نقلا عن صفحة الكاتب مصطفى السعيد على الفيسبوك
تراجع نصيب الدولار من التجارة الدولية من 80% إلى 59% في السنوات الخمس الأخيرة، ومن المتوقع حدوث تراجع أسرع بعد أن أعلنت دول الآسيان (عشر دول) إعتماد العملات المحلية في تجارتها البينية بدلا من الدولار، والإتفاقية بين الصين والبرازيل على إجراء تعاملاتهما باليوان الصيني والريال البرازيلي، وعقد السعودية والإمارات لصفقات تصدير بترول وغاز بالروبية الهندية واليوان الصيني والريال السعودي والدرهم الإماراتي، بالإضافة إلى إتفاقيات أخرى بين روسيا وإيران مع دول عدة على الدفع بالعملات المحلية، وكذلك ستجري التعاملات بين دول البريكس وتجمع شنجهاي، وهذا الإنضمام المتزايد لكثير من الدول لإجراء معاملات تجارتها الخارجية بالعملات المحلية يعكس رغبة جامحة لدى عدد كبير من الدول للخروج من هيمنة الدولار، حتى أن الرئيس الفرنسي ماكرون أعلن ضرورة أن تخرج دول الإتحاد الأوروبي من الهيمنة الأمريكية وعملتها، وأيدته دول غرب أوروبا في تلك الرغبة. فلم يعد تعدد الأقطاب ومعها تعدد العملات في التعاملات الدولية مجرد أمنية تعبر عنها عدة بلدان، بل تحولت إلى قرارات وإجراءات، وظهور منظومات مالية جديدة، وإن بدأت بطيئة، إلا أنها آخذة في الصعود والرسوخ والتوسع، ويرجع ذلك بالأساس إلى إساءة الولايات المتحدة إستخدام الدولار، وخروجه عن دوره كأداة تبادل ليصبح سلعة، تعود على الولايات المتحدة بمكاسب كبيرة دون إنتاج، فهي تطبع الدولارات بلا رقابة وبلا حدود، مستغلة أن الدولار يتمتع بوضع إحتكاري في التجارة الدولية، وعن طريقه يمكن أن تعاقب أي شركة في أي دولة، كما يمكنها معاقبة أي دولة لا تنساق للسياسات الأمريكية، فتوقف تعاملها بالدولار، وبالتالي تعرقل تجارتها الخارجية، وأحد النماذج على ذلك وقف الولايات المتحدة لمشروع السيل الشمالي 2 بين روسيا وألمانيا، بمجرد تهديد الإدارة الأمريكية للشركات الألمانية المشاركة في تشييد المشروع بفرض عقوبات عليها، فتوقف العمل لسنوات، حتى تولت شركات روسية إستكمال المشروغ بمشقة بالغة، وأدركت الكثير من الدول والشركات أن الوضع الذي إنتزعته الولايات المتحدة لعملتها المحلية، وفرضتها كأداة تعامل في التجارة الدولية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عندما كان الإنتاج الصناعي الأمريكي 50% من الناتج العالمي، وعندما كانت كل أوروبا مدينة بأموال طائلة للولايات المتحدة مقابل شراء السلاح وإعادة الإعمار، لكن الوضع تغير الآن،
ولم يعد الإنتاج الصناعي الأمريكي يتجاوز 10% من الناتج العالمي، وأصبحت ديون الولايات المتحدة تتجاوز 31 ترليون دولار، مع عجز سنوي في الميزان التجاري يبلغ نحو 800 مليار دولار، وظهرت دول مثل الصين التي تجاوزت الولايات المتحدة، ومعها دول أخرى تحقق معدلات إنتاج ونمو متزايدة مثل الهند والبرازيل وغيرهما، وهذه المتغيرات في موازين القوى الإقتصادية ينبغي أن تتجسد في نصيب عملاتها، وعدم إحتكار دولة تراجعت كثيرا في أسواق المال والتجارة العالمية، ويبدو أن الولايات المتحدة يائسة من قدرتها على رتق الثغرات الكبيرة في بنيتها الإقتصادية، وما تحاول فعله أن تربك الدول الصاعدة وتحدث تغرات وتمزقات تبطئ صعودها. والمؤكد أن الدول سيواصل التراجع بوتيرة أسرع في الشهور والسنوات المقبلة، لكن المؤكد أيضا أن الولايات المتحدة ستقاوم بكل قوتها لمنع إزاحة الدولار الذي يشكل عمود خيمتها الإقتصادية، وأصبح السؤال هل سيتراجع الدولار خطوة خطوة، أم في أعقاب هزة كبرى، وبهبوط رأسي سيؤدي إلى تسونامي إقتصادي، يلحق أضرارا بالغة ومتفاوتة بمعظم دول العالم، إن لم جميعها، وهناك رأي بأن الصين ستحرص على الإزاحة الهادئة والمتدرجة للدولار، حتى لا تخسر ديونها وسنداتها والسوق الأمريكي، وهذا منطقي ومرجح، لكن عندما تفرض الولايات المتحدة خيارات صعبة على الصين، فيمكن أن تضحي الصين بقيمة الجزء الأكبر من ديونها وسنداتها وربما سوقها، طالما لن تستطيع تجنب المواجهة مع الولايات المتحدة، ولوحظ أن الصين تتخلص تدريجيا من السندات الأمريكية، وهذا ما دفع الرئيس الأمريكي السابق ترامب يصرخ ” عملتنا تنهار، وقريبا لن يكون الدولار العملة العالمية، وسنفقد مكانتنا كقوة عظمى، فالتضخم خرج عن السيطرة، وأمريكا في حالة فوضى، ونتجه إلى هزيمة غير مسبوقة. وما يرجح إحتمال الإنهيار الرأسي للدولار في أعقاب هزة إقتصادية ومالية واسعة وعميقة أن الأفراد في معظم دول العالم ممن يحملون الدولار سوف يسعون للتخلص منه بسرعة، وأعداد هؤلاء ضخم جدا، وما بحوزتهم يفوق ما في البنوك المركزية، وإذا أقدم عدد كبير منهم على التخلي عن الدولار ستكون الضربة القاضية، وهذا ليس سيناريو بعيد، خاصة مع ظهور أعراض مرضية خطيرة على العديد من البنوك الأمريكية والأوروبية، رغم محاولت طمس معالم الأزمات.