مختارات

بين مدوّنتين… هوية واحدة أم هويات متعددة للسادات؟

بقلم: محمد السيد الطناوي، نقلًا عن موقع رصيف

بين الأزمنة التاريخية، هنالك “أزمنة مستعادة” شهدت تحولات جذرية أو أحداثاً كبرى أو مشروعات ذات قيمة عالية، فحرّضت المؤرخين والكتّاب على تسجيل وقائعها في مدوّنات مهمة. وفي المقابل، هنالك أزمنة أخرى يمكن وصفها بـ”الأزمنة الضائعة”، لم تشهد وقائع مهمّة لتغيب عنها بطبيعة الحال أيّة مدونات مقدّرة.

مفهوما الزمن المذكوران مقتبسان من العمل الضخم للروائي الفرنسي مارسيل بروست “البحث عن الزمن المفقود”. وباستعارتهما، يستعيد هذا النص زمن الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بوصفه واحداً من تلك “الأزمنة المستعادة”، عبر مدونتين، الأولى هي “محاوراتي مع السادات” لأحمد بهاء الدين، وهي مدونة هامشية لا تنافس في الحضور الأخرى، “خريف الغضب” لمحمد حسنين هيكل.

يحدد بهاء الدين إطاراً واضحاً يلتزمه سرده، ويتمثل في حوارات أجراها مع السادات، متناولاً أحداثاً وقعت خلال حكم الرئيس المصري الراحل وكيفية تعاطيه معها. ضمن هذا الإطار، يسجل آراءه وانطباعاته عن السادات وسياساته. أما مدونة هيكل فتتضمّن تحليلاً لشخصية الرئيس الأسبق منذ نشأته، ويدوّن الكاتب فيها أيضاً آراءه بخصوص ما أقره السادات من سياسات وما انتهجه من توجهات.

وبينما ينافس بهاء الدين، بمدونته، السادات في الحضور (يقر الكاتب هذا في العنوان: “محاوراتي مع السادات”)، ينتهج هيكل نهجاً مغايراً، يحرص فيه على الابتعاد عن “الذاتية” ليكون أقرب إلى “الموضوعية”. رغم ذلك، جاءت “الذاتية” التي أثبتها بهاء الدين أكثر تفسيرية من “الموضوعية” التي روّج لها هيكل. وبما أنه يمكن التشكيك في إمكانية عزل “الذاتي” لصالح “الموضوعي”، يعتمد النص معياراً آخر للحكم يتمثل في مدى القدرة على التفسير.

يميل النص أيضاً إلى افتراض أن السادات، عبر سياساته وتوجهاته، جسّد عصره، ولم يصنع الأحداث، على أساس أن الرئيس المصري الراحل، بما انتهجه من سياسات خلال فترة حكمه، كان مجرد انعكاس لعصره.

وتجدر الإشارة إلى أن الحديث عن السادات، من خلال الهيئة التي اتخذها في مدونة بهاء الدين، سيكون حديثاً عن ثلاث هويات للرجل، لا هوية واحدة، فالسادات قبل ثورة يوليو ليس نفسه بعدها والاثنان يختلفان عن الرجل الذي ارتقى سدة الحكم، مع الأخذ في الاعتبار أن تشكل الهويات أو تبدلها لا يحدث طبعاً بصورة مفاجئة مثلما يوحي التقسيم، وإنْ كان هذا التبدل يظهر بشكل واضح لدى شخصية دراماتيكية مثل السادات.

ويستند هذا التقسيم على أن كل فرد، عملياً، هو جملة علاقات وتراكيب، فعلاقات الفرد مع أسرته، ومع محيطه، ومع جسده، ومع السلطة… هي ما يؤلف هويته، وبتبدل هذه العلاقات والتراكيب تتبدل الهوية، فالعلاقات هي ما يشكّل الهوية، لا العكس، وبهذا تصير الهوية نتيجة لا سبباً، وهنا أيضاً يمسي العالم هو ما يشكل الفرد لا العكس.

النسخة الأولى من السادات
يمر أحمد بهاء الدين، في مدوّنته، مروراً عابراً على النسخة الأولى من السادات، فيسجل انطباعاته عما تناقلته الحكايات وقتها عن الضابط الشاب، العضو الوحيد بين أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي كان له نشاط معروف على الساحة السياسية قبل يوليو 1952 بعشر سنوات.

يبرز اسم السادات لأول مرة في حادثة عوامة الراقصة حكمت فهمي، بعدما قبض الإنكليز على ضابطين ألمانيين استضافتهما في عوامتها وساعدتهما على إصلاح جهاز لاسلكي امتلكاه عبر استعانتها بالسادات، وأقدم الأخير على ذلك بتكليف من الفريق عزيز المصري، الأب الروحي لجميع التنظيمات العسكرية التي كثر ظهورها في ذلك العصر، وقائد الخلية الثورية التي انتمى إليها السادات حينذاك.

ظهر اسم “أنور” مجدداً حين اشترك في محاولة اغتيال وزير مالية الوفد، أمين عثمان. كما تردد ذكره سراً في محاولتين لاغتيال زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس، ليتشكف بعدها أنه كان عضواً بارزاً في “الحرس الحديدي”، وهو تنظيم شكّله القصر من ضباط الجيش ليستعمله ضد أعدائه.

هذه الحكايات عكست صورة شاب مغامر وصل بالمغامرة إلى منتهاها. وإنْ اختلف الأمر بعد ثورة يوليو، لا تقع على أي من ملامح السادات هذه، بل يمكن الزعم أن السادات أمسى شخصية نقيضة لتلك الصورة، إثر تغير علاقاته سواء بمحيطه، أو بالسلطة التي أمسى بين ليلة وضحاها من بين أصحابها، بعدما كان مجرد أداة متواضعة في يد أصحابها، أو بجسده، فعند قيام ثورة يوليو كان على مشارف الكهولة، لتتشكل هوية مختلفة له.

وتعليقاً على تلك النسخة من السادات يسجل بهاء الدين خاطرة راودته حينذاك، وهو نمط كتابة وعرض يسود طوال المدونة، مفادها أن السادات، بناءً على مغامراته السابقة، ربما يكون من أصحاب الآراء الفاشية. وهنا يتجه الرجل بحديثه إلى الماضي، لتقود أراؤه وانطبعاته، بصفة عامة، كشوفات الذاكرة.

بخلاف بهاء الدين، يتجه هيكل في روايته نحو المستقبل، محاولاً رسم صورة نهائية لبطلها. كذلك، يمكن ملاحظة أن استنباطات هيكل عن الفترة الأولى من حياة السادات هيمنت بعدها على طرحه بأكمله، مع أن الفصول التأسيسية التي استعرض فيها طفولة “أنور” وصباه ومطلع شبابه غابت عنها المعلومة الموثقة، لصالح البلاغة، كتعويض عن النقص، وذلك خلافاً لنهجه في الفصول التالية التي لم تعزه فيها المعلومات والمصادر.

فعلى سبيل المثال، لدى استعراض هيكل المؤثرات التي طبعت شخصية السادات وشكلت معالمها، نراه يرصد حياة الرئيس الراحل طفلاً في منزل والده وزوجاته الأربع، فيكتب: “كان عليه أن يرى أمه تعود إلى مستوى العبودية مرة أخرى بالجهد الشاق الذي وقع عليها في خدمة هذه الأسرة المزدحمة. كانت حياتها- أغلب الظن- لا تقل مهانة عن حياة أبيها حينما كان محكوماً بقوانين العبودية. لقد أصبحت هي خادمة هذا البيت كله، وعندما كانت تقصّر في الخدمة أحياناً فإن ‘محمد محمد الساداتي’ لم يكن يتردد في ضربها أمام أولادها وأمام غيرها من الزوجات.. كان مقدراً له أن يرى بعينيه مهانة أمه أمامه يومياً، تُعاقَب لأسباب لا دخل لها فيها ولذنوب لم يكن عدلاً أن تتحمل مسؤوليتها… كان يقضي معظم وقته في الغرفة التي تسكنها أمه وبقية إخوته منكمشاً على نفسه في ركن مظلم من الأركان… وهكذا بدأ يتراجع إلى داخل نفسه، ولم يكن أمامه مهرب مما هو فيه إلا أن يخلق عوالم من الخيال يهرب إليها” (هيكل، ص. 39).

بين الأزمنة التاريخية، هنالك “أزمنة مستعادة” شهدت تحولات جذرية أو أحداثاً كبرى أو مشروعات ذات قيمة عالية، فحرّضت المؤرخين والكتّاب على تسجيل وقائعها في مدوّنات مهمة. وفي المقابل، هنالك أزمنة أخرى يمكن وصفها بـ”الأزمنة الضائعة”، لم تشهد وقائع مهمّة لتغيب عنها بطبيعة الحال أيّة مدونات مقدّرة.

مفهوما الزمن المذكوران مقتبسان من العمل الضخم للروائي الفرنسي مارسيل بروست “البحث عن الزمن المفقود”. وباستعارتهما، يستعيد هذا النص زمن الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بوصفه واحداً من تلك “الأزمنة المستعادة”، عبر مدونتين، الأولى هي “محاوراتي مع السادات” لأحمد بهاء الدين، وهي مدونة هامشية لا تنافس في الحضور الأخرى، “خريف الغضب” لمحمد حسنين هيكل.

يحدد بهاء الدين إطاراً واضحاً يلتزمه سرده، ويتمثل في حوارات أجراها مع السادات، متناولاً أحداثاً وقعت خلال حكم الرئيس المصري الراحل وكيفية تعاطيه معها. ضمن هذا الإطار، يسجل آراءه وانطباعاته عن السادات وسياساته. أما مدونة هيكل فتتضمّن تحليلاً لشخصية الرئيس الأسبق منذ نشأته، ويدوّن الكاتب فيها أيضاً آراءه بخصوص ما أقره السادات من سياسات وما انتهجه من توجهات.

وبينما ينافس بهاء الدين، بمدونته، السادات في الحضور (يقر الكاتب هذا في العنوان: “محاوراتي مع السادات”)، ينتهج هيكل نهجاً مغايراً، يحرص فيه على الابتعاد عن “الذاتية” ليكون أقرب إلى “الموضوعية”. رغم ذلك، جاءت “الذاتية” التي أثبتها بهاء الدين أكثر تفسيرية من “الموضوعية” التي روّج لها هيكل. وبما أنه يمكن التشكيك في إمكانية عزل “الذاتي” لصالح “الموضوعي”، يعتمد النص معياراً آخر للحكم يتمثل في مدى القدرة على التفسير.

يميل النص أيضاً إلى افتراض أن السادات، عبر سياساته وتوجهاته، جسّد عصره، ولم يصنع الأحداث، على أساس أن الرئيس المصري الراحل، بما انتهجه من سياسات خلال فترة حكمه، كان مجرد انعكاس لعصره.

وتجدر الإشارة إلى أن الحديث عن السادات، من خلال الهيئة التي اتخذها في مدونة بهاء الدين، سيكون حديثاً عن ثلاث هويات للرجل، لا هوية واحدة، فالسادات قبل ثورة يوليو ليس نفسه بعدها والاثنان يختلفان عن الرجل الذي ارتقى سدة الحكم، مع الأخذ في الاعتبار أن تشكل الهويات أو تبدلها لا يحدث طبعاً بصورة مفاجئة مثلما يوحي التقسيم، وإنْ كان هذا التبدل يظهر بشكل واضح لدى شخصية دراماتيكية مثل السادات.

ويستند هذا التقسيم على أن كل فرد، عملياً، هو جملة علاقات وتراكيب، فعلاقات الفرد مع أسرته، ومع محيطه، ومع جسده، ومع السلطة… هي ما يؤلف هويته، وبتبدل هذه العلاقات والتراكيب تتبدل الهوية، فالعلاقات هي ما يشكّل الهوية، لا العكس، وبهذا تصير الهوية نتيجة لا سبباً، وهنا أيضاً يمسي العالم هو ما يشكل الفرد لا العكس.

النسخة الأولى من السادات
يمر أحمد بهاء الدين، في مدوّنته، مروراً عابراً على النسخة الأولى من السادات، فيسجل انطباعاته عما تناقلته الحكايات وقتها عن الضابط الشاب، العضو الوحيد بين أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي كان له نشاط معروف على الساحة السياسية قبل يوليو 1952 بعشر سنوات.

يبرز اسم السادات لأول مرة في حادثة عوامة الراقصة حكمت فهمي، بعدما قبض الإنكليز على ضابطين ألمانيين استضافتهما في عوامتها وساعدتهما على إصلاح جهاز لاسلكي امتلكاه عبر استعانتها بالسادات، وأقدم الأخير على ذلك بتكليف من الفريق عزيز المصري، الأب الروحي لجميع التنظيمات العسكرية التي كثر ظهورها في ذلك العصر، وقائد الخلية الثورية التي انتمى إليها السادات حينذاك.

ظهر اسم “أنور” مجدداً حين اشترك في محاولة اغتيال وزير مالية الوفد، أمين عثمان. كما تردد ذكره سراً في محاولتين لاغتيال زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس، ليتشكف بعدها أنه كان عضواً بارزاً في “الحرس الحديدي”، وهو تنظيم شكّله القصر من ضباط الجيش ليستعمله ضد أعدائه.

هذه الحكايات عكست صورة شاب مغامر وصل بالمغامرة إلى منتهاها. وإنْ اختلف الأمر بعد ثورة يوليو، لا تقع على أي من ملامح السادات هذه، بل يمكن الزعم أن السادات أمسى شخصية نقيضة لتلك الصورة، إثر تغير علاقاته سواء بمحيطه، أو بالسلطة التي أمسى بين ليلة وضحاها من بين أصحابها، بعدما كان مجرد أداة متواضعة في يد أصحابها، أو بجسده، فعند قيام ثورة يوليو كان على مشارف الكهولة، لتتشكل هوية مختلفة له.

وتعليقاً على تلك النسخة من السادات يسجل بهاء الدين خاطرة راودته حينذاك، وهو نمط كتابة وعرض يسود طوال المدونة، مفادها أن السادات، بناءً على مغامراته السابقة، ربما يكون من أصحاب الآراء الفاشية. وهنا يتجه الرجل بحديثه إلى الماضي، لتقود أراؤه وانطبعاته، بصفة عامة، كشوفات الذاكرة.

بخلاف بهاء الدين، يتجه هيكل في روايته نحو المستقبل، محاولاً رسم صورة نهائية لبطلها. كذلك، يمكن ملاحظة أن استنباطات هيكل عن الفترة الأولى من حياة السادات هيمنت بعدها على طرحه بأكمله، مع أن الفصول التأسيسية التي استعرض فيها طفولة “أنور” وصباه ومطلع شبابه غابت عنها المعلومة الموثقة، لصالح البلاغة، كتعويض عن النقص، وذلك خلافاً لنهجه في الفصول التالية التي لم تعزه فيها المعلومات والمصادر.

فعلى سبيل المثال، لدى استعراض هيكل المؤثرات التي طبعت شخصية السادات وشكلت معالمها، نراه يرصد حياة الرئيس الراحل طفلاً في منزل والده وزوجاته الأربع، فيكتب: “كان عليه أن يرى أمه تعود إلى مستوى العبودية مرة أخرى بالجهد الشاق الذي وقع عليها في خدمة هذه الأسرة المزدحمة. كانت حياتها- أغلب الظن- لا تقل مهانة عن حياة أبيها حينما كان محكوماً بقوانين العبودية. لقد أصبحت هي خادمة هذا البيت كله، وعندما كانت تقصّر في الخدمة أحياناً فإن ‘محمد محمد الساداتي’ لم يكن يتردد في ضربها أمام أولادها وأمام غيرها من الزوجات.. كان مقدراً له أن يرى بعينيه مهانة أمه أمامه يومياً، تُعاقَب لأسباب لا دخل لها فيها ولذنوب لم يكن عدلاً أن تتحمل مسؤوليتها… كان يقضي معظم وقته في الغرفة التي تسكنها أمه وبقية إخوته منكمشاً على نفسه في ركن مظلم من الأركان… وهكذا بدأ يتراجع إلى داخل نفسه، ولم يكن أمامه مهرب مما هو فيه إلا أن يخلق عوالم من الخيال يهرب إليها” (هيكل، ص. 39).

يتنقل أنور السادات بين المناصب لكنه يحافظ، بحسب محمد حسنين هيكل، على هيئة رجل لا يتمتع بأي كفاءة. يحكي أنه تولى رئاسة مجلس الشعب المشترك بين مصر وسوريا لكونه فقط “يستطيع أن يخطب بصوت عالٍ على الأقل مثل كل البعثيين السوريين”
استعمل هيكل نتيجة استخرجها من هذه الصورة التي رسمها خياله (فهو لا يوضح مصدراً لها) ليلاحق بها السادات على طول المدونة، مسجلاً في أحد المواضع (ويتكرر ذلك كثيراً بعده) أن “الهرب إلى الأوهام سواء بمحاولة احتراف التمثيل أو بمحاولة تقليد مظهر الضباط الألمان، أو التورط في نشاط الجواسيس الألمان في القاهرة، وصل إلى طريق بدا أنه مسدود داخل معتقل ماقوسه بالمنيا” (هيكل، ص. 52)، في إشارة إلى المعتقل الذي أودعه فيه الإنكليز بعد كشف صلته بالجاسوسين الألمانيين.

نسخة ثانية أم نسخة وحيدة؟

لا يهتم هيكل بأن يوضح للقارئ لماذا عدَّ محاولة التمثيل لشاب بالكاد بلغ العشرين من عمره “هروباً إلى الأوهام” وبالمثل انضمامه إلى تنظيم سري ومساعدته ضابطين ألمانيين امتثالاً لأمر قائد خليته عزيز المصري، البطل القومي الملهم، وذلك في ظل احتلال وأجواء سياسية مضطربة حرّضت على أفكار المغامرة والبطولة وهيمنت على الشباب الوطنيين كافة آنذاك.

مع ذلك، لا تعوز الصحافي المصري الكبير، في حديثه عن الحقبة التالية للثورة، المعلومات التي تبرر هيئة للسادات أراد إقحامها في ذهن القارئ، إذ يبرز أنشطة انغمس فيها السادات وقتها، مثل أنه، بعدما أسندت إليه رئاسة تحرير جريدة الجمهورية، نشر العديد من المقالات فيها، غير أن هناك مَن كان يكتبها له، بحسب هيكل، لتتسبب إحداها بأزمة دبلوماسية أو تكاد، ومثل تلقيه الهدايا من صهر الأمير فيصل (الملك في ما بعد) كمال أدهم، وإهدائه عبد الحكيم عامر “أكثر من سيارة كاديلاك” تزلفاً.

يتنقل السادات بعدها بين المناصب لكنه يحافظ، بحسب مدونة هيكل، على هيئة رجل لا يتمتع بأي كفاءة. يحكي هيكل أن السادات تولى رئاسة مجلس الشعب المشترك بين إقليمي الوحدة (مصر وسوريا) لكونه فقط “يستطيع أن يخطب بصوت عالٍ على الأقل مثل كل البعثيين السوريين”، بحسب توصيف ينسبه هيكل لجمال عبد الناصر، بينما كانت “أظهر ملامح نشاطه (السادات) هي الخطبة التي يلقيها كل عام أمام جمال عبد الناصر، ليرحب به ويبايعه بالزعامة”.

يسجل هيكل أيضاً أن السادات تولى سراً رعاية الشؤون الخاصة للشيخ “المبارك الصباح” الذي كان لاجئاً في مصر، إثر خلاف داخل الأسرة الحاكمة في الكويت، وذلك في مقابل مبالغ مالية، منها شيك بمبلغ 35 ألف دولار اكتشف عبد الناصر أمره فأمر السادات بإعادته إلى الشيخ الكويتي.

رغم ذلك، لم تمنع هذه الصورة الصحافي المصري الكبير من أن يعترف ببراعة السادات وقدرته، في موضع وحيد. فنراه، تحت تأثير السياسي اليمني الدكتور عبد الرحمن البيضاني يفاتح عبد الناصر في مسألة مساندة ثوار اليمن ضد نظام الإمامة، و”كان بارعاً في عرضه السياسي”، ما دفع عبد الناصر إلى اتخاذ قرار بدعم الثوار اليمنيين.

في مدونة بهاء الدين، يظهر السادات، في نسخته بعد الثورة، بهيئة مختلفة كثيراً، لكنها ذات قدرة تفسيرية أعلى. ينبه الكاتب إلى صفات اتسم بها الرئيس الأسبق وساهمت في بلوغه طموحاً استطاع بمهارة بالغة أن يخفيه عن الجميع، بينما لا يقدّم هيكل للقارئ سبباً لما وصل إليه السادات إلا الولاء المطلق لعبد الناصر، وهو أمر شارك فيه السادات كثيرون فاقوه في النفوذ والفاعلية، إذ لم يتولَّ الرجل، بحسب ما صوره هيكل، غير مناصب هامشية، أساء فيها أكثر مما أجاد.

“بشوشاً يقهقه بضحكة عالية”. هذا كان الانطباع الأول لبهاء الدين عن السادات عندما التقى به بصورة عابرة. تأخرت العلاقة الوثيقة بينهما حتى العام 1957، حين تشكلت لجنة مصرية للتضامن الآسيوي الإفريقي، برئاسة السادات وعضوية بهاء الدين مع آخرين، فترافقا في أكثر من رحلة. ويسجل بهاء الدين عن السادات وقتها أنه كان متواضعاً “يدير جلساتنا ومناقشاتنا بلباقة وصبر، ولم يكن يحاول أن يفرض أي رأي أو أن يوحي أنه موجود كممثل للسلطة” (بهاء الدين، ص. 10).

في تلك النسخة، دأب السادات على الاستماع إلى غيره. “كان حريصاً على دعوتي إلى إبداء رأيي في كل موقف ونحن نواجه عالماً إفريقياً جديداً” (بهاء الدين، ص. 15). “وفي رحلات الطائرة الطويلة كان أنور السادات يدعوني دائماً تقريباً إلى الجلوس في المقعد المجاور له، نتحدث في كل الشؤون السياسية والعامة وما يتصل بالثورة المصرية ومشاكل مصر” (بهاء الدين، ص. 11).

احتفظ الرئيس الأسبق بهذه السمات بعد ترقيه في المناصب، ليسجل بهاء الدين أنه “تلت ذلك مرحلة أخرى كان أنور السادات فيها رئيساً لمجلس الشعب… وكان كثيراً ما يطلب منّي الحضور إليه، فأذهب وأجده جالساً تحت نفس الشجرة في الحديقة ونظل نتكلم ونتناقش ساعات طويلة” (بهاء الدين، ص. 14).

في هذه النسخة أو الهوية الجديدة التي جاءت مغايرة تماماً لهويته القديمة (الشاب المندفع الذي يلقي بنفسه في أي مغامرة تلوح له دون تأني)، استحال السادات إلى شخص يصفه بهاء الدين، تعليقاً على مناقشة جرت بينهما بأنه “هذا الرجل القادر على الهدوء والصمت، وإبداء عدم الاهتمام والرغبة في أي منصب، له وجه آخر في باطنه… إنه مثل الجميع له طموحات سياسية، ولكنه يحاول تحقيقها بصبر وهدوء وبإظهار الزهد فيها” (بهاء الدين، ص. 14). ويؤكد بهاء الدين ذات المعنى في موضع آخر: “كان من عادته في ذلك الوقت أن يستمع أكثر مما يتحدث، وهو بالتأكيد ممن يحسنون الاستماع وعدم إظهار مشاعرهم أو النطق إلا بما يريد أن يقوله فقط” (بهاء الدين، ص. 15).

وخلافاً لما عُرف عن رجال النظام في عهد عبد الناصر، كان السادات، بحسب بهاء الدين، أكثر مرونة ومراعاة للآخرين حتى ممَّن امتلك سلطة عليهم. يذكر الكاتب موقفاً له مع السادات بعد تعيينه مشرفاً على مؤسستيْ “أخبار اليوم” و”دار الهلال” التي كان بهاء الدين يترأسها في ذلك الوقت، إذ طلب السادات تجهيز مكتب له في “دار الهلال” فبدا لبهاء الدين أن حضور الأول على رأس المؤسسة يُلغي وجوده ويمنح الفرصة “لتستغل العناصر إياها وجود سلطتين”، فطلب إعفاءه من منصبه، فما كان من السادات إلا أن آثر صرف النظر عن مسألة المكتب واكتفى بالإشراف على مؤسسة “أخبار اليوم”.

كانت هذه النسخة من السادات هي الأكثر كفاءة وذكاءً وتوازناً. وتمكن الرجل وفقاً لها من أن ينجو من كل الدسائس والوشايات التي سادت أروقة السلطة، وبالتبعية حفظ مكانه إلى جانب عبد الناصر الذي أطاح بأغلب زملائه في مجلس قيادة الثورة.

ورغم اختلاف بين الرجلين، عبد الناصر والسادات، أكده كل من هيكل وبهاء الدين، إلا أن الأخير يرى أن عبد الناصر اختار السادات خليفة له فجاء “اختياراً مدروساً ومقصوداً”، بينما يعزو هيكل تولي السادات منصب نائب الرئيس إلى الظروف، مشيراً إلى أنه كان بصفة مؤقتة.

في هذه النقطة تحديداً، يدلل على صحة ما ذهب إليه بهاء الدين أن عبد الناصر حين عيّن خلفاً له بعد هزيمة 67 وقع اختياره على زكريا محيي الدين المعروف بميله للسياسات الليبرالية و”ميوله شبه العدائية للاتحاد السوفياتي” وعلاقاته الجيدة بالأمريكيين، أي أن عبد الناصر، عندما أحس بقرب نهايته، سواء بعد النكسة أو إثر مرضه وورود معلومات عن محاولة لاغتياله في مؤتمر القمة العربية في الرباط (1969)، اختار في المرتين رجلاً لا يشبهه، وبالتبعية كان من المتوقع أن يسلكا مسلكاً مختلفاً عن مسلكه.

فهل رأى عبد الناصر أن أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة دون أن يجرؤ على التصريح مثل خليفته؟ ربما استشعر تشكل عصر جديد في الأفق، لا مكان فيه لشعاراتية امتاز بها نظامه وتلقت هزائم مذلة (فشل مشروع الوحدة، ثم هزيمة 67)، ما تطلب نهجاً أكثر واقعية.

وفي هذا الخصوص يتفق كل من بهاء الدين وهيكل على أن واقعية السادات جاءت متطرفة، ربما كرد فعل تناسب طردياً مع التطرف في شعاراتية عبد الناصر وهزيمة مشروعه.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker