اختلف المفسرون والفقهاء حول الفارق بين لفظتي الإنسان والبشر، وذهب البعض إلى ربط كل منهما بنظرية داروين، مثلما ذهب عبد الصبور شاهين في كتابه “أبي آدم، 2003″، حيث قال: “إن كلمة بشر تطلق على الأطوار القديمة التي كان عليها الإنسان، قبل استصفاء الله لأدم من بين بقية المخلوقات التي يطلق عليها بشر؛ فالبشر: تسمية لذلك المخلوق الذي أبدعه الله من الطين، فهو لفظ عام في كل مخلوق ظهر على سطح الأرض، يسير على قدمين، منتصب القامة. أما الإنسان فهو لفظ خاص بكل من كان من البشر، مكلفًا بمعرفة الله وعبادته.. فكل إنسان بشر، وليس كل بشر إنسان”.
فهل يأتي التمييز القرآني بين لفظتي الإنسان والبشر، ليؤكد على قول شاهين الأخير هذا، أم أن شاهين اعتمد على عددٍ من الروايات حول نشأة الإنسان، ولم يحاول استقراء آيات التنزيل الحكيم، للوقوف على الفارق بين الإنسان والبشر(؟).
فروقات جوهرية
لعل أولى الملاحظات، حول الفارق بين الإنسان والبشر، في آيات الذكر الحكيم، تتعلق بمعنى المساواة، والتعبير عن التغير والاختلاف. فعند إظهار معنى المساواة، من حيث إن كل البشر متساوون، يأتي لفظ “بشر”؛ كما في قوله سبحانه: “فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ…” [المؤمنون: 24]؛ وكما في قوله تعالى: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ” [فصلت: 6]. أما عند التعبير عن التغير والاختلاف، وعندما لا يكون هناك “تعميم” في الاختلاف، يأتي لفظ الإنسان؛ كما في قوله سبحانه: “يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا” [الإسراء: 71]؛ و”أناس”، هنا، تعبير عن مجموعة من الناس وليس كل الناس.
ملاحظة أخرى، تتعلق بالفارق بين البشر والإنسان، في آيات الذكر الحكيم، تلك التي تختص بالتعبير عن الوجود “الفيزيولوجي” لكائن حي له صفة الحياة، كبقية المخلوقات الحية التي تأكل وتشرب وتنام وتتكاثر؛ مثلما جاء في قوله سبحانه: “… مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ” [المؤمنون: 33]. وبالتالي، فكلمة بشر تُعبر عن صفة الهيئة والصورة التي خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان عليها؛ كما في قوله تعالى: “وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ” [الأعراف: 11].
وهو ما يعني، أن الصورة المرئية لـ”الإنسان” هي “البشر”؛ ومن هنا، تتضح العلاقة بينهما؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: “إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ٭ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ” [ص: 71-72]؛ وكما يبدو، فقد وردت لفظة “بشر” للدلالة على صورة المخلوق الذي لم تُنفخ فيه الروح بعد، فإذا تمت تسويته، وتم نفخ الروح فيه، أصبح “إنسانًا”.. فيه نفس وعقل يُدرك به ويُميزه عن المخلوقات الأخرى.
التمييز القرآني
يعني هذا، في ما يعنيه، أن الخطاب القرآني يميز بين الخلق البشري وبين التكليف الإنساني؛ حيث يرد “البشر” من منظور الوصف للدلالة على الصفات، أما الإنسان ـ كمفرد وجماعة ومجموع ـ فيأتي دائمًا كنقطة ارتكاز رئيسة لـ”مناط التكليف”. وهو ما يتبدى بوضوح في قوله سبحانه وتعالى: “وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا” [الأحقاف: 15]، وفي قوله سبحانه: “يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ” [الانشقاق: 6]؛ وكذا، في قوله تعالى: “وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ” [آل عمران: 97].
في هذا الإطار، إطار التمييز بين الخلق البشري والتكليف الإنساني، لنا أن نلاحظ آيات الذكر الحكيم التي تفكك فيها الوحدة “الزمانية ـ المكانية” لمراحل الخلق وصولًا إلى “الأنسنة”. يقول سبحانه وتعالى: “هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ” [الأنعام: 2]. وهنا، تنص الآية على “الأجل” كعنصر توقيت زماني يمتد ما بين الطين وبين الخلق البشري؛ كما تنص، أيضًا، على “الأجل المسمى” كعنصر توقيت زماني “معلوم عند الله” ما بين الخلق البشري والتكليف الإنساني.. حيث يقول سبحانه: “يَأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ٭ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ٭ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ” [الانفطار: 6-8].
فهناك، إذًا، “أَجَلٌ مُسَمًّى”، وفيه تسوية ثم اعتدال؛ والتسوية تنصرف إلى معنى “التكوين”، إلا أن اقترانها بالاعتدال يؤشر إلى مضمون الشكل، أي السابق على الاعتدال؛ وهو ما يؤشر ليس، فقط، إلى أن التسوية والاعتدال، هنا، لهما معان “مادية” وليست اجتماعية؛ ولكن، أيضًا، على أن الآية تتضمن التأكيد على “تعدد الصور” الإنسانية بمؤثرات التكوين الطبيعي الموضوعي. وهذا يختلف قطعًا عن الاستنتاج الدارويني، إذ إن “فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ”، تعني التعدد في التركيب تبعًا للمشيئة اللإلهية.
وفي الإطار، نفسه، تتأكد ملاحظة أن الملائكة لم تتساءل عن عملية خلق البشر، أي عن المخلوق، أو عن أفعاله، مع ملاحظة أنهم امتثلوا لأمر الله في السجود لآدم؛ وذلك على عكس تساؤلهم بالنسبة إلى عملية “جعل آدم خليفة”. هذا، فضلًا عن “إبليس” الذي يُعلن عن استكباره في لحظة هذا الجعل وليس في مبتدأ الخلق البشري. وهو ما يتأكد عبر قوله تعالى: “إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ٭ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ٭ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ٭ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ” [ص: 71-74].
وهنا، لنا أن نلاحظ أن استكبار إبليس جاء بعد “التسوية” و”نفخة الروح”، أي في اللحظة التي أصبح فيها آدم يختلف عن ما كانت عليه “البشرية” من قبله، وبالتحديد في اللحظة التي أصبح فيها آدم جاهزًا لأن يكون “خليفة” في الأرض.