رؤى

نقد الخطاب الوحدوي: الفكر العربي.. وإشكاليات الموضوعي والذاتي

لعل أول ما يطالعنا عند الحديث عن الفكر والخطاب العربيين، هو التساؤل القائل: لماذا انتهى الخطاب الفكري العربي إلى محض خطاب نخبوي؟ ولماذا انتهى المشروع العربي، في أقل من نصف قرن من الزمان، من مشروع الدولة العربية الموحدة إلى مشروع دولة قطرية، لا تحتفظ من هويتها السياسية إلا بوجودها السياسي ضمن حيز الجغرافيا العربية؟

قطعًا، ينطلق التساؤل من فرضية الإقرار بشرعية الفكرة “العربية”، وبالحاجة إليها تاريخيًا. بيد أننا لا نروم من إثارته هنا، تعداد أسباب (داخلية وخارجية، عربية وغير عربية) ساهم في تعدادها الكثيرون، حول الانحسار إياه، بقدر ما نتغيا وضع اليد على النقطة المحورية في الأزمة الراهنة، التي تطال الخطاب الوحدوي العربي ذاته.

تراجع القومية

والجواب الذي نغامر بسوقه في هذا المعرض، هو أن “الفكرة”، أو بالأصح “النظرة”، القومية (العربية)، التي ازدهرت في الخمسينات والستينات، من القرن العشرين الماضي، لم يكن ممكنًا أن تبدأ في التراجع منذ الثمانينات من القرن نفسه، لولا أنها كانت قد عاشت زمنها، ولم تعد قادرة على تقديم أي إنجاز جديد ذي معنى وقيمة، في هذا العالم الذي نعاصره الآن.

صحيح أنها استطاعت إنجاز الشق الخاص بـ”تأكيد وترسيخ هوية وطنية ومرجعية ثقافية”، هي الأساس الضروري لبناء ذاتية جماعية، أي لتحويل المجتمعات إلى فاعل أو فواعل تاريخية؛ وصحيح أنها تمكنت من تحقيق مهام أساسية ارتبطت بجدول أعمال تاريخية القرن العشرين (مثل: برنامج تحرر البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، وإعدادها للدخول في منظومة القوى الدولية).. إلا أنه يبقى من الصحيح، أيضًا أنها الآن في وقت لم يعد ينفع فيه النفخ في وحدة اللغة والأصول، لم تعد قادرة على تحقيق الوحدة، بل لم تعد ضرورية لتأكيد الانتماء إلى جماعة وتاريخ وحضارة بعد أن تبلورت الهوية العربية.

أضف إلى ذلك، إذا أردنا الاسترسال، أن مشروع توحيد جهود المجتمعات أو الشعوب العربية، كلها أو بعض منها، في دولة موحدة، لم يعد في حاجة إلى تضخيم لا ضرورة له للأصول المتماثلة، أي إلى النوع القديم من التعبئة السياسية، والعقيدية الموجهة (الأيديولوجية)؛ إذ صار من الممكن تحقيقه بمجهودات معنوية ومادية أقل، وبكلف أرخص كثيرًا، خصوصًا إذا لاحظنا إن فلسفة التجمع الإقليمي السائدة اليوم، في مناطق كثيرة من العالم، تعتمد بشكل أكبر معايير وشروط الممارسة القانونية والبحث المشترك عن المصالح المشتركة.

هذا، ربما يفسر العلامة الفارقة التي تبدو بوضوح على الساحة العربية؛ فلم يكن العرب، في أي حقبة سابقة أكثر اقتناعًا بضرورة التكتل العربي مما هم عليه اليوم، بحيث يمكن القول: إن التكتل العربي لم يعد عقيدة نخبة سياسية، ولكن دائرة إجماع بين الأغلبية، سواء تعلق الأمر برسميين أو بمواطنين عاديين؛ ذلك، على رغم انحسار الموجة العروبية بخصوص موضوع القومية.

التغير الموضوعي

هنا نجد أنفسنا، مباشرة أمام النقطة المحورية في الأزمة الراهنة، تلك التي تمثل الأصل في كبوة الفكر والخطاب العربيين، والتجربة السياسية التي قامت على قاعدتهما، إنها النقطة التي يتقاطع عندها عاملان اثنان: أحدهما موضوعي والآخر ذاتي.

أما العامل الموضوعي فيتمثل في تغير جدول الأعمال التاريخي تحت تأثير تبدل الأوضاع الدولية، منذ نهايات القرن الماضي، وما ساهم به هذا التغير في ظهور مشكلات وتحديات جديدة، لم تكن تعرفها المجتمعات في الفترة السابقة، ولا طاقة لـ”النظرة التقليدية”، في معالجتها من منظوراتها الخاصة.

وفي ما يبدو، فقد ساعد “التغير التاريخي” ذلك في تظهير عجز الأطر الفكرية والسياسية والاقتصادية التي طورتها حقبة “الحداثة”، الماضية ذات الطابع الوطني والقومي والصناعي، عن الرد على متطلبات عملية تمدين المجتمعات الكبرى ذات الطابع العالمي، أي التي يزداد انفتاحها عالميًا. والمقصود من العجز هنا، هو التناقض الذي لا يكف عن التفاقم بين مطالب التمدين، أي الاندماج في نمط الحضارة الحديث، وعجز الأنماط التقليدية للحداثة الصناعية والوطنية عن تلبية هذه المطالب.

ولعل ما دفع هذا التناقض إلى حده الأقصى، هو التحديات التي ولدتها الثورة العلمية والتقنية الجارية؛ فهذه الأخيرة -وهنا جوهر التحديات التي ولدتها- كسرت التوازنات المحلية والدولية القديمة، عندما قوضت الجهود الماضية كافة، تلك التي قامت بها غالبية شعوب العالم للالتحاق بالثورة الصناعية، وأفقدت القسم الأعظم منها القدرة على التحكم في مصيرها؛ بل على تحديد غايات وأهداف ممكنة للجهد الجماعي، وتركتها معلقة في الفراغ “بين بنية تقليدية بالية وحداثة غير منجزة”.

الإخفاق الذاتي

أما العامل الذاتي، فيتمثل في إنجاز الحركة العربية جزءًا مهمًا من جدول الأعمال القومي، كما تبلور في مفهوم “الهوية العربية”، وإخفاقها في تحقيق أجزاء عدة أخرى. ومن دون الغوص في تعداد الإخفاقات التي واجهت الحركة العربية، كحركة سياسية، تحولت معها الفكرة القومية إلى مشروع مترجم ماديًا.. نكتفي بذكر مثالين اثنين:

الأول، أنه نتيجة الإمعان المتزايد في الانشغال بمسألة الصورة الخارجية للكيان “القومي” الموحد، أعرض الخطاب الفكري ـ والمشروع السياسي ـ الوحدوي، عن التفكير في مسائل الحرية والديموقراطية (بوصفها أساسات لا محيد عنها للتقدم)، إلى الدرجة التي شاع معها الانطباع بأنه يجافيها من حيث المبدأ.

والمثال الثاني، أن تحول الفكرة القومية إلى حركة سياسية، على نحو مبكر ومن دون تبلور حقيقي لبنائها النظري، عاد عليها بنتائج عكسية؛ إذ، أنتج عوائق جديدة أمام “تحول المشروع القومي إلى دولة موحدة”، بل دفع الخطاب “الوحدوي”، دفعًا إلى أن يصبح خطابًا منصرفًا عن وظيفة توجيه الممارسة؛ ومنصرفًا، في الوقت نفسه، إلى التماس الشرعية لها أيًا تكون طبيعتها.

وفي ما يبدو، فإن هذين المثالين، من بين عدد يفيض عن حاجتنا في الاستدلال، يلخصان مأزق “النظرة”، العربية، ذاتيًا، من حيث هي عقيدة، أي جدول أعمال تاريخي واختيار أولويات؛ ومن حيث هي “نظام”، أو مجموعة من المصالح الاجتماعية المشكِلة لتحالف والمثبِتة لسلطة دولة.

في هذا السياق، سياق التقاطع بين “الموضوعي”، و”الذاتي”، لجهة تراجع الفكرة العربية إلى فكرة نخبوية، وانتهاء المشروع الوحدوي إلى محض مشروع قطري ذي غطاء ـ شعاراتي ـ قومي، في أحسن الأحوال، يغني عن البيان أن نلاحظ بأي درجة من السرعة والسهولة تتخلى تلك الفكرة اليوم عن جدول أعمالها السابق، كي لا تبقى منها إلا المرجعية الرمزية للسياسة الوطنية، التي طبعت “الحقبة القومية”.

بيد أننا نسارع إلى التأكيد، هنا، بأن ما وصلنا إليه توًا (التخلي إياه)، ليس مصدره العقيدة أو الفلسفة القومية، وهو لا يرتبط أي ارتباط بضرورة منطقية تمليها طروحات هذه العقيدة أو الأهداف التي رسمتها لنفسها (وهذا منطقيًا، من نافل القول)؛ بل، إنه نتيجة تجاوزها التاريخي، وعدم قدرة القائمين عليها، بسبب إغلاقهم أبواب النقد الذاتي ورفضهم الإنصات إلى نبضات القوى الاجتماعية الأخرى، وإلى العصر على تطويرها بما يتماشى مع التغير الحاصل في “جدول الأعمال التاريخي”، خلال العقدين الأخيرين.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock