رؤى

تزوير التاريخ في عصر المعلومات

“قضية “تزوير التاريخ” بمختلف دوافعها: من التزوير المتعمد بقصد المصلحة، إلى التبرير الأيديولوجي، أو التعصب والتزمت في الرأي.. (هذه القضية) نشاط إنساني، يكاد يكون “طبيعيًا” ويمارسه البشر منذ قديم الزمان”.

قبل أكثر من أربعة عقود من الزمان، بعد 3199 سنة من وفاة الفرعون المصري رمسيس الثاني، أرسلت الدولة المصرية جثته إلى باريس ليعالج الأخصائيون “بثورًا” تكاد تشوه بشرته اليابسة. وأُحيطت رحلته إلى مدينة الجمال والتجميل باهتمام العالم كله. ولعل هذا أسعد وأرضى روح رمسيس الثاني الذي كان مفتونًا بفكرة الخلود، فأراد أن يُخلد نفسه بأن يكتب هو التاريخ، ويكتبه على أكثر الأحجار مقاومة للزمن، وأن يُشيد من تلك الأحجار تماثيل ومعابد أقامها على طول وعرض أرض مصر. لذا، استطاع أن يعيش فعلًا في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، بشرًا ثم مومياء ثم معابد وتماثيل وتاريخًا مكتوبًا، إلى أن يُدرك عصر الذرة، فيذهب إلى معامل التجميل في باريس.

شيئان لم يفطن إليهما رمسيس الثاني: أن الخلود حكم تاريخي تملكه البشرية في ما يأتي من أجيال، وأن الأجيال التي فتنتها فكرة الخلود في ذاكرتها سوف تكتشف أنه لم يكتب التاريخ.. بل زيفه.

والواقع، أن هذا ما حدث فعلًا. فقد اكتشف علماء التاريخ المصري القديم، أن الفرعون رمسيس الثاني قد زيف التاريخ، بقصد نسبة كل انتصار جليل إلى ذاته. وزيفه بأسلوبين: بأن سطر على جدران المعابد، معابده، تاريخ انتصارات لم يكن هو صاحبها، ونسبها إلى نفسه.. وثانيهما، بأن قوض أركان بعض ما شيده أسلافه من معابد، وانتقى منها أحجارها المسطورة بتاريخ النصر، والحكمة، وحشرها في بناء جدران معابده.

 وهكذا، ترك لنا رمسيس الثاني مجموعة من التماثيل والمعابد، تحمل تاريخًا مغلوطًا، معظم مفرداته من خياله، ومما سطر أسلافه من تاريخ.

مومياء الملك رمسيس الثانى
مومياء الملك رمسيس الثانى

تزوير التاريخ

قطعًا، فإن رمسيس، كمثال استشهد به عصمت سيف الدولة في كتابه: “هل كان عبد الناصر ديكتاتورًا؟، 1977″، لا يمثل سوى أحد النماذج ـ وإن كان أكثرها قدمًا ـ في قضية “تزوير التاريخ”. إذ، إن هناك العديد من الأمثلة، على مستوى ـ ربما ـ أقل ضخامة، و ـ بالتالي ـ أقل فداحة.

فطه حسين، كشف عن حقيقة أن جزءًا كبيرًا من الشعر الجاهلي، قد صنعه (ولا نقول: نظمه) شعراء مسلمون بعد عدة قرون من نهاية ما أصطلح على تسميته “العصر الجاهلي”؛ والبابا، في روما، زوّر كتاب اعتماد من الإمبراطور قسطنطين، يفوضه بموجبه رعاية الكنيسة “الغربية” في روما؛ وقارة أمريكا، أو: “العالم الجديد” بأكمله، ذلك (العالم) الذي أخذ اسمه، ليس من سكانه الأصليين، ولكن من تاجر “مخلل” فاشل من أشبيلية، يدعى “أمريجو فسبوتشي” (Amerigo vespucci )، كان قد أوهم رسام خرائط (عام 1497) بأنه هو المكتشف الأصلي.

وفي التاريخ الحديث، تواطأ “الغرب” كله على إغفال حقيقة انتشار الفقر في الولايات المتحدة، منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى إعلان “الحرب على الفقر”، في زمن الرئيس الأمريكي جونسون (عام 1965).

قضية ” تزوير التاريخ “، إذًا، بمختلف دوافعها: من التزوير المتعمد بقصد المصلحة، إلى التبرير الأيديولوجي، أو التعصب والتزمت في الرأي.. (هذه القضية) نشاط إنساني، يكاد يكون “طبيعيًا” ويمارسه البشر منذ قديم الزمان.

هنا، يبدو أن تساؤلا يطرح نفسه، بعد أن وصلنا إلى “عصر المعلومات”.. ترى، أي الاحتمالات أقرب إلى الواقع: اكتشاف حقيقة التزوير بسهولة، أم العكس؟.

هل كان عبد الناصر ديكتاتورًا

تزييف الصورة

بداية، يمكن الزعم ـ دون ما مبالغة ـ بأن سقوط جدار برلين (عام 1989)، قد كشف، ضمن ما كشف، عن أكبر عملية تزوير للتاريخ في زماننا. فقد اتضح، بعد سقوط “الجدار الفاصل”، أن المعسكر الشرقي لم يكن اشتراكيًا بالمعنى المتعارف عليه لـ”الاشتراكية “، وأن المعسكر الغربي لم يكن رأسماليًا بالمعنى الذي حاول دعاة “الرأسمالية” تصويرها، وأن المعركة الأيديولوجية الكبرى ـ التي شغلتنا طيلة ثلاثة أرباع القرن الماضي، بين الاشتراكية بعد نجاح الثورة البلشفية، وبين الرأسمالية بعد ميلاد دولة الرعاية (Walfare State) في الغرب ـ لم يكن لها علاقة بالواقع المعاش.

كيف يمكن أن تنطلي هذه الخدعة، أو: كيف يمكن أن يسيطر هذا الوهم، أو بالأحرى: كيف يتمكن هذا “التزوير” من مخيلة ملايين البشر طيلة هذه الفترة التاريخية؟.

تتضمن محاولة الإجابة على هذا التساؤل، كلًا من الاحتمالين اللذين انطوى عليهما..

فمن جهة، لم نستطع اكتشاف هذا التزوير خلال الفترة التي كنا فيها “نتزامن” مع اشتعال الحرب الأيديولوجية الكبرى بين المعسكرين الشرقي والغربي. بل، إن الثورة العلمية والتقنية، التي تفجرت على أرض الواقع الدولي، منذ بدايات عقد “السبعينات” من القرن الماضي، كانت قد ساهمت ـ من خلال شقها المعلوماتي، على الأقل ـ في “ترسيخ” ذلك التزوير طيلة اشتعال هذه الحرب.

إلا أنه، من جهة أخرى، ما كنا لنستطيع اكتشاف التزوير إلا عن طريق “المعلومات” التي وردت إلينا عن الواقع المعاش في كل من المعسكرين، ولكن بعد انتهاء “الحرب” بانهيار أحد قطبيها؛ أي بعد أن أصبح هذا التاريخ، تاريخًا.

الخداع الأيديولوجي

لأن كافة الأمثلة التاريخية، الدالة على قضية “تزوير التاريخ”، تؤكد أن اكتشاف التزوير لم يكن ليتم إلا بعد أن تصبح “واقعة التزوير” في رحاب التاريخ؛ تصبح النتيجة الأقرب إلى المنطق، أن إمكانية اكتشاف التزوير، “تزوير التاريخ”، بسوء نية وبشكل متعمد، أصبحت أكثر صعوبة وتكاد تكون شبه مستحيلة، وعلى وجه الخصوص في ظل الثورة العلمية والتقنية، بما وفرته من وسائل وتقنيات مختلفة.

إذ، يصبح التزوير ، تزوير التاريخ في عصر المعلومات، هو أقرب إلى ما يمكن تسميته بـ”الخداع الأيديولوجي”؛ وهو حالة أكثر تعقيدًا من الحالات السابقات. فعندما نطلق اسمًا أو صفة على شيء ما، فإن الاسم لابد أن يكون قطعي الدلالة، أي مجموعة من السمات المشتركة التي تميز الرأسمالية عن الاشتراكية، مثلًا؛ ولكن، إذا تغيرت مجموعة السمات التي تميز هذا الشيء، يصبح بلا مسمى، بلا مدلول، بلا معنى. بل يصبح، في عصر المعلومات، وفي إطار تسلط البيروقراطية والميديا (الإعلام)، صورة، أو تصور (Image) محدد، يتم الوصول إليه ـ في أحوال معينة ـ بناء على أسلوب المعلومات ورغبة من قام بإرسالها أو بثها.

في ما يعنيه، يعني ذلك أنه حين تحاول الدول الغربية المعاصرة، إقناع العالم بان أنظمتها المطبقة في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، تمثل تحقيقًا تاريخيًا للفكرة الليبرالية الأولى التي استلهمتها؛ فإنما هي تخادع بذلك، وتستأنف إنتاج الأيديولوجيا ، كـ”عقيدة موجِهة”، عبر صورة زائفة، معتمدة في هذا على احتكارها وديكتاتوريتها للصورة، التي تتسم بها اللحظة الإعلامية الراهنة.

إن ذلك، وإن كان يستحق أن يوصف بأنه “تزوير التاريخ”، أو قل “الخداع الأيديولوجي” في عصر المعلومات؛ فإنه، في الوقت نفسه، يشير إلى، إن لم يكن يؤكد على، أن ثمة تغير ما نعايشه في الراهن علينا إدراكه والوعي به.

إنه ذلك التغير الذي يمكن التعبير عنه بـ”ثقافة الصورة”، أو “ديكتاتورية الصورة” بالأحرى.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock