيرها إلى عمق المجتمع المصري والعربي- تراجعت وانزوت بشكل كبير التيارات الإسلامية التي ضاقت أمامها سبل الانتشار بفعل عوامل عديدة، منها أن الدولة الوطنية الحديثة التي نفضت غبار عقود من الاحتلال – قد ارتأت التوجه شرقا، وتبني أيدولوجيات يسارية وقومية تحمل قيم الوحدة والعدل الاجتماعي، الذي ما لبث أن تُرجم عمليا في شكل قرارات وقوانين استفاد منها الغالبية العظمى من المصريين، بشكل لم يسمح بترك أي مساحة من الحركة لهذا التيار الذي أصبح في عزلة عن المجتمع لأسباب يتحمل هو أغلبها.
يعتبر التحول الأهم الذي أفاد منه التيار الإسلامي عموما والحركة السلفية على وجه الخصوص هو تلك الهزة العنيفة التي أصابت المجتمع المصري عقب الهزيمة المدوية في يونيو1967، تبددت الأحلام سدى وارتجت في العقول ثوابت كثيرة دأب النظام الناصري على ترسيخها، ورغم أن الدولة المصرية بما لها من خبرة ومقدرة استطاعت أن تتجاوز تلك المحنة في فترة زمنية قصيرة.. إلا أن شيئا ما كان قد تغيّر في الذهنية المصرية والوجدان المصري، ربما إلى الأبد.
جاء طوفان السبعينات حاملا معه عددا من المتغيرات العاتية التي اجتاحت المجتمع المصري، أهمها دعم نظام الرئيس السادات للتيارات الدينية بكافة أشكالها في مواجهة التيارات اليسارية والتيار القومي الناصري تحديدا، وازدهرت السلفية وتعددت ما بين تقليدية علمية، وجهادية وإصلاحية، وتمايزت الدعوة السلفية في الإسكندرية عن بقية الفصائل، ولم تقبل بالانضواء تحت جناح جماعة الإخوان التي تلقت الدعم الأكبر من النظام.
ورغم تعدد فصائل الحركة إلا أنها جميعا كانت تلتقي في الأصول والكليات، وتختلف في ترتيب الأولويات، وفيما تفرضه الظروف من مواءمات اعتمدت الأطراف جميعها حيالها القول المجمع عليه؛ بأن باب الاجتهاد لم يغلق بعد، وأنه مازال مفتوحا لمن وصل درجة الاجتهاد من العلماء العاملين.
بالتزامن مع ذلك كان لهجرة كثير من المصريين إلى منطقة الخليج، وللمملكة العربية تحديدا- أكبر الأثر في دعم الوجود السلفي في مصر.. ولا يخفى على أحد أن المملكة كانت قد آلت على نفسها في تلك الحقبة، نشر الفكر السلفي الوهابي في مصر والبلاد العربية، وأغدقت الأموال في سبيل تحقيق ذلك الهدف.. وكان من آثار ذلك أن اصطبغت السلفية المصرية بصبغة بدوية تعتمد التدين الشكلي والحرص على المظهر، مع تراجع كبير في الاتجاه العلمي الذي أسس له في الإسكندرية عدد من دعاتهم، تأثرا بالمدرسة السلفية الألبانية التي أسسها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في دمشق أواسط القرن الماضي، كامتداد لجهود سابقة في علوم الحديث والأثر.
عقب اغتيال الرئيس السادات -على أيدي أفراد ينتمون لجماعة الجهاد- تغيّر الوضع مجددا، وعادت التيارات الإسلامية إلى وضعيتها السابقة بعد ثورة يوليو.. وبعد عدد من المواجهات الدامية بين النظام والفصائل التي تبنت منهج العنف، والتي كانت ثمرة للفرز الذي حدث في الجامعات فترة السبعينات في صفوف الطلاب المنتمين إلى التيار الإسلامي.. والواقع أن جماعات العنف آنذاك مثلت الأساس للتحول الكبير الذي حدث بعد ذلك، وعُرفَ بالسلفية الجهادية.
عمل تيار السلفية التقليدية في مصر في تلك الفترة على عدم الصدام مع النظام، فمن خلال جماعة أنصار السنة وغيرها من الجماعات التي انبثقت عنها كجماعة دعوة الحق- اعتلى شيوخ السلفية المنابر، وعقدوا حلقات الدروس في المساجد التابعة لجمعياتهم، وكان واضحا جدا الابتعاد الكامل عن الخوض في أمور السياسة، والتأكيد من حين لآخر على وجوب طاعة أولي الأمر في كل الأحوال.. “..وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك” كما كان شائعا من أقوال في تلك الفترة، والواضح أيضا أن التفاهم مع الأجهزة المعنية وقيادات الحركة كان قد بلغ مداه، وقد كُشف عن عديد من تلك التفاهمات عقب أحداث يناير2011، وقد استفادت الحركة السلفية من انشغال جماعة الإخوان بالعمل السياسي، وانحسار اهتمامهم بالعمل الدعوي، كما أفادوا من التراجع الكبير الذي حدث للصوفية في مصر، وكان بفعل عوامل عديدة- في الانتشار والسيطرة واكتساب الأعوان؛ حتى صاروا يمثلون رقما صعبا في المجتمع المصري، وظهر ذلك جليا في أول انتخابات لمجلس الشعب عقب أحداث يناير2011، والتي جنى فيها التيار السلفي ربع مقاعد المجلس تقريبا، ولا يجب أن نغفل عما أحدثته القنوات الفضائية من أثر كبير في انتشار المد السلفي، وكان نظام مبارك قد سمح لهم بالعديد منها مثل الحكمة والحافظ والناس والرحمة وغيرها.
جاء الاندفاع السلفي للعمل السياسي عقب يناير2011، مباغتا للكثيرين، فشتان ما بين العزوف الكامل والانغماس الشامل، وبدا التيار الإسلامي نهما جدا لالتهام الكعكة كلها، وحدثت بعض تفاهمات؛ لتجاوز صدامات من شانها أن تصيب التيار ككل بالتراجع؛ إلا أن الأمور جرت على نحو متسارع، وحدث التشرذم مجددا عقب أحداث الثلاثين من يونيو.
إن الوضع الحالي للسلفية المصرية ما زال يؤكد أن الازمة ما زالت قائمة، أزمة تتمثل في مأزق التعامل مع الواقع السياسي الذي أوحل على نحو بدا دراماتيكيا، وكان التيار الإسلامي وفي القلب منه الدعوة السلفية أحد أهم الخاسرين، مأزق آخر يتعلق بالعلاقة بالمملكة العربية السعودية التي شهدت -هي الأخرى- تحولات كبيرة على مختلف الأصعدة؛ توشك أن تغير توجهات المملكة بالكلية تجاه العديد من القضايا.. ولاشك أن الارتباط الوثيق بين السلفية المصرية والمملكة والذي بدأ في منتصف العشرينات من القرن الماضي قد تأثر بشكل كبير بعاملين أساسيين هما التغير الحادث في طبيعة العلاقات بين البلدين، كذلك ما تتعرض له المملكة من أوضاع داخلية مضطربة، وتحديات إقليمية ودولية كبيرة.. ربما تفرض في وقت قريب واقعا مختلفا لا وجود فيه لدور سعودي داعم للدعوة السلفية في مصر، ولا غيرها.
ما يؤكد انقضاء هذا الدور تماما، وتحوله إلى جزء من تاريخ هذا التيار الذي يبدو أنه مازال عاجزا عن امتلاك أدوات ناجعة للمراجعة والتمحيص؛ ما يؤشر إلى تراجع كبير لها على كافة المستويات.