رؤى

ثورة المرئيات.. وتحولات المعنى والقوة والهيمنة

في إطار الثورة العلمية والتقنية الراهنة، التي يعيش المجتمع الإنساني تأثيراتها وتداعياتها، وذلك على جميع المستويات السياسية والاقتصادية، بل والثقافية أيضًا.. لنا أن نلاحظ، التأثير الذي تمارسه هذه الثورة بشكل عام، و”ثورة المرئيات” ـ في إطارها ـ بشكل خاص، على التغير الحاصل في الحدود التقليدية لـ”الجغرافيا الإعلامية”. إذ، تكفل التوظيف التقني الناجز، في مجال الإعلام وآلياته، بهندسة جديدة لتلك الحدود، عبر إكسابها أبعادًا مُضافة.. وهنا، فإن “الجديد” الذي نعاصره، ويتبدى بوضوح على ساحة العلاقات الدولية، إنما يختص بـ”الصورة”، أو: “دكتاتورية الصورة” بالأحرى.

بيد أن هذا “الجديد” نفسه يضعنا مباشرة في مواجهة إشكالية “المعنى والقوة” على الساحة العالمية، في هذه المرحلة التي نعايشها؛ وهي تأتي ضمن أهم الإشكاليات المثارة في إطار التحولات الجارية على ساحة العلاقات الدولية.

المعنى والقوة

والواقع، أن الاتجاه الغالب في تحليل هذه “العلاقات”، هو ذلك الذي ينزع إلى بحث إشكالية “القوة” أكثر مما يبحث في إشكالية  “المعنى”. ولعل أسباب ذلك واضحة، إلى حد ما؛ فمثل هذا التحليل، الذي يغلب عليه تصورات المؤرخين وفقهاء القانون الدولي، يتلاءم ـ بسهولة ـ مع لعبة القياس الكمي لـ”القوة المادية” (ترسانة الأسلحة، الناتج المحلي الإجمالي، الدخل القومي الإجمالي)، في إطار مؤسسي (الدولة القومية).

إلا أن الحاجة إلى التغير تبدو ضرورية، في هذا المجال، وذلك في ما يتعلق بمسألة تحليل العلاقات الدولية “المعاصرة”؛ إذ، ها هنا، تتبدى ضرورة أن تتجاوز هذه المسألة مجرد البحث في إشكاليتي المعنى والقوة، لتطال قضية العلاقة بينهما، أي: قضية العلاقة بين الهياكل التنظيمية والقيم.

صحيح أن البحث في إشكالية المعنى يثير صعوبات مفاهيمية، تدعو إلى الحذر بدرجة أكبر من البحث في مقاييس القوة.. إلا أنه يبقى من الصحيح أيضًا أن العلاقة الجدلية بين المعنى والقوة، هي علاقة موجودة في كل مستويات الجدلية “الاجتماعية ـ السياسية”، أيًا يكن حجم الجماعة أو الفئة التي تلعب دورها فيها. ومن ثم، فهي علاقة لا يمكن صرف النظر عنها.

وهكذا، عندما نزحزح اهتمامنا التحليلي من الدائرة الكمية للقوة إلى الفضاء “الاجتماعي ـ السياسي” الكلي، ذلك الذي تنتشر فيه المعاني المرغوبة عبر إرادات الهيمنة، أي: جعل السيطرة “مشروعة” باستخدام وسائل أخرى غير القمع، أو ـ بمعنى أكثر تحديدًا ـ السيطرة دون قسر؛ عندئذ، نمتلك الإمكانات المنهجية المعرفية التي نتمكن بها من دراسة لعبة العوامل الحاسمة للحظة التاريخية، أو: التي تحسم حركة التاريخ في هذه اللحظة أو تلك.

ونقصد بالعوامل الحاسمة، هنا: العامل الاقتصادي، والعامل السياسي، والعامل العقائدي (الأيديولوﭽـي)، إضافة إلى العامل الجغرافي؛ حينئذ، يمكننا أن نرتب هذه العوامل تدريجيًا بحسب الأهمية، سواء: داخل كل مجتمع في مرحلة تاريخية معينة، أو: داخل كل سياق تاريخي “اجتماعي ـ سياسي”. إذ، ما هو حاسم في هذا السياق، قد يكون أقل حسمًا في سياق آخر، وهكذا.

مفهوم المعنى

ينقلنا هذا إلى مسألة المعاني المرغوبة على ساحة العلاقات الدولية، أو تحديدًا: “مفهوم المعنى” في النظام الدولي، الذي يفيض عن أكثر من معنى. بيد أننا، على نحو متشدد بالضرورة، سوف نعطي له معنى محددًا ـ مبدئيًا، على الأقل ـ من بين ثلاثة معانٍ تختلف من حيث نطاقها..

الأول: القدرة على إيجاد حلول لبعض المشكلات المتعلقة بالتنظيم الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، في الإطار “الوطني”؛ وسواء توافرت “الرغبة” (الحقيقية)، في تعميم النتائج على سائر أنحاء العالم، أم لم تتوافر، فإن النجاح الذي يتحقق داخل الإطار الوطني، قد يُغري اللاعبين الخارجيين بمحاولة الاسترشاد بتلك النتائج.

الثاني: التطلع إلى نشر “قيم” يسود الاعتقاد بكونها عالمية، حتى وإن كانت قاصرة على مجال بعينه. ومن الواضح أن مثل هذه القيم، الصانعة للمعنى، في الوقت الذي يمكن أن تصبح فيه البديل “الطبيعي” للقوة المادية؛ فإنها، في الوقت نفسه، يمكن أن تكون مستقلة عنها بدرجة كبيرة (النفوذ الثقافي لفرنسا، كمثال، وهو الحقل الأمثل لصنع المعنى، يتجاوز قوتها المادية بشكل واضح.. كما أن الدراية التقنية لبريطانيا، في مجال الهندسة المالية، كمثال آخر، تعتبر متفوقة على القوة المادية لها بشكل لا يقارن).

الثالث: التمحور حول “صورة” شاملة للعالم، تستند إلى المطابقة بين القيم الخاصة وبعض القيم العالمية، والسعي بذلك إلى “تضخيم الذات”، و/أو إلى “حق إرادة العالم”. ولعل هذين الاتجاهين يمكن الجمع بينهما، بطبيعة الحال، من وجهة نظر لاعب واحد في النظام الدولي؛ إلا أن الاتجاه الأول يميل إلى فرض نفسه على آليات الهيمنة، في حين يسعى الثاني إلى فرض نفسه على أي اعتبار آخر.

هذه المعان، الثلاثة، وإن كانت تختلف من حيث نطاقها (حلول بعض المشكلات، قيم عالمية، صورة شاملة للعالم)؛ فهي، في ما يبدو، تلتقي عند نقطة مركزية، تؤشر إلى “المعنى” الذي يمكن أن نعطيه لاصطلاح “مفهوم المعنى” في النظام الدولي.. أي: “محاولة تنظيم العلاقات الدولية حول مجموعة من القيم ذات الاتجاه العالمي”.

صُنع المعنى

في هذا الإطار، يمكن التأكيد ـ بصورة إجمالية ـ على أن التعقيد الذي يتسم به فك رموز الحقيقة الدولية، يرتكن إلى التغير الحاصل ـ بشكل انقلابي ـ في منحنى العلاقة بين “المعنى ـ القوة”.. التغير الناتج عن تزامن عجيب في ما بين تطورين، يكمل إحداهما الآخر، رغم الاختلاف الواضح بينهما: انتهاء الصراع العقيدي المُوَّجِه (الأيديولوﭽـي)، بين الشرق والغرب (عبر الانهيار السوفياتي، فعليًا في العام 1989، ورسميًا في العام 1991)؛ و: التحول الملموس في قواعد اللعبة الدولية (عبر حرب الخليج “الثانية”، في العام 1991.. وصولًا إلى الحرب الأوكرانية في العام 2022).

ففي زمن “الحرب الباردة”، كان الهيكل الدولي القائم على قطبين، قد استند إلى وجود ترابط، نسبي، بين القدرة على “صنع المعنى” (تقديم رسالة علمية)، من جهة، وبين المقدرة على “صنع القوة” (على الصعيدين الاقتصادي والعسكري)، من جهة أخرى.. حينذاك، اضطلع القطبان، بوضوح، بدور “صُناع المعنى” خارج نطاق حدودهما؛ إذ كانا ينسبان إلى نفسيهما القدرة على إيجاد حل شامل ومترابط، لما يمكن تسميته “اللغز العالمي”، وتسخير الموارد الرمزية، والمادية، لحل هذه المعضلة.

أما الآن، فإن ثمة أدلة تشير إلى التغير الحاصل في هذا الصدد؛ إذ، إن الفجوة تتزايد بين معدل الإنتاج المادي ومعدل صنع المعنى.. هذه “الفجوة”، التي تساهم في فض الارتباط بين المعنى والقوة، يمكن أن نلامسها عبر ملاحظة أن التغير، إياه، لم يؤد إلا إلى التوسع “السلبي” في نطاق “إمكان نقل العوامل الفاعلة”؛ بمعنى: تضاؤل إمكانية نقل المكاسب التي تتحقق لدى أحد اللاعبين الدوليين، في مجال معين (المجال “الدبلوماسي ـ الاستراتيـﭽـي”، كمثال)، إلى مجال آخر (اقتصادي أو تجاري).. وربما هذا ما يُفسر نزوع القوة الاقتصادية والقوة السياسية إلى السير في اتجاهين، يبدو أن التباعد بينهما سوف يزداد.. كيف؟

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock