ثقافة

المفكر الكبير.. بين الدعاء له والدعاء عليه!

اللهم إن لم يعد إلى رشده؛ أسألك أن تجعل كيده في نحره. يا ترى من ذلك الذي فرض عليّ أن أدعو له، ثم أعود فأدعو عليه؟ الجواب معروف. وهل من أحد غيره؟ إنه “المفكر الكبير”، أو ذلك المصطلح الغامض المعيب الذي ما زلنا نسمع بعض فاقدي الوعي يطلقونه على نفر من المهتمين بالفكر.

إنه مصطلحٌ من أخطأِ وأخطرِ ما يمكن. خاطئ لأن التفكير ليس مهنة يختص بها شخص بعينه أو تستأثر به قلة من الناس، وإنما عملية إنسانية انسيابية وتلقائية ليس لها سقف أو نهاية، وإنما تجذب الجميع إليها وتجرف الكل إلى مسارها. وإذا كان أحد لا يملك أن يدعي أنه “مفكر” فما بالك بأن يدعي بأنه “كبير”. كذلك فالتعبير خطير لأنه يدغدغ مشاعر المتشوقين إلى التمجيد، والمتلهفين على التقديس، والساعين إلى الشهرة والبروز. فلم يطلق مرةً على رجل إلا وتجده قد سار بين الناس بخيلاء، وتكلم للناس من طرف أنفه. تعبير يصيب من يوصف به بتضخم مفرط في الذات، وبكل أمراض النرجسية المستعصية، عندما يقتنعون من كثرة ترديد الكلمة بأنهم من طينة مختلفة عن كل الناس، وبالأخص عمن يمارسون التفكير مثلهم، ما يدفعهم، بقصد أو بغير قصد، إلى التجبر على الناس، بل والتكبر على الفكر نفسه.

“المفكر الكبير” من وجهة نظري تعبير عنصري، يربي في نفس البعض إحساسا عميقا بالتميز، بل والغرور ويكرس فيهم روح الاستعلاء، فضلا عن أنه يتنافى من الأساس مع رسالة التفكير ودور المفكر. فالتفكير حالة تفاعل مفتوحة وساحة نقاش حرة متاحة للجميع. وهو كذلك سجال ومداورة، ومداولة، وأخذ ورد. وبالتالي فهو دائما ما يبقى أفقيا، الناس فيه سواسية كأسنان المشط. أما أن يخص البعض نفسه أو أن يخصه غيره بلقب “المفكر الكبير” فأمر يحيل التفكير إلى ترتيب هرمي يأتي البعض فيه على القمة؛ فيما يقف البعض الآخر فيه عند السفح، وهو أمر معيب علميا وأخلاقيا فضلا عن أنه يمزّق كافة الروابط المفترض أن يعززها التفكير بين العاملين في صناعة الرأي والأفكار.

ولم تكن ظاهرة “المفكر الكبير” لتنتشر في منطقتنا إلا لطبع سيئ فيها. إذ يتفشى فيها النفاق والمبالغة وحب الكلام الكبير والميل إلى التعظيم والتضخيم. منطقة ثقافتها غارقة في اصطناع الهالات وتمجيد الشخصيات. وإذا كان استعمال كلمة “كبير” مفهوما، بالرغم من أنه ليس بالضرورة مبررا، في حالة بعض الأبطال التاريخيين، إلا أنه غير مقبول بالمرة في عالم الفكر. فلا يستحق أحد في هذا العالم أن يسمى “بالمفكر الكبير” لأن كل من فيه يعملون كما يعمل غيرهم في الدراسة والقراءة والبحث وصناعة الأفكار. قد يكون البعض منهم أكثر اجتهادا من الآخر. لكن جهده مع ذلك لا يؤهله لكي يكون “الأكبر” أو الأرفع مقاما. فالمفكر الحق يتوخى أشد درجات التواضع، فيرفض الألقاب المضخمة. وهو أول من يعرف أنه كلما فكر كلما أكتشف عيوبا في أفكاره، وأن كثيرا قد غاب عنه وأن هناك جديدا ما يدفعه باستمرار لمراجعة قناعاته والتواضع في استنتاجاته. المفكر الحق هو من يؤمن بأنه لا يمتلك إجابات مطلقة أو حلول نهائية. أما “المفكر الكبير” فلا يعرف للأسف شيئا من ذلك؛ لأن صلفه وكبريائه كثيرا ما يدفعانه إلى توهم امتلاك الحقيقة المطلقة، وتخيّل أن ما يقدمه للناس هو الأحكام التامة والحلول الكاملة.

ويزيد من تعاسة المشهد أن نجد بعض متوسطي القامات، أو حتى من هم دون ذلك، وقد أشير إليهم على أنهم من فئة “المفكر الكبير”. أحيانا تُلمّعهم أجهزة السلطة، وأحيانا تجمّلهم حملات علاقات عامة مشبوهة، وفي أحيان أخرى يشنون إعلانات مدفوعة الأجر تروج لهم وتصفهم “بالمفكرين الكبار”.

أما التعبير فيبقى “من ساسه إلى راسه” ملفقا ورخيصا. تعبير مبتذل فرضته دنيا المصالح، ولم يوجبه عالم الأفكار. ودنيا المصالح كما نعرف كلها تخابث ومكر وادعاء وقهر وسيطرة ومحاولات من نفر لركوب الموجة على حساب نفر آخر. أما عالم الأفكار فيقوم على الندية والإيمان بقيمة كل رأي آخر، ويحث على الزهد في النجومية والاستعداد للاستماع باحترام إلى الآخرين، وإلى الميل المتواصل إلى تجديد المعرفة. ولهذا السبب كثيرا ما يصدم الناس، عندما يجدون سيادة “المفكر الكبير” وهو يعتني بالشكل دون الفكر، ويجيد ألوان التخوين والسباب، بدلا من فنون الرد والجواب، فيجدونه يقصف جبهة الآخرين، وينال من أعراضهم، بدلا من التصدي لمناقشة موضوعية بنّاءة معهم حول الأفكار. كما يصدمهم أن يروا “المفكر الكبير” وهو يسرف في طلب الأضواء مثله مثل نجوم الكرة والسينما والغناء.

ولم يكن غريبا في ظل زمن تنتشر فيه العلامات التجارية branding أن يسعى بعض الباحثين والصحافيين وأساتذة الجامعات والمحامين – إلى تقديم أنفسهم كعلامات تجارية؛ فيسمي كل واحد منهم نفسه “بالمفكر الكبير”. ومثله مثل أي علامة تجارية لسلعة غذائية أو وصفة دوائية تجد سيادة “المفكر الكبير” وهو يتشدق ويقعر في الكلام على شاشات القنوات التلفزيونية وفي صفحات الجرائد وفي المنتديات العامة. كما قد تجد إعلانات صحفية وتلفزيونية متتالية وهي تنوه إلى الحلقة القادمة مع سيادة “المفكر الكبير” لتقنع الناس بأهمية متابعتها. مثل هذا السفه لم يعد مستغربا في ظل الحياة الاستهلاكية التي نعيشها والتي جعلت كل شيء، بما في ذلك الفكر، سلعة من السلع. “المفكر الكبير” نتاج عصر الرأسمالية الرثة والفظة التي عرفناها في منطقتنا والتي لا تتورع عن التربح من أي شيء والتجارة في كل شيء؛ حتى في الفكر والثقافة بعد أن تجرّأت وباتت تتاجر في الدين نفسه. “المفكر الكبير” هو أحد العلامات التجارية التي ترعاها بعض الحكومات والقنوات والجمعيات والشركات لتروج لنفسها مثلما تفعل مع المأكولات والمشروبات والملبوسات.

لكل ذلك تبقى أضرار المفكر الكبير كارثية. فهو ضال وإن ادعى أنه يطلب للناس الهدى. فلا وجود لأي مبرر أصلا لوظيفة “مفكر”. فكل الناس تفكر. ثم إن وصف بعض من يمارس التفكير بأنه “كبير” أو “متوسط” أو “صغير” مسألة نسبية وتقديرية تتفاوت الآراء حولها، فضلا عن أن الفكر لو علّم الناس درسا فأول ما يعلمهم أن يحسنوا التواصل مع بعضهم وأن يخفضوا جناحهم؛ لا أن يعلو أو يغالوا أو يظهروا أي شكل من أشكال العنجهية.

لكل ذلك فإن “المفكر الكبير” أكثر من يحتاج أن يدعو الناس له الله بالهداية؛ لكي يعود إلى صفوف الناس كواحد منهم. وسواء كان أستاذا جامعيا، أو محاميا، أو صحافيا، أو صاحب أية مهنة أخرى؛ فإن “المفكر الكبير” في أمس الحاجة إلى التوبة من لقبه الآثم. لهذا يجب أن ندعو الله له بالعودة إلى جادة الصواب وأن يتواضع ويمشي بين الناس باللين، وأن يترك خلفه كل تلك الهالات المزيفة التي تصنعها البرامج والدعايات وشبكات التواصل والمغردين والماركات التجارية عن استثنائيته وتفرده وعبقريته. فكلها أمور مزورة وملفقة. فإن لم ينفع الدعاء له بالتوبة فلا يبقى ربما إلا الدعاء عليه، بأن يبقى كيده في نحره، حتى يستريح عالم الفكر من المتطفلين.

د.إبراهيم عرفات

أستاذ العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock