رؤى

محاولات فرض “الحل العسكري”.. وانفجار الأزمة في السودان

بسبب العملية السياسية الجارية والاتفاق الإطاري، وصل الاحتقان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع مداه، ودخل الخلاف بين القوتين العسكريتين مرحلة حرجة، حيث اندلعت، صباح السبت 15 أبريل، اشتباكات بينهما، وسط تضارب الأنباء عن الأسباب، وحول المواقع الاستراتيجية والمناطق التي أعلن كل طرف سقوطها بيده، لاسيما في العاصمة الخرطوم ومدينة مروي شمال البلاد وولاية النيل الأبيض.

وكان وصول رتل عسكري من قوات الدعم السريع، إلى محيط مطار “مروي”، هو ما أجج حفيظة الجيش، خاصة وأن هذا الانتشار حدث بدون التنسيق مع قياداته، ما أثار تساؤلات متعددة حول عوامل الاختلاف بين الجيش وقوات الدعم السريع، إلى درجة الدخول في مواجهات مسلحة؛ وحول تداعيات هذه المواجهات على الأزمة التي يعيشها السودان طوال الأشهر الماضية.

صراع السلطة

قد يبدو أن ما تشهده ساحات الخرطوم، ومدن سودانية أخرى، مجرد اشتباكات مسلحة بين قوتين عسكريتين في بلد واحد، الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتي؛ لكن ما يحدث هو نتيجة مباشرة لصراع شرس على السلطة داخل القيادة العسكرية في السودان.

إذ، منذ أكتوبر 2021، يُدير شئون الدولة السودانية، مجلس من الجنرالات العسكريين، يضم رئيس مجلس السيادة البرهان، ونائبه حميدتي. وقد نشب الخلاف بين الرجلين حول الاتجاه الذي تسلكه البلاد، في مسارها نحو الحكم المدني، خاصة أن إحدى نقاطه تتمثل في خطط ضم قوات الدعم السريع إلى الجيش، ومن سيتولى القيادة الجديدة بعد ذلك؛ وهو الخلاف الذي تحول إلى مواجهات مسلحة، بعد أن أعادت قوات الدعم السريع انتشارها في جميع أنحاء البلاد، في خطوة اعتبرها الجيش تهديدا.

والملاحظ، أن الخلافات بين البرهان وحميدتي قد ظهرت للعلن، بعد توقيع الاتفاق الإطاري، في ديسمبر الماضي، والتي أجلت في خضمها عملية توقيع الاتفاق السياسي النهائي بين القوى المدنية والمكون العسكري، قبل الانزلاق في الاحتراب الداخلي.

موازين القوى

تعتبر قوات الدعم السريع، قوة أمنية مستقلة لها شرعية وفق القانون السوداني، ولكنها عاملة تحت إطار القوات المسلحة السودانية. وتمتلك قوات الدعم قدرات وأسلحة منفصلة عن الجيش السوداني، بينها تسليح ثقيل مُتمثل في المركبات العسكرية المدرعة؛ ويصل قوامها إلى حوالي 100 ألف جندي، مع وجود قواعد لها في جميع أنحاء السودان، بما فيها العاصمة الخرطوم.

وكان الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، قد لجأ إلى قوات الدعم السريع التي كانت تُعرف حينها بـ”الجنجويد” لمساعدة الجيش السوداني في مواجهة الجماعات المتمردة في إقليم دارفور. ومنذ عام 2013، أعيد هيكلتها لتُصبح تحت قيادة جهاز الأمن والمخابرات. ومع مرور الوقت، نمت قوات الدعم السريع، واستخدمت كحرس حدود على وجه الخصوص، لتضييق الخناق على الهجرة غير النظامية. وفي عام 2017، صدر قانون يُضفي الشرعية على قوات الدعم السريع كقوة أمنية مستقلة.

في المقابل، يُصنف الجيش السوداني على أنه جيش نظامي، ويأتي في المركز 75 على مستوى العالم، وفقًا لـ”جلوبال فاير باور” المتخصصة في ترتيب الجيوش. ويصل عدد القوات العاملة في الجيش إلى 100 ألف جندي، فضلًا عن 50 ألف من القوات الاحتياطية، و55 ألف قوات شبه عسكرية. ويمتلك الجيش نحو 191 طائرة حربية، ضمن قواته الجوية التي تُصنف باعتبارها رقم 47 ضمن الأقوى عالميا. إضافة إلى ما يمتلكه من دبابات، تصل إلى 170 دبابة، ومدرعات ومدافع ثقيلة وغيرها.

مؤشرات واضحة

لم تكن المواجهات العسكرية التي حدثت وليدة اللحظة، أو نتيجة خلاف عابر بين المكونين العسكريين في السودان؛ بل سبقتها مؤشرات كثيرة ساهمت في ما يشهده السودان من محاولات لفرض “الحل العسكري” على أرض الواقع؛ وبما يُنذر بجمود العملية السياسية المتعثرة أصلا طيلة الأشهر الماضية.

ولعل هذه المؤشرات، وتداعياتها، تبدو بوضوح على أكثر من جانب.. أهمها ما يلي:

أولًا: الخلاف حول القيادة العسكرية في المرحلة الانتقالية؛ بسبب مسألة الدمج وهياكل القيادة العسكرية، دار الخلاف بين الجيش وقوات الدعم السريع؛ وهو الخلاف الذي تمثّل في الإصلاح الأمني والعسكري، حيث تُعد نقطة قيادة القوات العسكرية، خلال الفترة الانتقالية، القضية الشائكة، باعتبار أن الطرفين يتمسكان بموقفهما.

فالجيش يُطالب بأن تكون قيادة القوات العسكرية خلال الفترة المقبلة تابعة له، بينما تدفع قوات الدعم السريع باتجاه أن تكون قواتها المشتركة مع الجيش تحت قيادة مدنية. هذا، فضلًا عن تمسك الجيش السوداني بأن تكون فترة دمج قوات الدعم السريع عامين ولا تتجاوز ذلك، لأنه بنهاية العامين ـ تبعًا للاتفاق السياسي ـ ستأتي الانتخابات، وحينها سيكون هناك جيش موحد خلال هذه الانتخابات؛ بيد أن قوات الدعم السريع تطالب بأن تكون المدة عشرة أعوام لدمج قواتها، وهو ما يرفضه قادة الجيش.

وهكذا، جاءت المواجهات تتويجًا لتوترات متصاعدة بين الجيش والدعم السريع؛ هذا، رغم أنه قبل ساعات من اندلاع المواجهات، قال وسطاء إن قائد الجيش البرهان، وقائد قوات الدعم حميدتي، مستعدان لاتخاذ خطوات لتهدئة التوتر بين قواتهما.

ثانيًا: إنهاء ورشة الإصلاح العسكري والأمني دون اتفاق؛ ففي نهاية مارس الماضي، 2023، اختتمت فعاليات ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، التي نظمتها الآلية الثلاثية، بمشاركة القوى السياسية من القوى الموقعة على الاتفاق السياسي الإطاري، وعدد من الحركات المسلحة، والأحزاب والجماعات السياسية، بالإضافة إلى المكونين الرئيسين العسكري والمدني.

ورغم حسم العديد من القضايا الخلافية في هذه الورشة، وفي سلسلة من الورش السابقة التي ركزت على تسوية التناقضات بين المكونين المدني والعسكري في السودان؛ رغم ذلك، ظلت الإشكالية الرئيسة التي تتعلق بالتباينات الحادة في الرؤى بين المكونات العسكرية وبعضها البعض، وتحديدا حول مسألة دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة. وعلى هذا الأساس، اقترحت المؤسسة العسكرية أسس ولوائح ومعايير يجب توافرها قبل هذا الدمج؛ في مقدمتها تبني ضوابط التأهيل المعتمدة لدى الكلية الحربية السودانية.

لكن، في ظل التباين الحاد في الرؤى، بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، أنهيت أعمال الورشة دون التوصل إلى اتفاق، الأمر الذي وضع مستقبل التوقيع على الاتفاق السياسي النهائي في موضع الشك.

ثالثًا: تباين المواقف حول إشكالية الدمج وشروطه؛ رغم الأهمية الكبيرة لتوحيد المؤسسة العسكرية السودانية، كأحد الشروط الضرورية لإنجاح مسار الانتقال السياسي المتعثر، إلا أن ما شهدته الورشة الخاصة بالإصلاح الأمني والعسكري من جدل، طرح المزيد من الإشكاليات المتعلقة بهذا الإصلاح؛ من أهمها إشكالية الدمج.

ورغم أن عملية الدمج، هي عملية بسيطة وعادية؛ لكن، وإضافة إلى تمسك قوات الدعم السريع بالعديد من الاشتراطات، يأتي التعقيد في الحالة السودانية من طبيعة تكوين هذه القوات؛ فهناك الطابع القبلي والجهوي الذي يغلب عليها، فضلًا عن ارتباطها بقيادة تاريخية بعينها، حميدتي، وعلاقات هذ الأخير بعدد من الزعماء العرب والأفارقة، بما مهد له أن يكون جزءًا مهمًا من المعادلة العسكرية والسياسية والاقتصادية، داخل البلاد وفي الإقليم أيضًا.

رابعًا: الخلاف حول إدارة ملفات السياسة الخارجية.. فقد شكّلت إدارة هذه الملفات تحديًا كبيرًا للجانبين من العسكريين؛ وقد تبدت أبرز القضايا الخلافية بينهما في العلاقات بين السودان وإسرائيل وروسيا، إلى جانب العلاقات مع الدول المجاورة. ويتهم الجيش حميدتي، بالسعي لخلق علاقات دبلوماسية موازية للدولة، في إشارة واضحة إلى زياراته التي قام بها، إلى عدد من الدول التي سبق أن زارها القائد العام للجيش، البرهان، بما يُعطي إيحاءً بأن هناك قائدين للبلاد.

وبشأن العلاقة بين الخرطوم وتل أبيب، بدا بوضوح أن هناك تنافسًا بين الرجلين من أجل فتح قنوات اتصال مع الصهاينة؛ إذ يسعى حميدتي لتأسيس علاقة مع أجهزة الأمن في تل أبيب، ما دفع البرهان، ومعه حمدوك رئيس الوزراء السابق، للاحتجاج لدى الجانب الإسرائيلي في وقت سابق. وقد زاد الخلاف بين الرجلين، بخصوص هذا الملف، عندما قرر البرهان، لاحقًا، تسليم ملف العلاقات مع إسرائيل إلى اللواء متقاعد مبارك عبد الله بابكر، في أبريل 2022، لتوحيد قنوات الاتصال بين البلدين. إلا أن الخلاف في هذا الشأن، قد تبدى بوضوح عندما أعلن حميدتي عدم علمه بزيارة وزير الخارجية  الإسرائيلي إيلي كوهين، إلى الخرطوم، مطلع فبراير الماضي، وأنه لم يلتق به أو الوفد المرافق له.

أما أحد أبرز الخلافات تعقيدًا بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، فتتمثل في علاقة حميدتي بعدد من دول الجوار للسودان، وأبرزها تشاد وإثيوبيا وأفريقيا الوسطى. وكان حميدتي قد رفض مشاركة قواته في العمليات العسكرية، التي شنها الجيش السوداني على مجموعات إثيوبية مسلحة، كانت متمركزة في أراضٍ سودانية محاذية للحدود، المعترف بها دوليًا منتصف عام 2021. بل، إن الخلاف بين البرهان وحميدتي، قد وصل إلى ذروته عندما رفض الأول نشر قوات الدعم السريع على الحدود مع أفريقيا الوسطى، وهو الموقف الذي دعمه رئيس المجلس الانتقالي في تشاد، محمد ديبي، الذي أبدى عدم ارتياحه لنشاط قوات الدعم السريع على حدود البلدين.

عدم استقرار

في هذا السياق، يمكن القول بأن الصراع بين القيادات العسكرية، الذي كان خفيًا وأصبح اليوم علنيًا، الهدف منه هو تحقيق الغلبة السياسية؛ من حيث إن الخلاف بين البرهان وحميدتي لا يعتمد على التفاصيل التقنية، لدمج قوات الدعم السريع بالجيش، بل على بسط النفوذ والسلطة. ومن شأن هذا الصراع، أن يفتح مستقبل السودان على عديد من الاحتمالات، التي تتقاطع في نقطة “عدم الاستقرار”، في وقت يعاني في البلد من انهيار الاقتصاد واشتعال العنف القبلي.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock