في الوقت الذي يبدو فيه التراجع الواضح للدور العربي، بخصوص القرن الأفريقي، تشهد المنطقة -وماتزال- تنافسًا متصاعدًا بين قوى إقليمية غير عربية، لأجل تحقيق مصالح استراتيجية سياسية واقتصادية، حتى بدت المنطقة ساحة للتنافس بين إيران وتركيا بوصفهما قوتين إقليميتين؛ هذا فضلًا عن إسرائيل.. ما يدفع بالأهمية الجغراستية لهذه المنطقة إلى التزايد والتنامي.
والواقع أن الانطلاق الإيراني والتركي تجاه منطقة القرن الأفريقي، كان قد بدا واضحًا بعد أحداث الجفاف التي أصابت الصومال عام 2011؛ إذ قبل ذلك لم يكن هناك وجود يُذكر لإيران أو تركيا.
النفوذ الإيراني
أثبت التقسيم المُصطنع الذي أحدثه البحر الأحمر، إلى جغرافيات أفريقيا والشرق الأوسط، أنه حجر عثرة أمام تعزيز التعاون الإقليمي. على هذا النحو، جاءت قمة يناير 2020، في الرياض لتُمثل انطلاقة هامة نحو تأسيس ميثاق مجلس الدول العربية والأفريقية الساحلية للبحر الأحمر وخليج عدن (أو: مجلس البحر الأحمر)، ويضم كل الدول المشاطئة للبحر الأحمر (مصر، السودان، إريتريا، جيبوتي، الصومال، اليمن، والسعودية).
وكما يبدو، فإن مصدر التوتر الأكبر للدول الأعضاء، يكمن في مسألة قيادة المجلس؛ ورغم أن مصر والسعودية كانتا أول من طرح فكرة هذا المجلس، في عام 2018، إلا أن السعودية تسعى إلى تنظيم شئون البحر الأحمر تحت مظلتها، وهو ما ساهم في إثارة الحذر – خاصة في القاهرة- من أن السعودية سوف تستخدم المجلس في خدمة مصالح سياستها الخارجية، وبالتحديد في صراعها مع إيران، التي تصاعد وجودها في البحر الأحمر مع اشتداد الصراع في اليمن، بعد تدخل قوات التحالف العربي بقيادة الرياض، في عام 2015.
ولم تكن مقاومة محاولات النفوذ الإيراني مصدر قلق كبير، لدول القرن الأفريقي؛ ومع ذلك أغلقت السودان والصومال وجيبوتي سفاراتها في طهران، دعمًا للسعودية في قطعها العلاقات الدبلوماسية مع إيران، في يناير 2016.
أما بالنسبة إلى إيران.. فهي تدرك تمامًا أن هناك تواصلًا جغرافيًا بينها وبين شرق أفريقيا عمومًا، والقرن الأفريقي بوجه خاص، عبر الخليج العربي والمحيط الهندي. ومن ثم اعتمدت الرؤية الإيرانية، في التعامل مع منطقة القرن الأفريقي، على توثيق العلاقات مع القوى الإقليمية فيها، مثل إثيوبيا، باعتبارها أكبر قوة إقليمية في المنطقة؛ وأيضًا كينيا، حيث تُعتبر إيران هي المصدر النفطي الأول بالنسبة إليها.
ومن الواضح، أن النشاط الإيراني في المنطقة يجري وفقًا للمرجعية الدينية الإيرانية. وهو ما جعل إيران، في إطار محاولة نشر المذهب الشيعي، تسعى إلى التوغل الثقافي والديني في دول مثل الصومال، من خلال نشاطها الدبلوماسي والتعليمي، حيث وجدت فيه أرضًا صالحة لتأسيس “كيان شيعي”.. فأدخلت مؤسسة “خامنئي”، وجمعية “الهلال الأحمر” الإيرانية، إلى أرض الصومال، واستغلت الجانب الاجتماعي، عبر اختراق الفئات الفقيرة، وتقديم المساعدات المنتظمة، والعلاج المجاني، وهو ما أدى إلى تشيع بعض الصوماليين، وإشهارهم ذلك علنًا.
ولم يتوقف الأمر عند حدود الصومال، ولكنه تعدى ذلك إلى السودان، حيث السعي الإيراني إلى التواصل مع العناصر الشيعية هناك.. والملاحظ، هنا، أن السودان يشهد نشاطًا شيعيًا في بعض المراكز، الأمر الذي أزعج دولًا خليجية، ما دفع بالنظام السوداني السابق، نظام عمر البشير، إلى إعلانه غلق هذه المراكز، وإن كان ذلك على المستوى الرسمي فقط؛ لأن هناك دلائل تشير إلى أن النشاط الشيعي مايزال مستمرًا بالسودان.
أما على المستوى الأمني، فإن إيران، وإن كانت لم تتدخل بشكل واضح في أي من صراعات منطقة القرن الأفريقي؛ إلا أنها، في الوقت نفسه، استطاعت أن تُقيم تحالفًا مع إريتريا، خصوصًا، بعد عام 2009، تمكنت معه من بناء علاقات أمنية وعسكرية معها.. فكان السماح الإريتري لـ”الحرس الثوري الإيراني” بإقامة نشاط عسكري، انطلاقًا من قاعدة عسكرية غير مُعلنة؛ وهو ما ساعد الأخير في تدريب الألاف من الحوثيين والشيعة العرب، إضافة إلى تمكنه من “تهريب” كميات وأنواع مختلفة من الأسلحة إلى الداخل اليمني.
التواجد التركي
رغم أن حكومة حزب العدالة والتنمية كانت قد أعلنت عام 2005، عام أفريقيا، إلا أن الانفتاح التركي على أفريقيا لم يكن مشروعًا جديدًا؛ إذ يمكن إرجاع هذا إلى الأحداث التي وقعت، في عام 1998، بعد استبعاد تركيا من قائمة الدول المُرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي. آنذاك، قرر وزير الخارجية التركي حينها إسماعيل شيم، إعادة صياغة المبادئ التوجيهية للسياسة الخارجية التركية، التي تضمنت وضع خطة عمل لأفريقيا (AAP)
في عام 2005، أعادت حكومة حزب العدالة والتنمية إحياء وإعادة صياغة المبادئ التوجيهية التي وضعها إسماعيل شيم؛ ومن خلالها تمكنت من توسيع نطاق السياسة الخارجية التركية تجاه أفريقيا عمومًا، وتجاه القرن الأفريقي بشكل خاص. وكانت نقطة التحول الحقيقية للانخراط التركي في هذا الأخير، هو الدور الذي لعبته أنقرة في الصومال، في عام 2011؛ حيث نفذ المسئولون الأتراك، والمنظمات الخيرية التركية، عمليات إغاثة بارزة، تخللتها زيارة رئيس الوزراء آنذاك، رجب طيب أردوغان، وعائلته، إلى مقديشيو.
وقد أكتسب الوجود التركي في الصومال أهمية “جغراستية” (جيواستراتيجية)، في أعقاب التدخل العسكري في اليمن بقيادة السعودية، في ما أُطلق عليه “عاصفة الحزم”، في عام 2015، وتقديم تركيا دعم لوجيستي لعملية التدخل، في محاولة منها لطمأنة الرياض بشأن خطط أنقرة في إقامة وجود عسكري في الصومال. إلا أنه، بعد الحصار ـ الذي كان مفروضًا على قطر ـ، في عام 2017، أعلنت تركيا عن افتتاح أكبر قاعدة عسكرية خارجية لها، في مقديشيو. ورغم ما تفيده الأوراق الرسمية من أن الغرض الرئيس هو تدريب الجيش الوطني الصومالي، لكنه ـ عمليًا ـ موقع عسكري تركي في المنطقة؛ وبالتالي، يمكن النظر إليه بوصفه تهديدا محتملا لمصالح خصوم أنقرة.
وهنا، يمكن النظر إلى التفاعلات التركية مع القوى الأخرى، خاصة إيران ودول الخليج العربية، خاصة السعودية والإمارات.
فمن جهة، أرادت تركيا تطويق المد الشيعي الإيراني بمنطقة القرن الأفريقي؛ وذلك من منظور “العثمانية الجديدة” الذي يتبناه النظام التركي، حيث تعتبر تركيا إن دول القرن الأفريقي، وشرق أفريقيا عمومًا، ضمن “الإرث القديم” للإمبراطورية العثمانية.
إلا أن النشاط التركي – في ما يبدو- يعتمد بالأساس على البعد الاقتصادي.. ففي الصومال، كمثال، بلغ حجم استثماراتها ما يقارب 400 مليون دولار، بخلاف ما تقوم به الحكومة التركية من دعم الحكومة الصومالية، بحوالي 4.5 مليون دولار شهريًا، لدفع رواتب الموظفين.. هذا، بالإضافة إلى أن تركيا هي “الدولة الأولى” في إعادة إعمار الصومال، عبر عملية إعادة بناء مطار مقديشيو، وإعمار الطرق، وتأهيل المدارس، وبناء المستشفيات.. وفي إثيوبيا، كمثال آخر، تمكنت تركيا من بناء علاقات وطيدة وقوية معها، حيث تعد تركيا من أكبر المستثمرين فيها، باعتبارها قوة إقليمية، ومصدر مُهم للثروة الحيوانية.
إلا أنه، من جهة أخرى، يبدو أن دول الخليج المُصدرة للنفط والغاز، تتفوق على تركيا في القدرة على متابعة برامج الاستثمار والمساعدات الثنائية لدعم أجندتها السياسية. إذ، تتسم علاقات السعودية والإمارات مع القرن الأفريقي بأنها قائمة على نطاق واسع على نهج “المساومة” الذي يعتمد على سلسلة من المقايضات المُعقدة ذات الأهداف السياسية والاقتصادية؛ حيث يسمح الأسلوب المهيمن للرياض وأبو ظبي، بمقايضة وتأمين الولاءات من خلال وعود الدعم المالي، وهو أسلوب يؤدي دوره على أكمل وجه في السوق السياسية التنافسية للقرن الأفريقي، ولاسيما في السودان والصومال.
الدور الإسرائيلي
أما إسرائيل.. فهي تُركز في سياستها تجاه القرن الأفريقي على دول مثل إثيوبيا وكينيا، عبر التعاون في ميادين الاستخبارات والتدريبات العسكرية. أضف إلى ذلك إريتريا، التي حصلت منها على “حق استعمال” جزيرة دهلك، الواقعة قبالة ميناء مصوع الإريتري، بموجب اتفاق أفضل وأشمل من ذلك الذي كان قد وقّع مع الإثيوبيين، في عهد منغستو هيلا ميريام، رئيس إثيوبيا الأسبق. وبموجب هذا الاتفاق، تطورت القاعدة العسكرية لتصبح قاعدة جوية وبحرية لمختلف أنواع الغواصات، ومن ضمنها غواصات “دولفين” النووية، التي بنتها ألمانيا بمواصفات خاصة حددتها إسرائيل.
ولعل ذلك كله وغيره، وإن كان يأتي في إطار الاستهداف الإسرائيلي في إعاقة تحويل البحر الأحمر إلى “بحيرة عربية”.. إلا أن التواجد الإسرائيلي في القرن الأفريقي يأتي أيضًا عبر استهداف الوقوف في وجه المنظمات والحركات الإسلامية الأصولية، خاصة المسلحة، لتقديم نفسها إلى الغرب على أنها المدافع عن القيم الديمُقراطية في مواجهة الأصولية الإسلامية.
وهكذا تتبدى فاعلية التنافس الإقليمي عاملا مؤثرا في تزايد الأهمية الجغراستية للقرن الأفريقي. وإن كان ذلك التنافس يأتي على حساب الدور العربي، خصوصًا في منطقة شمال أفريقيا، في هذه المنطقة التي تمثل البوابة الجنوبية للأمن العربي عمومًا، ولمنطقة الخليج العربي، ومصر، على وجه الخصوص.