رؤى

الاهتمام الإيطالي.. بـ”مثلث” الأزمات العربية

في وقت تسعى فيه إيطاليا إلى تعزيز حضورها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خاصة مع تراجع الدور الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي، قامت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، في فترة زمنية لا تتجاوز “خمسة” أسابيع، بزيارة إلى ثلاث من الدول العربية، بينها اثنتان من دول الأزمات؛ العراق في 23 ديسمبر، وليبيا في 28 يناير، وبينهما الجزائر في 22 يناير.

ثم يأتي لقاء ميلوني بالرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، بالعاصمة الإيطالية روما، في 9 فبراير، لتكتمل دائرة الاهتمام الإيطالي بثلاث من دول الأزمات العربية؛ وهي الدائرة التي تكشف عن أهمية هذه الدول في توجهات السياسة الخارجية الإيطالية، ودوافع التقارب الإيطالي معها، خاصة أن هذه الدوافع تأتي في إطار تحركات روما لتعزيز دورها الخارجي، و”موازنة نفوذ” منافسيها الدوليين، خاصة فرنسا.

ملفات متشابكة

تأتي التحركات الإيطالية الأخيرة لتفعيل عدد من الملفات الحيوية، بالنسبة إلى السياسة الخارجية الإيطالية مع هذه الدول.. لعل أهمها ما يلي:

فهناك، تنويع الشراكات الإيطالية في قطاع الطاقة؛ فقد شكّل ملف الطاقة إحدى أولويات زيارة ميلوني إلى العراق، في ظل مساعٍ إيطالية لتنويع الشراكات في هذا القطاع؛ خاصة أن العراق يُعد سوقًا مهما للطاقة، حيث إنه من كبار منتجي النفط، ويعتزم خلال السنوات الأربع القادمة استغلال ثروته من الغاز، التي يُهدرها حرقًا جراء عدم امتلاكه المنشآت اللازمة لتحويله. ومن ثم، أرادت ميلوني أن تخص العراق بأول زيارة رسمية لها خارج أوروبا، لتعزيز الشراكة مع بغداد في قطاعي النفط والغاز. إذ، تشارك شركة النفط الإيطالية “إيني” في عمليات التنقيب والإنتاج في العراق، منذ أكثر من عشر سنوات، كما تؤكد الشركة على موقعها الرسمي.

ولا يتوقف الاهتمام الإيطالي بملف الطاقة عند حدود العراق، بل يتمدد ليصل إلى العاصمة الليبية طرابلس، نتيجة أن ليبيا هي أحد المصادر البديلة المتوقعة، لتوفير مصادر طاقة لإيطاليا، وأوروبا، كون أن ليبيا “غير خاضعة” لقرار منظمة أوبك القاضي بخفض الإنتاج النفطي. وبالتالي، لم يكن من المصادفة أن تُشرف ميلوني بنفسها على توقيع الاتفاق بين شركة “إيني” ومؤسسة النفط الليبية، لمدة 25 عامًا وبقيمة 8 مليارات دولار، ويتضمن توسيع نشاط شركة إيني لزيادة القدرة الإنتاجية لحقلين بحريين للغاز إلى نحو 800 مليون قدم مكعب؛ في حين أنها، كمثال، لم تُعِرْ نفس الاهتمام لتوقيع “اتفاق مكافحة الهجرة غير النظامية”، الذي وقع عليه في نفس اليوم، 28 يناير الفائت.

كما أن هناك، تعميق العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري؛ إذ ضمن أهم الأسباب التي دفعت جورجيا ميلوني، التي تقود ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، إلى زيارة العراق وليبيا، إضافة إلى الطاقة، يأتي الملف المتعلق بالعلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري.

بالنسبة إلى العراق، فقد أكدت ميلوني، أثناء زيارتها على اهتمام إيطاليا بتواجد شركاتها في العراق.  وبحسب ما يُشير السفير الإيطالي لدى بغداد، في حوار “سياساتي” الذي نظمته مؤسسة الشرق الأوسط للبحوث، في 17 فبراير 2022، فإن “العراق شريك استراتيجي لإيطاليا، وقبل ظهور جائحة كورونا كانت التجارة الثنائية 5 مليارات يورو، وزاد التبادل التجاري خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2021، بنسبة 36 % ليصل إلى ثمانية مليارات يورو”.

أما بالنسبة إلى ليبيا، فإن إيطاليا هي الشريك التجاري الأول لليبيا؛ إذ بلغ حجم التجارة المتبادلة 10.17 مليار يورو خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2022، بزيادة تقترب من 76 % مقارنة بنفس الفترة من عام 2021، وذلك وفق موقع السفارة الإيطالية في طرابلس، في 27 يناير الماضي؛ الذي أكد أيضًا على أن إيطاليا أصبحت “الدولة الموردة الثانية لليبيا بعد تركيا”.

وهناك أيضًا مواجهة تدفقات الهجرة غير النظامية؛ ففي ختام زيارتها إلى ليبيا، قالت ميلوني في تصريح للصحافيين “ليبيا أولوية بالنسبة إلى إيطاليا، ولاستقرار البحر الأبيض المتوسط وللأمن الإيطالي، وللتحديات الكبرى التي تواجه أوروبا، مثل أزمة الطاقة واللجوء”؛ لتكشف بذلك عن أهم الأسباب في توجيه البوصلة الإيطالية نحو ليبيا، ليس فقط بسبب الطاقة، ولكن أيضًا الهجرة غير النظامية.

هذا السبب، كشف عنه كذلك نائب رئيسة الوزراء ووزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، في لقاء جمعه في روما، الجمعة 10 فبراير، مع المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس البعثة الأممية إلى ليبيا، عبد الله باتيلي؛ حيث كتب عبر حسابه على “تويتر”، يقول “أكدت للمبعوث الأممي أن استقرار ليبيا من أولويات السياسة الخارجية الإيطالية، ويُمثل المصلحة الوطنية لروما، لمواجهة تدفقات الهجرة غير النظامية”.

واللافت، أن هناك العشرات من الميليشيات، في غرب ليبيا، التي تتخذ من تهريب البشر مصدرا لجمع الأموال، وهي تنشط في المدن الساحلية، كصبراتة والزوارة، وهي مدن ليبيا توازي شواطئها الشواطئ الإيطالية.

ثم، هناك كذلك، مواجهة التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود؛ حيث كانت إيطاليا، ولاتزال، عضوًا في التنظيم الدولي ضد “داعش”، منذ عام 2014؛ وتنشر إيطاليا العضو في حلف “ناتو” نحو 900 جندي في العراق، في إطار عملية “بريما بارتيكا” الداعمة للتحالف الدولي لمكافحة داعش. وهم منتشرون في العراق وإقليم كردستان، لتقديم المشورة العسكرية وتدريب قوات البيشمركة.

وبحسب موقع “يورو نيوز”، في 23 ديسمبر 2022، تشترك إيطاليا وإقليم كردستان في علاقات قوية، منذ عام 2003، ولحكومة كردستان ممثل في العاصمة الإيطالية روما، وقدمت حتى الآن 430 مليون دولار على شكل مساعدات مالية وقروض للعراق؛ كما تخصص إيطاليا 13 مليون يورو سنويًا للمشاريع التنموية في العراق، وبشكل خاص تلك التي تهدف إلى تعزيز الاستقرار في المناطق التي تحررت من تنظيم داعش.

يأتي هذا، متوافقًا مع تأكيد إيطاليا على دعمها لتحقيق الأمن والاستقرار في الصومال، الذي يخوض حربًا شرسة مع عناصر “حركة الشباب” الموالية لتنظيم القاعدة؛ حيث شددت ميلوني، في بيان مقتضب عبر “تويتر”، على أن “الالتزام في القرن الأفريقي يُشكل أولوية لعملنا الدولي”، فيما أشارت وكالة “نوفا” الإيطالية للأنباء إلى أن زيارة  الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، التي تأتي بعد يومين من زيارة مماثلة قام بها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، لتعكس “محاولة إيطاليا استعادة الأرض المفقودة في الصومال، وفي منطقة القرن الأفريقي”.

ثم هناك أخيرًا محاولة ملء فراغ التراجع الفرنسي في أفريقيا؛ فزيارة ميلوني إلى ليبيا، تحديدًا، جاءت لتؤكد على محاولة إيطاليا في ملء الفراغ الذي سببه التراجع الفرنسي، خاصة في منطقة الساحل الأفريقي، واحتواء الإرباك الذي تسبب به التنافس الفرنسي الإيطالي بخصوص ليبيا، وعموم منطقة الساحل، عبر تقديم مقاربة جديدة لتواجد إيطاليا في القارة الأفريقية، وتقوية نفوذها فيها.

وتتأكد المحاولة الإيطالية تلك، من خلال الاجتماع الذي حضره الرئيس الصومالي شيخ محمود، في روما، مع ثلاثة من الوزراء الإيطاليين، وزير الدفاع جويدو كروسيتو، ووزير الداخلية ماتيو بينتيدوسي، ووزير الخارجية أنطونيو تاياني؛ حيث يكشف حضور الوزراء الثلاثة نهج الحكومة الإيطالية، التي ترى ارتباطًا وثيقًا بين مستقبل إيطاليا وتعزيز وجودها في القارة الأفريقية، التي تشهد تنافسًا محمومًا بين القوى الدولية على استثمار ثرواتها، خاصة في الطاقة والتعدين والزراعة وطرق المواصلات.

مثلث الاهتمام

في هذا السياق، يمكن القول بأن الاهتمام الإيطالي بما يمكن تسميته “مثلث دول الأزمات” العربية، الذي تكشف عنه التحركات الإيطالية الأخيرة، يأتي في  إطار تفعيل عدد من الملفات الحيوية، بالنسبة إلى السياسة الخارجية الإيطالية مع هذه الدول؛ فضلا عن تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية، وتأسيس شراكات في قطاعات اقتصادية هامة.

هذا، فضلًا عن تبني سياسات جديدة في مواجهة الهجرة غير النظامية، ومكافحة الإرهاب العابر للحدود، خاصة أن هذه الملفات تؤرق الدولة الإيطالية، نظرًا لقربها الجغرافي من شواطئ شمال أفريقيا، وتحديدًا ليبيا؛ هذا، إضافة إلى تأمين المصالح النفطية الإيطالية، والبحث عن مصادر جديدة، بما يُمثله ملف الطاقة من أولوية إيطالية، في ظل التداعيات التي فرضتها الحرب الروسية الأوكرانية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock