رؤى

عمارة الأرض.. ومسألة الموارد في التنزيل الحكيم

إذا كانت عمارة الأرض، هي القاعدة التي يرتكز عليها الهدف من تقدم الإنسان وتطوره، وما إذا كان الهدف يقتصر على مجرد تحقيق إشباع الحاجات المادية والمعنوية للإنسان والمجتمع، أم أن ذلك مرحلة لهدف أسمى وهو تعمير الأرض.. لذا، يبدو أن ثمة ارتباط بين “تعمير الأرض”، كعملية ذات بعد مستقبلي، تحتاج إلى تخطيط إنساني لتنفيذها، وبين مسألة الموارد؛ وهل هي كافية للإنسان والمجتمع، وللاحتياجات الإنسانية المتجددة؟!

مثل هذا الارتباط، بين تعمير الأرض والموارد، في الإسلام، مُضافًا إليهما الحاجات الإنسانية التي تحتاج إلى “إشباع”، يُمثل دائرة تتقاطعها دوائر ثلاث: الموارد والإنتاج، الحاجة والإشباع، التوزيع والاستهلاك.. على أساس إرساء هذه الدوائر الثلاث على قواعد ثلاث، تنبع من نظرة الإسلام العامة إلى الإنسان والمجتمع والكون.

هذه القواعد هي: قاعدة “كفاية الموارد وتوجيه الإنتاج”، وقاعدة “تجدد الحاجة ومحدودية الإشباع”، وقاعدة “عدالة التوزيع وترشيد الاستهلاك”.

الموارد والإنتاج

أما عن القاعدة الأولى، قاعدة “كفاية الموارد”.. فهي تلك التي يقوم الإسلام بإرساء دائرة “الموارد والإنتاج”، عليها.. وبناء على هذه القاعدة، تبدو رؤية الإسلام للمشكلة الاقتصادية من منظور إنها لم تنشأ من ندرة موارد الإنتاج وبُخل الطبيعة.

صحيح أن موارد الإنتاج في الطبيعة “محدودة”، وحاجات البشر كثيرة ومتنوعة.. وحقًا، أن مجتمعًا أسطوريًا يتمتع بموارد غير محدودة، ووفرة في الهواء، يظل سليمًا من المشكلات الاقتصادية، ولا يوجد فيه فقير؛ لأن كل فرد قادر على إشباع جميع رغباته في هذا الفردوس.. لكن هذا لا يعني أن المشكلة الاقتصادية التي تعانيها البشرية في الواقع، نابعة من عدم وجود هذا الفردوس.

إن الإسلام لا يقر ذلك كله، وينظر إلى المشكلة من ناحيتها الواقعية، القابلة للحل؛ بمعنى إن الإسلام حينما يُشير إلى الموارد، فإنه يفعل ذلك في مواجهة البشرية كلها، ومن ثم تكون الموارد الاقتصادية كافية لإشباع حاجة الإنسان ككل.

ويتبدى ذلك من جهتين: من جهة، فإن الموارد ليست معدة للاستهلاك المباشر في جملتها، بل لابد من تضافر عناصر الإنتاج من طبيعة وعمل ورأسمال لتحقيق ذلك؛ ومن ناحية أخرى، فإن المجهود الإنساني هو حجر الزاوية في هذا الباب، وبدون ذلك المجهود لا يستطيع الإنسان توفير احتياجاته؛ ومن ثم فإن قيمة الإنسان تتحدد عملا بمقدار ما يبذل من جهد، على أساس أن من فطرة الإنسان، التي فطره الله عليها، بذل هذا الجهد.

وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى: “فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى” [طه: 117].. ويقول تعالى: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ” [الملك: 15].. ويقول سبحانه: “فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ” [الشرح: 7].

بل، إن الدليل على أن “الموارد” كافية لإشباع حاجات الإنسان في جملتها، قوله سبحانه وتعالى: “وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ” [إبراهيم: 34].. وقوله تعالى، عن الأرض التي جاء إليها الإنسان: “وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ” [فصلت: 10].. وكذلك قوله سبحانه: “وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ • وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ • وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ” [الحجر: 19ـ21].

حقيقة الندرة

وعلى ذلك، فإن ندرة الموارد لا ترجع إلى نقص فيها على مستوى الإنسانية ككل، وإنما إلى أسلوب استغلالها، سواء بإهدارها أو بعدم الاستفادة منها أو تعطيلها، أو “الصراع” من أجل الاستيلاء عليها واحتكارها من جانب البعض دون البعض الآخر من بني الإنسان. يقول سبحانه وتعالى: “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْأَنهَارَ • وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ • وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ” [إبراهيم: 32ـ34].

في هذه الآيات الكريمة، وبعد أن يستعرض النص القرآني مصادر الثروة، أو بعض منها بالأحرى، تلك التي أنعم بها الله سبحانه وتعالى على الإنسان، فإنه يؤكد على أنها كافية لإشباع الإنسان، كـ”خليفة” في الأرض. وبالتالي، فالمشكلة الواقعية لم تنشأ إذن عن بُخل الطبيعة أو عجزها عن تلبية حاجات الإنسان، وإنما نشأت من الإنسان نفسه، كما تقرر ذلك الآية الأخيرة: “إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ”؛ فظلم الإنسان في توزيع الثروة، وكفرانه للنعمة بعدم استغلال جميع المصادر التي تفضل الله بها عليه استغلالًا تامًا، هما السببان المزدوجان للمشكلة الاقتصادية، التي يعيشها الإنسان.

وبمجرد تفسير المشكلة على أساس “إنساني”، يُصبح من الممكن التغلب عليها، والقضاء على الظلم وكفران النعمة، بإيجاد علاقات توزيع عادلة وتعبئة كل القوى المادية والبشرية لاستثمار الطبيعة واستكشاف كل كنوزها.

الحاجة والإشباع

أما عن القاعدة الثانية، قاعدة “تجدد الحاجة ومحدودية الإشباع”، فهي تلك التي يقوم الإسلام بإرساء دائرة “الحاجة والإشباع”، عليها، هذه الدائرة التي تُمثل أهم المشكلات في أي مجتمع. بل، إنها الدائرة التي شهدت أكبر قدر من “الخلط” بين مكوناتها، عند معظم المتحدثين عن المسألة المجتمعية من منظور الاقتصاد والمشكلة الاقتصادية وعلم الاقتصاد (وخاصة الوضعي).

والواقع، إن هذا الخلط إنما يأتي من الحديث عن كل من “الحاجة”، والإشباع”، كمترادفات، وليس كعمليتين إنسانيتين متتاليتين؛ ومن ثم، نشأ الخلاف بين المتحدثين عن الاقتصاد، بصفة عامة، بين فريق يرى أن “الحاجة والإشباع”، غير محدودة، وبين فريق يرى أنها محدودة.

كيف(؟).. هذا، هو موضوع حديثنا القادم، بإذن الله تعالى.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock