رؤى

جورج لابيكا.. وجه فرنسا الحُرُّ في مواجهة “طُغْمَة” باريس!

حين أغمض جورج لابيكا عينيه للمرة الأخيرة مساء الخميس الثاني عشر من فبراير عام 2009، تنفست فرنسا الاستعمارية الغشوم الصعداء؛ لموت مفكر ومناضل صلب قاوم الاستغلال والظلم والطغيان بكل ما أوتي من قوة.. حمل السلاح في الجزائر عضوا في جبهة التحرير، ولم يرهبه الحكم الصادر بحقه بالإعدام، ناهض الإمبريالية بكافة أشكالها والنزعات العنصرية بكل صورها، وعلى رأسها الصهيونية التي وصفها بأنها نازية أخرى، وكان وقوفه إلى جانب الحق العربي الفلسطيني واضحا، وضد الاجتياح الصهيوني للجنوب اللبناني عام2006، وحصار العراق عقب حرب الخليج الثانية، رافضا كل أشكال الهيمنة والاستغلال التي مارسها الغرب الناهب في الوطن العربي.

من أجل قيم العدالة والمساواة والحق في المعرفة والتنمية والحداثة – وهب جورج لابيكا حياته مدافعا عن المظلومين والمقهورين في شتى بقاع الأرض؛ كاشفا للعالم دون مواربة حقيقة الغرب ورأسماليته المتوحشة وأساليبه القذرة في النهب والاستغلال.

ويعتبر لابيكا من أصدق المفكرين الماركسيين الذين قدموا نقدا بناءً للتجربة الحزبية الشيوعية، نائيا بالماركسية عن ما لحق بها من أدران الجمود التي أرادت حبسها داخل النطاق الفلسفي التأملي بعيدا عن قدرة الفعل والتأثير.. فالماركسية عند لابيكا عمل يرمي من حيث دوافعه النضالية إلى الحيلولة دون اقتصاره على الفلسفة التي تَتَستَّر بصورة نظرية، ‏فكرية تأملية وشمولية، على  التناقضات الواقعية  والصراعات  الإيديولوجية  والسياسية  الملموسة  في  المجتمع. ‏

 رأى لابيكا أن المسار الثوري لا محيد عنه  بالنسبة للفكر الماركسي، وهو ما يعني “نهاية الفلسفة وظهور علمٍ للإنسان يتوق إلى التشبُّه بعلم ‏الطبيعة أو الاقتراب منه، وذلك في الوحدة الواقعية للصناعة، حيث الإنسان طبيعة  والطبيعة مجتمع”.

وكان ترك لابيكا للحزب الشيوعي الفرنسي اعتراضا على مهادنة الحزب للنظام وارتضائه العمل وفق شروط الإجحاف والظلم التي تصم سياسات الدولة وممارساتها، وهو ما حاد بالحزب عن خطه السياسي، وأدخله في نفق البيروقراطية المظلم.. لكن هذا الخروج دفعه لمواصلة النضال من أجل جوهر الفكر الماركسي.. فكان من القليلين الذين لم يكسرهم سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية عامة والانتصار المؤقت للرأسمالية في صيغتها النيوليبرالية المتوحشة. فقد ظل مقتنعا بأن الرأسمالية آيلة إلى الزوال، وأن الاشتراكية ستنتصر طال الزمان أو قصر، معتبرا أن الثورة هي السبيل إلى خلاص الإنسانية من وحشية الرأسمالية.

 يقول لابيكا: “إن أمل الإنسانية في العدالة الاجتماعية والتقدم والهناء لا يمكن أن يُقتل. وإن بروز البديل الاشتراكي الحقيقي من أحشاء الوضع السائد حاليا ضرورة تاريخية لا محيد عنها، ولن يتأتى بروز هذا البديل إلا بتنمية وتدعيم وتكثيف النضال الديمقراطي في جميع بقاع العالم، شمالا وجنوبا، وترسيخه في المجال الاجتماعي على الخصوص؛ حتى يتأتى فتح الطريق نحو عهد “ديمقراطية المنتجين” وعهد “المواطنة الحقيقية المتكاملة”.

على الصعيد الأكاديمي، عمل لابيكا أستاذا للفلسفة في جامعة باريس العاشرة (نانتير) ومدرسة المعلمين العليا والجامعة الجزائرية، وألقى الدروس والمحاضرات لعشرات السنوات، وتتلمذ على يديه آلاف الطلاب والأساتذة وأشرف على العديد من الأطروحات وساهم في العديد من الموسوعات وخاصة معجم الماركسية النقدي الذي عدّله عدة مرات ولاقى نجاحا كبيرا.

ويعتبر كتاب لابيكا “السياسة والدين عند ابن خلدون” من أهم مؤلفاته التي بلغت حوالي خمسة عشر مؤلفا- وذلك لفرادة تناول لابيكا لمقدمة ابن خلدون حيث كانت زاوية الخصوصية المغاربية وأثرها الفاعل، إلى جانب الثقافة الإسلامية بوصفها المكوّن الأهم في الفكر الخلدوني، العاملين الأبرز في صياغة المنهج التاريخي للمقدمة.. وأشار لابيكا إلى أن العصبية القبيلة، الغنيمة، الدين (الثالوث الخلدوني) شكلت المبدأ السياسي القائم على التحالف الإيديولوجي والعسكري، بالاستناد إلى اللحمة القبلية  ومكانة النبوة،.. وهو ما تجلى واضحا أيضا في أرض المغرب التي هي، حسب لابيكا، أرض البداوة، بسكانها الأصليين وغزاتها على حد سواء.

السياسة والدين عند ابن خلدون

وفي كتابه “نظرية في العنف” أوضح لابيكا أن العنف الثوري يمثل استجابة طبيعية  لما يمارسه الطرف الآخر من إجرام “لأن الفقر هو أقصى حالات العنف” أما الاستسلام للاعنف فإنه يسحق روح النضال لدى الشعوب، ويجعلها أكثر قبولا للأمر الواقع، بل أكثر تواؤما مع المحتل الغاصب، أو المستبد الناهب الذي يعمد إلى زرع الاستكانة في النفوس؛ بما يمارسه من إرهاب استباقي متعدد الأشكال.

لقد دافع لابيكا عن حقد المستغَلِّين للمستَغِلِّين؛ فذلك لأنه يرى أن الرأسمالية مصدرٌ للعنف المرتبط بالاستغلال، وما يرافق الاستغلال من قمع وإرهاب رأسمالي. لذا فإن “العنف الثوري” من جهة الطبقات الشعبية والعمال وفقراء الفلاحين، يعْتَبَر برأيه “رد فعل مفروض” (أو فَرْضٌ ضروري) حيال الإرهاب الرأسمالي والإمبريالي في عهد العولمة النيوليبرالية، من حيث هي المصدر -جنبا إلى جنب مع الدول الرأسمالية- للإرهاب في عالمنا الحالي.

عاش جورج لابيكا نحوا من ثمانين عاما، كان خلالها مناضلا شرسا ضد كل أشكال القهر، لم يخضع لسلطة ولم يرهبه تهديد أو وعيد؛ وظل وفيا لمبادئه التي دافع عنها طيلة حياته.. وما تزال أياديه البيضاء باقية الأثر.. لن تمحوها كل ممارسات الرأسمالية المتوحشة المتخبطة في أزماتها المتلاحقة وفجواتها الحتمية التي ستقضي عليها يوما ما دون شك.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock