ترجمة: كريم سعد
كانت سرعة تفكك السودان، هي أول إشارة إلى أن كل ما حدث كان يتراكم منذ وقت طويل. فسوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعاني منها البلاد، كان نتيجة لسلسلة من الفشل والتواطؤ والاستهتار، تفاعلت جمعيها في الخلفية لفترة طويلة، وكان المقيمون فيها يفترضون أنها ستستمر إلى الأبد. حتى دخلت مجموعة ميليشية تدعى “قوات الدعم السريع” وجيش البلاد في حرب على من يدير البلاد، وحاصرت الشعب السوداني بينهما.
وأصبحت عاصمة البلاد، الخرطوم، منطقة حرب، مع مشاهد سريالية للدبابات والضربات الصاروخية وأعمدة الدخان المتصاعدة في جميع أنحاء المدينة. واندلع الصراع بعد أربع سنوات بالضبط من نجاح ثورة هائلة – رغم كل الصعاب – في الإطاحة بالرئيس عمر البشير بعد ما يقرب من 30 عاما من الدكتاتورية والنهب الاقتصادي والإبادة الجماعية – وبذلك خلقت فراغا في السلطة تتقاتل عليه القوتان.
مأساة السودان هي مأساة بلد طموح يسعى للمزيد، والآن يتعرض للعقاب بسبب ذلك. وينضم السودان إلى قافلة محزنة من الدول العربية التي خلال السنوات العشر الماضية، أطاحت بالدكتاتوريات، لكنها لم تتمكن من تحقيق آمال الديمقراطية. وإذا كانت الدولة التي تلي الثورة كانت محظوظة، كما حدث في مصر تحت حكم عبد الفتاح السيسي، فإن النظام القديم ببساطة سيستعيد السلطة، لكنه سيصبح أكثر وحشية وتوترًا. وفي السيناريوهات الأسوأ التي شهدتها ليبيا واليمن وسوريا، انزلقت الدولة إلى حرب أهلية، ما أدى إلى نزوح جماعي للاجئين يقومون برحلة محفوفة بالمخاطر إلى أوروبا..
لكن مأساة السودان هي أيضا مأساة بلد طال انتظار الحساب فيه. فأحداث الأسبوع الماضي بدأت قبل 20 عاما، في منطقة دارفور الغربية المهمشة. حين قُمع تمرد ضد الحكومة بوحشية من قبل مجموعة من المقاتلين والمغيرين تسمى الجنجويد. ولم يكن البشير – وهو رجل عسكري وصل إلى السلطة من خلال انقلاب عسكري مدعوم من الإسلاميين في عام 1989- راغبا في إرسال جيشه الثمين إلى المعركة، وبدلا من ذلك أذكى الخلافات القبلية والعرقية ودعم الجنجويد للعمل كوكيل له. ولقي مئات الآلاف حتفهم، واغتصبت النساء بشكل منهجي، وشُرد الملايين.
واستقطبت الإبادة الجماعية تدقيقا وعقوبات دولية، واتهمت المحكمة الجنائية الدولية البشير. لكن شيئا داخل السودان لم يتغير. واندمج الجنجويد رسميا في قوات الدعم السريع وأصبحوا أكثر قوة في عهد أمير الحرب محمد حمدان دقلو (المعروف باسم حميدتي)، الذي نمت طموحاته عندما أطلق له البشير العنان لمراكمة النفوذ والأصول، وطالما كان يحميه. ولم يلتزم حميدتي بجانبه من الصفقة وتمسك بمطالب الديمقراطية في عام 2019 – وجنبا إلى جنب مع الجيش، دفع البشير جانبا.
وهناك أيضا أطراف أخرى ساهمت في تثبيت مصير السودان. فقد فرض المجتمع الدولي عقوبات خرقاء لم تفعل شيئًا سوى إضعاف قدرة الشعب السوداني على مقاومة حكومتهم الاستبدادية. ودعمت مجموعة ساخرة من الحكومات والممالك غير الديمقراطية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط الجيش والميليشيات بعد ثورة عام 2019، بهدف إطفاء آمال ازدهار الديمقراطية في فنائهم الخلفي. وفي الآونة الأخيرة، شاركت روسيا مع الميليشيات السودانية لاستخراج الذهب وتحقيق مصالح أمنية.
وبرغم ألم الاعتراف، لكن ليس كل المسئولية تقع على عاتق الزعماء المحليين واللاعبين الدوليين. لكنه أيضا في الداخل وبين أولئك الذين يتعرضون الآن لنيران الصراع، كان هناك استغلال واعتقاد قصير النظر بأن ما يحدث خارج العاصمة الخرطوم لا يهم. حيث خلق نظام البشير طبقة كبيرة ازدهرت تحت حكمه وشجعتهم رعايته على تجاهل الأحداث بشكل متعمد. فالحرب التي تمزق الخرطوم الآن ليست سوى مؤشر على ما جنته بعض المناطق في البلاد على مدار سنوات، حيث استمتعت العاصمة بالسلام والازدهار في بعض الأحيان على عكس مناطق أخرى. وهذا الانفصال الحادث بين المناطق أفضى إلى حقد مرير، ومزق الهوية الوطنية وحافظ على منطقة نائية شاسعة ينعدم فيها القانون، ويزدهر فيها المرتزقة وأمراء الحرب..
وعلى الرغم من تعقيد الوضع في السودان، فإن الأمل ما زال قائما. فالمتظاهرون المؤيدون للديمقراطية الذين أسقطوا نظام البشير ما زالوا هناك، يطالبون بالتغيير، ولا يزالون يخاطرون بحياتهم من أجل الحرية والديمقراطية. وقد يبدو ذلك مثل خطاب تأبيني لبلدي الأم، لكنه محاولة – ربما ساذجة – لوضع بعض الآمال في مستقبل السودان، من خلال وضع هذا الصراع في سياق أوسع للاستسلام العالمي والإهمال المحلي. وبفضل الثورة التي شهدها السودان في عام 2019، ظهر شيء جديد: العزم على عدم قبول حكم العسكر، بغض النظر عن حجم فئة المستفيدين التي يخلقها هذا النظام. ولقد دفع هذا العزم ثمنه العديد من المتظاهرين الذين قتلوا على أيدي قوات الأمن خلال الأعوام الأربعة الماضية، فيما يطالبون بإخراج الجيش وجميع الميليشيات من السلطة.
وإلى هذه الحصيلة، يضاف الآن مئات آخرون مع دخول السودانيين العيد وهم يحتمون من القنابل والرصاص من قبل طرفي النزاع اللذين لم يكونا يهتمان بمصالح الناس. إنه لحظة مظلمة بالتأكيد، ولكن ربما يمكن أن يكون هناك بعض الأمل إذا كان ذلك يعني أن الشعب السوداني يفهم أخيراً أن السلام لن يستمر لبعض الأشخاص إلا إذا كان هناك سلام للجميع..