رؤى

مفهوم الدولة: بين ممارسة السيادة.. وممارسة السُلطة

من الموضوعات التي التقى عليها اتفاق المفكرين، منذ قرون مضت، منذ أن كتب توماس هوبز كتابه الشهير: الـ”لفياثان” (Leviathan)، فى منتصف القرن السابع عشر (عام 1651)، أن العصورالحديثة قد أنتجت، هى الأخرى، وحشها “الأسطوري” (Mythology): الدولة.

قطعًا، هناك مبررات متعددة لمثل هذا الالتقاء، لعل من أبرزها: إن الدولة، التي أنتجتها العصور الحديثة، قد غدت إطارًا للوجود الإنساني ذاته؛ وبحسب ما يعبر ﭽورج بوردو، في كتابه: “الدولة، 1970” (L´Etat): “كما أن تاريخ الدولة يلخص ماضينا، فإن وجودها فى الحاضر يبدو لنا وكأنه يجسد من الآن مستقبلنا. وهذه الدولة، التى قد يحدث لنا أن نلعنها، يداخلنا عميق الإحساس بأننا مغلولون إليها فى السراء والضراء على حد سواء”.. وفى ما يبدو، فهذا الأمر لايتوقف عند حدود الإنسان الفرد فحسب؛ بل إن الدولة ـ كـ”إطار” ـ تحدد أبعاد المكان والزمان، كذلك، لكل شكل من أشكال التجمع الإنساني؛ فكل تجمع (أسرة، بلدية، جمعية، نقابة.. إلخ)، تابع للدولة، أما الدولة نفسها فغير تابعة لأى تجمع أعلى منها.

مؤسسة الدولة

فإذا حاولنا تلخيص “التحول” الذي شهدته العصور الحديثة، في ما يخص الدولة، فربما تسعفنا، هنا، مقولة ج. ن. كلارك: “لقد أصبح نشاط الإنسان، بعد أن كانت تسيطر عليه مراكز متنوعة، إقطاعية وكنسية وجماعية وما شاكلها، يدور حول محور واحد هو الدولة”.. إذ، يكفى أن نلاحظ أن كلًا منا يكتشف “الدولة” قبل أن يكتشف “الحرية”؛ أو بعبارة أدق: إن تجربة الحرية تحمل فى طياتها تجربة الدولة، لأن الدولة هى الوجه الموضوعي القائم، فى حين أن الحرية تطلع إلى شيء غير متحقق.

هنا، لانغالي إذا قلنا: بالرغم من أن الأسلاف العرب، لم يستعملوا لفظ “دولة” بالمعنى الذي نستخدمه به اليوم، إلا أن المصطلح العربي يؤشر، من حيث الدلالة، على طبيعة الدولة: القوة والسلطة وكلية القدرة. ففي حين يشير الأصل اللاتيني (Status)، إلى “الحال” (ومنه جاءت اللفظة الإنجليزية “State”، والفرنسية “Etat”)، يتمحور المصطلح في اللغة العربية ـ دال، يدول، دولة ـ حول التبدل و”الغلبة”.

يذكر ابن منظور في “لسان العرب”، أن: “الدٌّولة، بالضم في المال؛ والدَّولة، بالفتح، في الحرب.. و: أُديل لنا على أعدائنا، أي: نُصرنا عليهم، وكانت الدَّولة لنا”.. أما الأزهري، فيذكر في “تهذيب اللغة” أن: “الدٌّولة، اسم الشيء الذي يتداول؛ والدَّولة، الفعل والانتقال من حال إلى حال”.. وجاء في “الكشاف” للزمخشري، أن: “الدٌّولة، اسم الشيء الذي يتداول بعينه ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر: 7]. وتداول القوم كذا، أي تناولوه من حيث الدَّولة؛ وداول الله كذا. ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]، بمعنى: صرَّفناها بينهم، فأدال الله سبحانه وتعالى لهؤلاء تارة ولأولئك تارة أخرى”.

وأيًا يكن الأمر، فإن نقطة البدء، التي لا سبيل إلى تجاوزها، في شأن التعامل مع التساؤل حول: مصير “مؤسسة الدولة”، أو بالأصح: مصير الدولة كـ”مؤسسة مجتمعية”، في الإطار العام لما نعايشه من كافة الظروف والملابسات التي يمر بها العالم الذي نعاصره، هي تلك التي تتمحور حول اصطلاح “الدولة”: ليس، فقط، من منظور “التعريف”، أو: تحديد المفهوم الذي يشير إليه الاصطلاح؛ ولكن، أيضًا، من منظور مجموعة العناصر التي يجب أن تتوافر لأي مجتمع ليكون “دولة”.

معرفة الدولة

وهي، في ما يبدو، نقطة تعبر عن إشكالية مزدوجة، سواء: لجهة “الخلط” الحاصل في كثير من الأحاديث التي تدور حول عناصر الدولة؛ أو: لجهة “الاختلاف” الحاصل في النظر إليها، من زاوية ما إذا كانت أداة ضبط ونفوذ، أم باعتبارها أداة لحل مشكلات المجتمع.

ولأن ما يهمنا، بالأساس الحديث عنه، هنا، هو هذا الجانب الأخير من الإشكالية المطروحة.. لذا، فإن مقاربة التساؤل حول: مصير الدولة كـ”مؤسسة مجتمعية”، لابد وأن تتحدد على أساس تداعيات ما نعايشه راهنا، ملامحه ومؤثراته، على عناصر الدولة.. وهو ما يدفع بالضرورة إلى البدء بالتعرف على “ما هي الدولة”، من خلال عناصرها.

بداية، تعرف الدولة (نسبة إلى المعرفة، وليس إلى التعريف)، بالعناصر التي تكونها؛ والتي هي، مبدئيًا، ثلاثة: “شعب، وأرض، وسيادة شاملة الشعب والأرض جميعًا”.. قياسًا إلى ذلك، فإن هناك بضعة نقاط لابد من التعرض لها، باختصار؛ أهمها، الثلاث التالية:

الأولى، تتعلق بـ”الاعتراف”، وما إذا كان لازمًا لتواجد الدولة، أم للإقرار بوجودها، أم للأمرين معًا. وهنا، فإنا نرى أن الاعتراف غير لازم لـ”وجود الدولة”، وإن كان لازمًا لـ”الإقرار بوجودها”. فكلمة الاعتراف بذاتها كلمة مضللة.

فهي، وإن كانت تعني، لغويًا، “الإقرار على النفس”، إلا أنها بذاتها ناقصة الدلالة، ولا تكتمل دلالتها إلا بأمرين: أولهما، بنسبة الاعتراف إلى مضمون واضح ومحدد؛ والأمر الثاني، بتحديد موقف صاحب الاعتراف من المضمون الذي أقر به (هل يكون الاعتراف بـ”وجود إسرائيل”، مثلًا، مساويًا للاعتراف بـ”دولة إسرائيل”؟!).

ولعل هذا الفارق بين “الوجود” و”الاعتراف”، في شأن الاعتراف بالدولة، يتبدى بوضوح إذا لاحظنا: إن الاعتراف ـ رغم كونه غير لازم لوجودها ـ يعتبر أمرًا بالغ الأهمية، للإقرار بوجود الدولة، على الأقل: من قبل المجتمع الدولي وقبولها عضوًا به؛ إذ، بدونه ربما تفقد الدولة كامل تأثيرها وينعدم “الإحساس” بوجودها. بل ـ يمكن أن نضيف ـ إن قدرات هذه الدولة، حتى في مجال وظائفها الداخلية في نطاق “إقليمها” (أرضها)، تصبح موضع شك كبير.

السلطة والسيادة

الثانية، تختص بـ”الخلط” الحاصل، في كثير من الأحاديث حول الدولة وعناصرها، بين “السلطة” و”السيادة”. وهنا، فإنا نرى أن ثمة ضرورة واجبة لـ”التفرقة” في ما بين هذه وتلك، السيادة والسلطة؛ خاصة في ظل ما نراه من ظروف وملابسات نمر بها في الراهن، تؤثر، أو: سوف تؤثر، على الدولة: دورها، وكيفية أدائها لهذا الدور؛ وذلك من خلال التأثيرات المتوقعة، أو: التي يمكن توقعها، على عناصر الدولة، وأهمها: عنصر “السيادة”.

وإذا كان لنا أن نحاول، هنا ـ باختصار ـ مثل هذه التفرقة، تكفينا الإشارة إلى أن:  كلمة “سيادة” هي اصطلاح (قانوني)، مترجم عن كلمة فرنسية (Souverainete´)، مشتقة من الأصل اللاتيني (Superanus)، ومعناه “الأعلى”؛ لذا، يطلق البعض على السيادة “السلطة العليا”. وهي، بهذا، تعبر عن: “صفة لمن له السلطة” (Sovereignty)؛ أي إنها أشمل من “السلطة” (Authority – Autorite´)، فالسلطة هي “ممارسة” السيادة، أو: إن حق السيادة هو مصدر حق السلطة، وهما في علاقة “قريبة” من علاقة حق الملكية بحق الانتفاع، إذ الأول يتضمن الأخير وهو مصدره.

وبالتالي، فإن الملاحظة الأهم، في شأن التفرقة بين السلطة والسيادة، هي: إن من يملك حق السيادة يملك حق السلطة، ولكن ليس من اللازم أن يكون مالك حق السلطة مالك لحق السيادة.

وبناءً عليه، يمكن أن نُدرك ما يعنيه القول: “إن عناصر الدولة ثلاثة: شعب، وأرض، وسيادة شاملة الشعب والأرض جميعًا”، فهو يعني: “سيادة الشعب على الأرض، التي تمارسها الحكومة، فتسمى حينئذٍ سلطة”.

وأخيرًا، تأتي النقطة الثالثة.. إذ، إضافة إلى الاعتراف، والتفرقة بين السلطة والسيادة؛ تتمثل هذه النقطة في “التمييز” اللازم تأكيده بين “السيادة”، كعنصر من عناصر الدولة، وبين “الاستقلال الذاتي” (Autonomy). وهنا، فإنا نرى أنه في حين تشير السيادة إلى: “السلطة العليا للدولة في إدارة شئونها، سواء كان ذلك داخلها، أو في إطار علاقاتها الدولية”، فإن مفهوم “الاستقلال الذاتي” يشير إلى: “قدرة الدولة القومية على صياغة وتطبيق سياسات خاصة بها في مختلف المجالات”

فهل يمكن، بناءً على ذلك، أن نقول: مثلما تكون السلطة هي “ممارسة” السيادة، فإن الاستقلال هو “ممارسة” السلطة(؟!).

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock