رؤى

أبو عبد الرحمن زيد بن الخطاب.. فارس يوم اليمامة وحامل اللواء

لما قدم متمم بن نويرة اليربوعي، المدينة والتقى عمر بن الخطاب، ناشده الفاروق أن يلقي على أسماعه بعضا من رثائه لأخيه مالك.. فأنشد المتمم أبياتا كان منها:

لقد لامني عند القبور على البكا      رفيقي لتذرافِ الدموع السوافكِ

أمِن أجلِ قبرٍ بالملا أنت نائـــحٌ     على كلّ قبــرٍ أو على كلّ هالك

فقال أتبكـــــــــي كل قبرٍ رأيته      لقبرٍ ثوى بين اللّوى فالدكـــادك

فقلتُ له إن الشجا يبعثُ الشـــجا      فدعني فهــــــــــذا كلُّه قبر مالكِ.

وقال:

وكنا كندمانَيْ جذيمة حقبة من الدهر   حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالكـــا     لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

فبكى الفاروق وقال له: لو كنت أحسن الشعر لقلت في أخي مثل ما قلت في أخيك، قال متمم: لو أن أخي ذهب على ما ذهب عليه أخوك ما حزنت عليه، فقال عمر: ما عزاني أحد بأحسن مما عزيتني به.. فمن أخو عمر الذي أحبه كل هذا الحب، حتى أنه أراد في غير مشهدٍ أن يفتديه بروحه؟

إنه أبو عبد الرحمن، زيد بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- كان أَسَنَّ من عمر، وسبقه إلى الإسلام، وإلى الشهادة يوم اليمامة.. حين حمي الوطيس ودارت الدائرة على المسلمين، وكان زيد يحمل اللواء.. فلما رأى ما كان، قال: “أما الرحال فلا رحال، وأما الرجال فلا رجال”، ثم جعل يصيح بأعلى صوته: “اللهم إني اعتذر إليك من فرار أصحابي، وأبرأ إليك مما جاء به مسيلمة والمحكم بن الطفيل” وجعل يشد بالراية يتقدم بها في نحر العدو، ثم ضَارَبَ بسيفه حتى قُتل ووقعت الراية، فأخذها سالم مولى أبي حذيفة -رضي الله عنه- فقال المسلمون: “يا سالم إنا نخاف أن نؤتي من قبلك” فقال: “بئس حامل القرآن أنا إن أوتيتم من قبلي” وقاتل حتى استشهد.. وكان زيد يوم اليمامة يقاتل ببسالة، وهو عازم على الظفر برأس رجل كان له نصيب كبير من فتنة المرتدين في بني حنيفة.. إنه الرجّال بن غنفوة ذلك المرتد الذي كان قد قدم المدينة في وفد بني حنيفة إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم- فأسلم وقرأ القرآن وفقه في الدين، ولزم المدينة حينا؛ ثم بعثه الرسول معلما لأهل اليمامة، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، حيث شهد أن محمدا – صلى الله عليه وسلم- قال إن مسيلمة قد أُشرك معه في أمر النبوة؛ فصدقوه واستجابوا له، وكان مسيلمة ينتهي إلى أمره؛ فكان أعظم على أهل اليمامة فتنة من غيره لما كان يعرف به.

فلما كان يوم الملحمة اخترق زيد الجموع بحثا عن الرجّال حتى وجده وضيق الخناق عليه، حتى اضطره إلى المواجهة ثم وجه إليه ضربة هائلة أطاحت برأسه.. وكان الرجّال أحد وزيري مسيلمة وثالث رجال دولته المزعومة؛ فكان لسقوطه قتيلا؛ فعل السحر في نفوس الفريقين؛ لتنكسر عزائم المرتدين الذين بشرهم الرجّال بالنصر، ووعدهم بأنه مع المحكم بن الطفيل سيكونان ساعدي ملك مسيلمة؛ لذلك كان مقتله على يد زيد نقطة فارقة في المعركة، ردت الروح في جيش المسلمين لينتزعوا النصر بعد الانكسار.

وفي يوم عودة الجيش المنتصر، وقف عمر بن الخطاب إلى جوار أبي بكر؛ ينتظر العائدين من ميدان القتال.. وكان زيد فارع الطول لا تخطئه العين.. أجهد عمر عينيه بحثا عن أخيه دون جدوى، إلى أن جاءه أول المعزين يخبره باستشهاد زيد.. فقال عمر: رحم الله زيدا.. سبقني إلى الحسنين.. أسلم قبلي.. واستشهد قبلي.

وعلى كثرة ما رأى ابن الخطاب بعد ذلك من مشاهد وأحداث؛ لم ينس زيدا أبدا، وكان يقول: “ما هبت الصبا، إلا وجدت منها ريح زيد”.

يتذكر عمر يوم أحد، وقد حمي القتال.. وزيد يضرب أعناق المشركين بلا هوادة حتى سقط درعه وما انتبه؛ فيبصره الفاروق يقاتل دون درع؛ فيهرع إليه ويستحلفه أن يأخذ درعه.. فيأخذها؛ ولكنه يلقيها إليه قائلا: إني أريد من الشهادة ما تريده يا عمر.. فيأخذ عمر الدرع فيطرحها.. ويقاتل الأَخَوَان حاسرين جنبا إلى جنب.

وفي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.. اختار له رسول الله، معن بن عدي الأنصاري العجلاني؛ فتلازما على أفضل ما تكون الأخوة في الله، حتى كانت شهادتهما يوم اليمامة معا.

وقد كانت أسماء بنت زيد بن الخطاب ما تزال طفلة حين استشهد أبوها، فضمها عمر إليه فكانت أحب إليه من نفسه.. وروي أن أبا موسى الأشعري بعث إلى عمر بحلية من العراق؛ وكانت أسماء في حجره، فتناولت من الحلية خاتما فوضعته في إصبعها؛ فاحتضنها عمر واخذ يداعبها حتى نامت؛ فأخذ الخاتم منها ورده في الحلية وأمر بها إلى بيت المال.

أما ابنه عبد الرحمن الذي يكنى به، فكان ألطف مَنْ وُلِد(أي: أصغر المولودين وأدقّهم جسماً وضعفاً)، فأخذه جده أبو لبابة في خرقة فأحضره عند النبي – صلى الله عليه وسلم- وقال: ما رأيت مولودًا أصغر خلقة منه، فحنكه رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ومسح رأسه ودعا له بالبركة، قال: فما رؤي عبد الرحمن في قوم إلاّ فَرِعهم طُولاً وتماما”.

لقد كان زيدا رضي الله عنه يميل إلى الصمت، ولا يرى في كثرة الكلام فائدة تذكر.. كان عاملا بما آمن مدافعا عن مبدئه، مجاهدا في سبيل الله.. يوقن أن إخلاص العمل لله تعالى هو الطريق إلى جنته ورضوانه.. وربما كان زيد خافت الذكر إذا ما قورن بالفاروق أخيه الأصغر.. لكن ذكره باقٍ أبد الدهر بما قدم من جليل الأعمال؛ حتى لقي الله شهيدا يوم اليمامة.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock