مختارات

مأزق تعليم اللغة العربيّة في العالم العربيّ: هل بلغنا مرحلة ضرورة توحيد مناهج تعليم اللغة عربيًّا؟

إبراهيم فرغلي

نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك

أظنّني من جيل تعلّم اللغة العربيّة وأتقن قراءتها واستيعابها. وأزعم أيضًا أنّني أتمتّع بقدرٍ مقبول من الاطّلاع على علم النحو والصرف. ولكنّي أعترف، في الوقت نفسه، أنّ هذا الاطّلاع وما يسفر عنه من تجويد، ليس عن معرفة جيّدة بأصول النحو؛ إذ إنّني لم أتخصّص في دراسة اللغة، بقدر ما يعود الأمر إلى خبرة القراءة والكتابة.

وأعتقد أنّ كثيرًا من أقراني ممّن لم يكن لهم اهتمامات أدبيّة، والذين تعلّموا مثلي في مدارس حكوميّة تمتّعت بمنهج معقول لتعليم اللغة، ربّما لم يتوفّر لهم حسن إتقان اللغة، لكن على الأقلّ كانوا يجيدون قراءتها واستيعابها، ويمتلكون معجمًا لغويًّا لا بأس به. علمًا أنّني تلقّيت تعليميّ الأساس في كلّ من سلطنة عمان ودولة الإمارات العربيّة المتّحدة، ثمّ مصر.

لكنّي اليوم، أرى كثيرًا من الشباب العرب يفتقرون إلى معرفة اللغة العربيّة قراءةً وكتابة، رغم أنّهم يعرفون لغات أجنبيّة أخرى، ويتقنون من بينها واحدة على الأقلّ؛ فأدرك أنّ مناهج تعليم اللغة العربيّة أصبحت أسوأ ممّا كانت عليه أيامَ الجيل الذي أنتمي إليه. كما أستنتج توسّع انتشار المدارس الأجنبيّة التي حلت في بلادنا منذ نحو عقدين أو أكثر، والتي جاءت استجابة لعاملَين كما أتصوّر: الأوّل أنّها مثّلت لدى نخب حكوميّة عديدة الأداة المثلى لتوفير تغيير نوعيّ في المجتمعات العربيّة، يمكنها بها نقل هذه المجتمعات إلى الحداثة؛ أمّا العامل الثاني فهو اقتصاديّ بحت، لأنّ التعليم الأجنبيّ الخاصّ يخضع لمنظومة استثماريّة رأت في هذا المجال فرصة لتحقيق أرباح من جهة، واستثمارًا في التنمية البشريّة في الوقت نفسه.

مخرجات الحداثة العربيّة

لكنّنا حين نتأمّل مخرجات هذا النظام التعليميّ “الحداثيّ”، سنرى أنّنا إزاء جيل لديه معارف حديثة، واطلاع واسع على منتج الثقافة والفنّ الغربيّ، ويتمتّع بعقليّة نقديّة لا بأس بها، ومعرفة جيّدة بارتباط الحداثة بحقوق الإنسان. لكنّه، في المقابل، قد لا يكون مطّلعًا على ثقافته المحلّيّة، وتاريخ الحضارة التي ينتمي إليها، بالقدر ذاته من اطّلاعه ومعرفته بالثقافة التي يدرس بلغتها. إضافة إلى أنّه، كما هو شائع حاليًّا بين الأجيال الجديدة التي تتعلّم بلغات أجنبيّة، لا يمتلك القدرة على التعبير عن نفسه بلغته الأمّ، ويفضل، بل ولعلّه يجيد، أن يفعل ذلك باللغة الأجنبيّة.

وحين أُعيد التأمّل في هذه الظاهرة، أجد أنّ الحكومات العربيّة، متبوعة بأجيال من الآباء من النخب العربيّة، قد منحوا بأيديهم أبناءهم فرصةَ الانضواء تحت هويّة مختلفة، وثقافة مختلفة. وما إن يصل الأبناء سنّ المراهقة وما بعدها، حتّى يتبيّن جيل الآباء أنّهم خلقوا بأنفسهم فجوة واسعة بين ثقافتهم وبين ثقافة أبنائهم. وهي فجوة سوف تمثّل، بشكل ما، أزمة هويّة أيضًا يعانيها هذا الجيل.

فهو جيل ينتمي إلى ثقافة غربيّة، يرى فيها النموذج الأمثل للتطوّر والتقدّم والحرّيّات. ويتلقّى هذه القيم بطريقة تجعله ينظر إلى ثقافته نظرةً لا تخلو من الدونيّة، في أغلب الأحوال. وسوف تتماهى رؤيته النقديّة إلى المجتمع الذي ينتمي إليه، مع رؤية الآخر الذي يتعلّم لغته.

ومن المهم أن نعي أنّ هذا الجيل، في الحقيقة، لم يرغب بإرادة تامّة في هذا الخيار، لكنّه استسلم لخيارات الآباء الذين انحازوا إلى تجربة تعليميّة جاءت في إطار استراتيجيّات تحديث المجتمعات العربيّة. وهو نفسه سوف يدفع ضريبة هذا الخيار ممثّلا في شعور مستدام بأزمة اللغة أو الهويّة، طالما يعيش في المجتمع الذي ينتمي إليه. أمّا إذا اختار أن يعيش في مجتمع غربيّ، فيمكنه أن يتحدّث فيه بلغته، ويعبّر عن نفسه فيه بطريقة أكثر يسرًا واقتدارًا؛ لكنّه غالبًا سيصطدم لاحقًا بالاختلافات الثقافيّة بين المجتمعين.

مفارقات الاغتراب الثقافيّ

ولا علاقة في هذه الحالة للّغة بهذا الاختلاف، بل بالمفارقة التي تجعل الكثير من أبناء هذا الجيل يشعرون أنّهم يعيشون حالة يمكن وصفها بـ “الغريب الأليف”؛ أفراد يألفون ثقافة أرض غريبة إذا أقاموا في الغرب، لكنّهم لا يستطيعون منع الإحساس بأنّهم غرباء عن تلك الثقافة وليسوا من أبنائها الأصليّين. بينما في بلادهم أو مواطنهم، هم يألفون طبيعة مجتمع ينتمون إليه وثقافته، ولكنّهم لا يجيدون التواصل معه بلغته – لغتهم الأمّ!

وأظنّ أنّ لهذه المفارقة التي تسبّب فيها وجودُ نظم التعليم الغربيّة الدوليّة في المجتمعات العربيّة، مع عدم الاهتمام بتعليم اللغة العربيّة بين مناهجها بالشكل اللائق، تأثيرًا كبيرًا على الثقافة العربيّة لأنّها تسبّبت في وجود أجيال من الشباب العرب الذين تنقطع صلاتهم بلغتهم الأمّ، رغم وجودهم في مجتمعات عربيّة، لغتها الرسميّة وإعلامها وطبيعة الحياة اليوميّة فيها تقوم على التواصل باللغة العربيّة.

وفي مثال قد يبدو بعيدًا عن الموضوع، لكنّ دلالاته مهمّة: كنت أقرأ كتابًا يتناول توثيقًا تفصيليًّا لرحلات السيّدة أم كلثوم في أرجاء العالم العربيّ، عقب هزيمة 1967، دعمًا للمجهود الحربيّ في مصر. والكتاب لافت في صياغته والجهد البحثيّ المبذول فيه، لكنّ أمران أثارا انتباهي؛ الأوّل هو الديباجات التي كانت تُقدّم بها أمّ كلثوم في حفلاتها، وتاليًا المخاطبات والمراسلات بين الفنانة أمّ كلثوم وبين الجهات الرسميّة، أو الكلمات التي كانت تلقيها في الإذاعة من أجل رفع معنويات القوات على الجبهة والشعب. أمّا الثاني فيتعلّق باختيارها قصائدَ عربيّة تتّسم بالفصاحة والبلاغة، استقبلتها الجماهير في ربوع العالم العربي بنشوة وسعادة واستحسان، حتّى إنّ قصائد مثل “أراك عصي الدمع”، أو “أقبل الليل، أو “الأطلال” تُطلَب بشكل مستمرّ من قبل الجماهير.

وهي دلالة رمزيّة على أنّ اللغة العربيّة كانت لها مكانة، ومن المؤكّد أنّ الأمر يعكس بشكل أو بآخر، تطوّرَ مناهج تعليم اللغة العربيّة من جهة، ومستوى معلّمي اللغة العربيّة من جهة أخرى.

نعرات ودعوات إيديولوجيّة

ومع هذه الظاهرة المتنامية، شاعت خلال العقد الماضي نعرة لا يمكن القول إنّها جديدة، لكنّها أخذت شكلا متناميًا ولافتا وفي أكثر من قطر عربيّ. وتتمثّل في ظهور أصوات تدعو إلى استخدام اللهجات المحلّيّة بديلا عن اللغة العربيّة، خصوصًا مع شيوع التدوين في وسائل التواصل الاجتماعيّ بتلك اللهجات في الأقطار العربيّة المختلفة، والدعوة إلى ما يسمّيه أنصار تلك الدعوات “العودة إلى اللغة الأمّ”! وهي دعوات مبنيّة في جوهرها على “إيديولوجيّات” قوميّة لا تخلو من نوع من العنصريّة المبنيّة على إحساس بالتفوّق، وتنطلق من مشاعر مراهقة في حقيقتها كما أزعم، بالإضافة إلى أنّها تتبنّى خطابًا يقول إنّ اللغة العربيّة هي لغة المحتلّ، ويقصدون بذلك الفتح العربيّ للدول التي تستخدم اليوم اللغة العربيّة. ثمّ يحاولون، من أجل المزيد من الترويج لذلك، “ترجمة” أعمال أدبيّة أجنبيّة كلاسيكيّة إلى ما يسمّونه “اللغة المصريّة” مثلًا، أو “اللغة المغربيّة”، وذلك لأنّ هناك تيّارًا قوميًّا مثيلًا في المغرب.

وهناك تيّارات شبيهة بدأت تظهر في شكل مجموعات على وسائل التواصل، مشغولة بمهاجمة فكرة العروبة، والقوميّة العربيّة، وإظهار العداء لجماعات الإسلام السياسيّ ومحاولات الربط بين الإسلام السياسيّ والفكرة العروبيّة! وهي في مجملها توجّهات لا تقوم على أيّ منهج عقلانيّ متوازن أو علميّ، وتستخدم أفكارا مشوّشة لأنّ أغلب من يمثّل تلك المجموعات شبابٌ صغير، مراهق، لا يتحلّى بأيّ نوع من المعرفة أو الثقافة. وهذا ما يجعل المرء يتساءل عمّن يقف خلف مثل تلك الدعوات.

أزمة مناهج ووسائل تعليم

ولو كانت مناهج اللغة العربيّة في مدارسنا العربيّة، في حال يماثل جودة تعليم اللغات الأجنبيّة التي تطوّر مناهجها باستمرار وتبحث عن سبل تبسيط اللغة والابتكار والإبداع، فلربّما اطمئنّ الفرد منّا إلى أنّ كلّ تلك الدعوات والظواهر المعادية للّغة العربيّة لن يكون لها أثر. لكنّ المشكلة الحقيقيّة التي نواجهها هي ضعف مناهج اللغة العربيّة بشكل يدعو إلى الأسى والقهر، ناهيك عن ضعف إعداد مدرس اللغة العربيّة من جهة أخرى.

ويبدو لي أنّ جانبًا من هذه الظاهرة يعود إلى استمراء الزعم بصعوبة تعلّم اللغة العربيّة. وبالتالي إيجاد مبرّر آخر للاستسهال في الدعوة إلى استخدام العاميّات، كلغة تدوين أو كتابة، على الرغم من صعوبة فعل ذلك باستخدام لهجات محلّيّة هي فروع من اللغة العربيّة، بلا قواعد ولا ضبط ولا قوانين.

مدارس تقليديّة متطوّرة

ومن المدهش أنّني عندما حاولت تتبّع مناهج التعليم التقليديّة القديمة، في الأندلس على وجه خاصّ، في محاولة لفهم أسباب الطفرة العلميّة في الفقه والحكمة والطبّ، تبيّنت أنّ نظامًا تعليميّا صارمًا كان يُفرَض على من يودّ التخصّص في العلوم. ولكن، استوقفني أنّ هذا التطوير قد نال منهج تعليم اللغة العربيّة أيضًا؛ فوفق ما ذكره ابن خلدون في مقدّمته الشهيرة، كتب الفقيه القاضي أبو بكر بن عربيّ (468-543 هجريّة):

“يجب على الوليّ في الصبيّ المسلم كان أبا، أو وصيًّا أو حاضنًا، أو الإمام، إذا عقل أن يلقّنه الإيمان ويعلّمه الكتابة والحساب، ويحفّظه أشعار العرب العاربة، ويعرف العوامل في الإعراب، وشيئًا من التصريف، ثمّ يحفّظه كتاب الله وهو أمر وسط متساوٍ بين أهل المشرق والمغرب، ثمّ يحفّظه أصول سنن الرسول (ص) ويأخذ بعد ذلك نفسه بعلوم القرآن ومعنى كلماته، ولا يشتغل برواية الحديث من كلّ كتاب، فالباطل فيه كثير… ولا يفرط في علم الفرائض فإنّه أصل الدين، ولا يخلي نفسه من الأنساب، وشيء من الطبّ، ولا يفرد نفسه ببعض العلوم، فيكون إنسانًا في الذي يعلم بهيمة فيما لا يعلم”.

وفي زمن ابن رشد (1126-1198)، شاع ابتكار يقرّ استخدام الشعر لاختبار قدرات الطلبة على النحو والصرف، لأنّهم كانوا يحفظون الإعراب لآيات القرآن الكريم، لكنّهم لا يتقنونه في نصوص أخرى. كما يشير الباحث الفرنسي دومينيك أورفوا في كتابه “ابن رشد… محنة مثقّف مسلم”. وفيما يلي نصّ ما أورده أورفوا:

“إنّ نظام التعليم في الأندلس هو نفسه في كامل العالم الإسلاميّ، إلّا أنّه يمتاز بتنظيم أحكم في المستوى الابتدائيّ، فتعليم اللغة العربيّة ينتظم، بطبيعة الحال، انطلاقا من القرآن الذي ينبغي على التلميذ أن يحفظه عن ظهر قلب. غير أنّ الأندلسيين أضافوا إليه مختارات من الشعر وأمثلة من فنّ الترسّل وكذلك بعض مبادئ النحو. وقد دافع أبو بكر بن العربيّ بحمية عن هذه الممارسة خصوصا ضدّ المغاربة في الاقتصار على حفظ القرآن. فقد رصد أنّ اللغة العربيّة تطوّرت كثيرًا منذ الوحي وطالب بأن يبدأ بتعليم الشعر لتفادي أخطاء اللغة التي يمكن أن تصيب العالم الدنيويّ ولكن ليس الكتاب المقدّس، وبأن يتشبّع الطلّاب بديوان العرب”.

والمقصود أنّ الحضارات الكبيرة كانت تولي التعليم أهمّيّة كبيرة، وتحاول إرساء مناهج تعليميّة تضمن حصول المتعلّمين على أفضل سبل تحصيل العلم، واللغة في قلب ذلك كلّه.

ومن المدهش حقًّا أنّنا لو تأمّلنا الكثير من مناهج اللغة العربيّة اليوم، لوجدنا أنّها تنحو نحو العودة إلى ما قبل مدارس الأندلس. وتفتقر إلى التنويع في النصوص الجذّابة والشعر، وفي تبيين وسائل الكتابة المختلفة، وجماليّات اللغة. كما تفتقر إلى وسائل التطبيق والتركيز على القواعد النحويّة بشكل يصعب فهمه على الطلبة إذا لم يحفظوه. وتفتقر إلى استخدام تقنيّات الصوت والصورة، وتوفير نماذج ممتعة للتعلّم باستخدام التطبيقات الحديثة.

وهذا كلّه يجعلني أفكّر أحيانًا كيف يمكن إنقاذ اللغة العربيّة، وهل يمكن أن يكون الحلّ في استراتيجيّة تعليم متطوّرة يتمّ طرحها على مستوى الدول العربيّة، وتعميم منهج تعليم اللغة العربيّة من خلال مؤسّسات جامعة مثل جامعة الدول العربيّة مثلًا؟

طبعًا المشكلة أنّ العوائق السياسيّة في حالات كهذه، قد تحول دون الأخذ بهذه الوسيلة. بالإضافة إلى ما سيقال عن الخصوصيّات الثقافيّة، وعن الفكر الشموليّ الموجَّه. لكن، مع ذلك، أظنّ أنّ تطوير مناهج اللغة العربيّة موضوعٌ يصل في أهمّيّته إلى أهمّيّة الأمن القوميّ العربيّ. وأعتقد أيضًا أنّ هذا المنهج ينبغي أن تلتزم به المدارس الأجنبيّة الدوليّة في العالم العربيّ، بحيث لا يفقد الطلبة العرب الذين يتعلّمون في المدارس الأجنبيّة لغتهم الأمّ، أو يفقدوا الإحساس بأهمّيّتها وضرورة امتلاكهم سبلَ التعبير بها.

نتمنّى حقًّا أن تنتبه وزارات التعليم العربيّة لهذه القضيّة الخطيرة، لأنّه من غير الممكن أن تقوم حضارة بدون لغة، خصوصًا وأنّ التراث الثقافيّ للأمّة العربيّة يتراكم مدوَّنًا بهذه اللغة الخصبة المطواعة التي تمتلك الكثير من الجماليّات والقدرات التعبيريّة، والقابلة للتطوير إذا وجدَت من يملك الإرادة والفكر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock