في خضم التوتر المتصاعد في العلاقات بين فرنسا ومالي، الجارة الشرقية لموريتانيا، وسحب فرنسا قواتها، بعد أن بدأ المجلس العسكري في مالي العمل مع متعاقدين عسكريين روس، من مجموعة “فاغنر”؛ قام قائد أركان الجيش الفرنسي، الجنرال تيري بوركارد، بزيارة إلى موريتانيا، لم يُعلن عنها من قبل.
أثارت الزيارة التي جرت الجمعة 10 مارس، العديد من التساؤلات، حول أسباب التوجه الفرنسي نحو موريتانيا؛ خاصة أنها تأتي بعد شهر واحد من زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى موريتانيا، في 8 فبراير الماضي؛ والأهم، أنها تأتي بعد أيام قليلة من جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى أربع دول أفريقية، شملت الغابون وأنغولا والكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية، في الفترة 2-5 مارس.. هذا فضلًا عن أنها تأتي بعد يوم واحد من زيارة بوركارد نفسه إلى السنغال، الجارة الجنوبية لموريتانيا، في 9 مارس.
دوافع متعددة
اللافت أن زيارة قائد أركان الجيش الفرنسي إلى موريتانيا، تأتي في ظل تنامي النشاط الفرنسي في أفريقيا مؤخرًا، والسعي لتعزيز نفوذ فرنسا المتراجع في القارة، وهو ما يعكس محورية أفريقيا عمومًا بالنسبة لحكومة ماكرون، وأهمية موريتانيا في إطار ذلك النشاط بوجه خاص.
وبالتالي، يبدو أن زيارة مسئول عسكري فرنسي، بحجم قائد الأركان، إلى موريتانيا، تستند إلى عدد من الدوافع.. لعل أهمها ما يلي:
من جانب، تعزيز التعاون الأمني والعسكري مع موريتانيا؛ إذ تأتي زيارة قائد أركان الجيش الفرنسي لتعزيز التعاون الأمني والعسكري الجيواستراتيجي، مع هذا البلد الذي يُمثل “نقطة ربط” بين الساحل الأفريقي والمغرب العربي، والعضو المؤسس لمجموعة الخمس في منطقة الساحل. وتأتي الزيارة في إطار مراجعة باريس لسياساتها في المنطقة، والبحث عن شراكات جديدة في أفريقيا؛ بل ومن منظور الرؤية الاستراتيجية الفرنسية الجديدة التي طرحها الرئيس الفرنسي في خطابه في 27 فبراير الماضي، وأكد فيها أن “أكاديميات تجمع الجيوش الفرنسية والأفريقية، ستحل محل القواعد العسكرية في أفريقيا” لافتًا إلى أنه “ستكون هناك نهاية للقواعد العسكرية التقليدية في القارة”.
والملاحظ، أن زيارة الجنرال بوركارد إلى موريتانيا، وإن كانت تأتي في ظل تراجع الحضور الفرنسي في منطقة الساحل، خاصة في مالي التي سحبت قواتها منها على خلفية توتر علاقاتها مع المجلس العسكري الحاكم في البلاد؛ فهي، في الوقت نفسه، تأتي بعد أيام من إعلان بوركينا فاسو، في 2 مارس، وقف العمل بـ”اتفاق المساعدة العسكرية” الموقع مع فرنسا، منذ عام 1961، وذلك بعد أسابيع قليلة من طلبها، في 22 يناير الماضي، سحب القوات الفرنسية من البلاد.
من جانب آخر، تنمية التعاون الاقتصادي مع نواكشوط؛ فبالتوازي مع زيارة قائد أركان الجيش الفرنسي، زارت موريتانيا بعثة من رجال الأعمال الفرنسيين، يقودها عضو جمعية “أرباب العمل”، أريك باستين، حيث عقدت جلسة عمل مع وزير الشئون الاقتصادية وترقية الصناعات الإنتاجية الموريتاني عثمان مامودو. وبحسب بيان صحافي، صادر عن الوزارة الموريتانية، في 10 مارس، فقد ناقش الوزير، في كلمة أمام رجال الأعمال الفرنسيين، الإصلاحات الخاصة بتحسين مناخ الأعمال، والفرص المتاحة في قطاعات الثروة الحيوانية والمعادن والطاقة.
وحول التعاون الاقتصادي مع فرنسا، كان السفير الفرنسي في موريتانيا روبيرت مولي، قد أكد في خطاب ألقاه، الخميس 14 يوليو الماضي، بمقر السفارة الفرنسية في نواكشوط، بمناسبة العيد الوطني للجمهورية الفرنسية، على أن هذا التعاون يشمل القطاعين العام والخاص؛ لافتًا إلى أن موريتانيا بها 50 شركة فرنسية حققت أكثر من 2000 فرصة عمل مباشرة، ومؤكدًا على أن “فرنسا تعتبر الشريك الأساسي لموريتانيا، بمتوسط إنفاق سنوي قدره 40 مليون دولار، خلال عامي 2019-2020″، ومشيرًا إلى أنه “يجري تنفيذ حوالي 30 مشروعا في موريتانيا من طرف الوكالة الفرنسية للتنمية، بقيمة إجمالية تقدر بـ 180 مليون يورو”.
أيضًا، إيجاد موطئ قدم بعد اكتشاف الغاز الطبيعي؛ فقد تعزز الاهتمام الفرنسي والغربي عموما في موريتانيا بعد اكتشاف الغاز الطبيعي بكميات كبيرة؛ حيث من المرتقب أن تشرع نواكشوط في تصدير أولى شحناتها من الغاز المسال نهاية العام الجاري.
وتستعد موريتانيا للدخول إلى عضوية نادي الدول المصدرة للغاز، حيث تؤمن لها احتياطياتها المؤكدة من هذه المادة، التي تُعد المصدر الأول للطاقة في العالم – أن تتبوأ المرتبة الثالثة أفريقيًا، من حيث الاحتياطي على مستوى القارة.
ويبدو أن موريتانيا أمام مُفترق طرق مصيري؛ لتحقيق قفزتها التنموية؛ فاحتياطيات الغاز المكتشفة (100 تريليون قدم مكعب) تضعها بعد نيجيريا (207 تريليون قدم مكعب)، والجزائر (159 تريليون قدم مكعب). ويفوق احتياطي الغاز الموريتاني نظيره الليبي (55 تريليون قدم مكعب)، وحتى المصري (63 تريليون قدم مكعب). وتكمن أهمية الغاز الموريتاني في الدور الذي قد يلعبه، في تعويض جزء من النقص الذي تعانيه أوروبا من وقف إمدادات الغاز الروسي؛ خاصة أنه من المتوقع أن يبدأ إنتاج الغاز من حقل “السلحفاة”، المشترك مع السنغال، مع نهاية العام الجاري. ومن هنا، تأتي دلالة زيارة بوركارد إلى السنغال وموريتانيا، في يومين متتاليين.
كذلك، القلق من تصاعد النفوذ الروسي في الساحل؛ حيث فضلًا عن قلق باريس من التمدد الصيني في أفريقيا، فإن ثمة انزعاج فرنسي متزايد من تزايد النفوذ الروسي، لاسيما بين الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية عمومًا، وفي منطقة الساحل الأفريقي بوجه خاص. إذ قادت التحولات التي شهدتها المنطقة خلال العقد الأخير، إلى تغير المشهد الجيواستراتيجي لدول الساحل؛ فمنذ بداية سلسلة الانقلابات في مالي، وتدهور الوضع الأمني في بوركينا فاسو، وتراجع الدور الفرنسي جنوب الصحراء، ظهر لاعبون جدد تتقدمهم روسيا، كذلك الصين، وتركيا وإن بمستوى أقل.
وبالتالي، تتبدى أهمية موريتانيا في المنظور الفرنسي؛ سواء من جهة أنها باتت محل اهتمام حلف شمال الأطلسي “ناتو”، الذي رشحها لاحتضان قاعدة “باغرام الجديدة”، التي يستهدف بناؤها في المنطقة؛ أو من جهة أنها ـ كعضو مؤسس لمجموعة الخمس في الساحل الأفريقي ـ يمكن أن ترفع من مستوى التنسيق مع فرنسا، بجانب حلف ناتو، ضد انتشار قوات فاغنر الروسية في المنطقة.
وأخيرًا، خطوة استباقية في مواجهة التمدد الإيطالي: فقد شهدت المنافسة بين فرنسا وإيطاليا تراجعًا خلال السنوات الأخيرة، إلا أنها عادت للظهور مجددًا مع وصول رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني إلى السلطة، في أكتوبر 2022؛ حيث وجهت انتقادات حادة للتحركات الفرنسية في القارة الأفريقية، متهمة إياها باستغلال ثروات دول القارة، كما عمدت خلال زيارتها للجزائر، في 22 يناير الماضي، بالذهاب إلى مقام الشهيد، رمز الثورة الجزائرية وشهدائها ضد الاستعمار الفرنسي.
وقد أثارت زيارات ميلوني إلى عدد من الدول الأفريقية العربية -خاصة ليبيا- في 28 يناير الماضي، غضب باريس؛ لاسيما في ظل تطلع الحكومة الإيطالية لتعزيز نفوذها في أفريقيا، والتحول لمركز إقليمي لإيصال إمدادات الغاز من القارة إلى شمال ووسط أوروبا. ومن ثم، يتبدى بوضوح أن جولة ماكرون الأخيرة، في وسط أفريقيا، وإن كانت تستهدف الحد من تمدد النفوذ الإيطالي في القارة على حساب المصالح الفرنسية؛ فإن زيارة الجنرال بوركارد إلى موريتانيا، ومن قبلها السنغال، تأتي كخطوة استباقية لمنع التمدد الإيطالي إلى شمال غرب أفريقيا، بعد أن وصل إلى ليبيا، ومن قبلها الجزائر؛ خاصة في ظل الحديث حول إمكانية التعاون الجزائري مع موريتانيا بخصوص كيفية نقل غاز الأخيرة إلى أوروبا.
رؤية جديدة
في هذا السياق، يمكن القول بأن زيارة قائد أركان الجيش الفرنسي إلى نواكشوط، تأتي في إطار مراجعة باريس لسياساتها في أفريقيا عمومًا، وفي منطقة الساحل الأفريقي بوجه خاص؛ بل، وفي ظل المحاولة الفرنسية لاتباع “رؤية جديدة” في علاقاتها مع دول القارة، لاسيما مع تآكل نفوذها بشكل كبير في معاقلها التقليدية، وبعد أن طلبت اثنتان من دول الساحل الخمس، هما مالي وبوركينا فاسو، خروج القوات الفرنسية من أراضيهما، بما يعني التراجع الحاد لفرنسا في المنطقة، وهو ما كان يستوجب التوجه إلى إحدى أهم دول الساحل الأفريقي.. موريتانيا؛ خاصة بعد أن أصبح اسم موريتانيا يتردد كلاعب قوي في المنطقة، بعد اكتشاف الغاز بكميات كبيرة، في سواحل هذا البلد على المحيط الأطلسي.