مختارات

“الحوار الوطني”.. حديث ذو شجون مع معارضة “لم تشرب الشاي بالياسمين” (2-2)

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن موقع 360

حسين عبد الغني

 

 

 

لم يكد الجرسون ينتهي من رفع أكواب الشاي وفناجين القهوة حتى انطلق سياسي مخضرم في الحديث بسرعة فائقة خشية أن يسبقه حماس الشباب، قائلًا: “لا تتصرفوا على أننا كبرنا ولم نعد قادرين على المتابعة، وإذا كنتم أبناء عصر الإنترنت من (الميلانيم) فنحن تمسكنا بأهداب هذا العصر ولحقنا به بقدر ما تسمح به حدود (المعافرة) ونتابع على مدار الساعة كما تتابعون وسائل التواصل الاجتماعي. ونعرف ما يكتب فيه من مواطنين كواهم الغلاء والتضخم من أن الحوار استخدم كغطاء حكومي لتمرير زيادات في أسعار البنزين والكهرباء زادت من معاناة ما لا يقل عن ثلاثة أرباع شعبنا بطريقة تجعلنا -نحن المعارضين الذين يطالبون الحكومات المصرية المتعاقبة منذ ممدوح سالم ليلًا ونهارًا بالكف عن المزيد من تحميل الطبقة الوسطى والفقراء تكاليف الأزمة الاقتصادية- نبدو وكأننا شركاء في حوار سيقود إلى مزيد من المعاناة الخانقة للأغلبية من شعبنا.

اقرأ أيضًا.. “الحوار الوطني”.. حديث ذو شجون مع معارضة “لم تشرب الشاي بالياسمين” (1-2)

وأضاف السياسي المخضرم محدثًا الشاب: “نحن نعتزم عقد جلسات مكثفة مع ممثلينا في مجلس الأمناء ومرشحينا للجان الحوار والحديث إلى الرأي العام بالقطع لمحو أي انطباع بأننا متواطئون معها على ذلك وإعلان معارضتنا لانتهاز الحكومة غطاء الحوار لزيادة الأسعار على المواطنين بكل ما يحمله ذلك من إيحاء خاطئ لجماهير شعبنا من أن هذه الزيادات المنهكة هي ما أسفر وسيسفر عنه الحوار الوطني الذي دخلناه فيكفر به ويزهد فيه قبل أن يبدأ”.

باندفاع شديد قال الشاب متشجعًا بتحفظات المخضرمين على خط سير الحوار وأجوائه:

“إذا كانت لديكم هذه الملاحظات النقدية فلماذا لا تعلنون ذلك ولماذا لا نتوقف تمامًا عن أي تفاعل مع اتصالات الحوار (ونعلق) حضورنا فيه حتى تشعر الدولة بأن منسوب التفاؤل بالحوار تراجع إلى مستوى متدني، وأن منسوب التشكك فيه ارتفع؟ وبصراحة أكبر نحن كمعارضة وليس الموالاة الذين نخسر من قبول الحوار. فبعض كوادرنا تنسحب من التفاعل معنا وبعضهم ذهب إلى بيته غاضبًا. قواعدنا في الشارع بدأت في التشكيك في مصداقيتنا والتزامنا بمبادئنا والتزامنا بحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية أمام حكومة جباية مالية”.

بدأ المخضرمون هنا وقد امتلكوا زمام المبادرة وانتقلوا لأول مرة من موقع الدفاع لموقع الهجوم وقال أقربهم إلى الشباب المعروف بحبه للغناء:

“أما لماذا لا نعلق مشاركتنا في الحوار؟ وأتمنى ألا نكون المبادرين بفعله فهو سبب بسيط قاله أو على الأصح غناه صديقنا محمد منير الذي تحبونه وأحبه قلب الوطن مجروح.. ما يحتمل أكتر”.

سادت الدهشة الوجوه، عبر عنها صمت غير قصير قطعه أخيرًا أحد الشباب قائلًا: “اعترف بأنني لم أفهم ما هي علاقة منير والغناء كله من بابه بموضوع الحوار الوطني وصعوباته؟!”

رد المخضرم بهدوء تام: “تعالوا نعود إلى أصول المسائل فتعرفون العلاقة بين الجملة التي غناها منير والحوار الوطني؟ فهل تعلمون لماذا قبلنا الحوار على الفور يوم 26 أبريل الماضي؟ ليس لأننا لا نملك شكوكًا في نوايا أو جدية الموالاة في الحوار وليس لأننا فقدنا الذاكرة مرة واحدة ونسينا تجربة السنوات الأخيرة التي عانينا فيها بقسوة من عملية القبض والحبس الاحتياطي لكوادرنا وأغلقت أمامنا كل أبواب الحركة وتعرضت أفكارنا وبرامجنا السياسية وتصريحات وشخوص رموزنا إلى عملية اغتيال معنوي من الإعلام الموالي والإعلام الإخواني على حد سواء. بل لأن إحساسنا بالمسؤولية الوطنية أكبر من الاستغراق في اجترار آلامنا وتضحياتنا”.

وهذه المسؤولية جعلتنا نوافق على الحوار بما أن البلد مأزوم ويدعو قواه الحية لإنقاذه، فالمعارضة المدنية لا تعمل بمنطق الثأر أو المنطق الشمشوني الصفري “عليّ وعلى أعدائي” الذي يعمل به الإخوان حتى لو كان ذلك على أنقاض الوطن وتحويله إلى “حفنة من تراب”.

رد أحد الشباب بعناد بدا معه وكأن سخونة الحوار تعود للاشتعال من جديد، قائلًا:

“وهل يعني تحلينا بالمسؤولية أن نتخلى عن أحلام يناير في دولة مدنية ديمقراطية عادلة تقوم على تكافؤ الفرص وعملية تشويهها لا تتوقف حتى والدعوة للحوار مستمرة؟”.

ثورة يناير
ثورة يناير

حافظ المخضرم على هدوئه واكتفى بقوله:

“لا لن نتخلى عن أحلام ولا شهداء يناير ولكن لو انتظرت قليلًا ربما ستجد الإجابة على سؤالك.. كنت أتحدث قبل قليل عن وضع مصر وفي هذا الوضع المأزوم كلام كثير فنحن نعلم مثلكم تمامًا أن المزاج العام يميل إلى نفاد منسوب الصبر، ويجذبه الخطاب الحاد والنبرة الصفرية المعارضة لأي حوار وتبحث عن الحساب والانتقام فيبدو أننا نسبح ضد التيار بل ونخاطر بتاريخنا كله بالسباحة ضد هذا التيار. ولكن تحليلنا الوطني لهذه اللحظة كمعارضة يقول إن الوضع الاقتصادي التضخمي الذي تقف فيه مصر حاليًا مع نحو عشرين دولة ونيف هو وضع قابل للاشتعال. وأن البلد لا تحتمل انفجارًا اجتماعيًا عفويًا لجماهير تعاني بقسوة ومهما حسنت النوايا فإنه سيأخذ العاطل بالباطل ومن راكم ثروة من حلال ومن راكمها من حرام، ويدمر جزءا من الثروة الوطنية ومن الاستقرار السياسي ويزيد من الصعوبات المزمنة للاقتصاد المصري”.

إن البديل للنظام السياسي المصري -في ظل إسكات المعارضين وحبس الأحزاب داخل مقارها وتوقف نموها الطبيعي وإبعاد الأصوات المستقلة عن الإعلام في السنوات الاخيرة- لن يكون تيار 25 يناير بنقائه الثوري ولن يكون توازن 25 يناير و30 يونيو بين حزب يناير وحزب الكنبة، وهو التوازن الذي أنتج دستور 2014 ولكن البديل هو الانفجار العشوائي للجموع بدون قيادة سياسية حضرية وحداثية من طلائع الطبقة الوسطى كما حدث في ميدان التحرير الذي ألهم العالم، أو سيكون البديل هو استيلاء تنظيم الإخوان -الذي لا يصدق عاقل أنه مات بالسكتة القلبية وإنما فقط وكعادته نزل تحت الأرض متحينًا الفرصة إما للوثوب على السلطة وإما أن يكتفي –عند الإخفاق- بإحداث فوضى تتقدم عليه جحافل الإرهاب الأسود التي نجحت مصر في قص كثير من أجنحته في الأعوام الماضية بتضحيات غالية من شهداء جيشها وشرطتها.

قبولنا كمعارضة الحوار هو اختيار للحل الإصلاحي السلمي التدريجي الذي يسمح بتفعيل دستور 2014 المعطل وإعادة الحياة لديباجته الشهيرة في تحديد يناير ويونيو كمصدر موحد لشرعية النظام السياسي دون تشويه للأولى ولا إنكار للثانية.

الدستور المصري
الدستور المصري

مستمرًا في التحدي والعناد رد نفس الشاب قائلًا: “كيف ستحققون كل هذه الإصلاحات السلمية مع وجود قانون الحبس الاحتياطي الحالي وقانون الانتخابات الحالي وعدم وجود إعلام مستقل أو معارض.. إلخ من القوانين المهيمنة على الفضاء العام؟”.

قال أحد المخضرمين الذين صمتوا طوال الحوار: “سنحقق معًا وليس ستحققون! هذه قوانين نسعى بحزم عبر ممثلينا في اللجان وفي مجلس الأمناء لأن يتوافق الحوار على تعديلها جوهريًا بما يزيل تمامًا كل ما يتعارض فيها مع الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور واستلبتها منه هذه القوانين”.

قال الشاب القارئ الذي يتابع كل شيء: “وهل سنتجاهل ما نسمعه يوميًا من رجل الشارع أنهم يخشون أن يكون حوارًا بين نخب صالونات لا تعرف حجم الفقر والمعاناة لا صوت فيه للشعب؟”

رد أكبر الجيل القديم سنًا:

“بل إن أولويتنا الرئيسية من الحوار هي إجراء تغيير ملموس على السياسات الاقتصادية التي قادتنا إلى هذه الأزمة المتكررة ولكن كل مرة بديون وأعباء أكبر، ووسيلتنا في ذلك هي مواد دستور 2014 الذي أكد المنسق العام للحوار في الجلسة الأولى وفي المؤتمر الصحفي أنه أساس الحوار وحاكمه.

لن نتنازل عن النسب المقررة دستوريًا للتعليم والصحة ولن نتنازل عن الضرائب التصاعدية لكفالة عدالة توزيع الأعباء على الأغنياء والفقراء وليس فرضها على الفقراء فقط كما هو حاصل من سياسات نيوليبرالية. لن نتنازل عن رفض الخصخصة المثيرة للشبهات ولا عن سياسة توطين التصنيع وزيادة الصادرات وتقليل الواردات وهناك في أحكام الاتفاقية العامة للتجارة الدولية ما يمنح مصر وأي بلد الحق في الحد بصرامة من واردتها فيقل نزيف العملات الحرة وتضيق الفجوة الدولارية ويصغر معها هذا الإدمان المصري على الاقتراض بتعبير الدكتور جودة عبد الخالق.

عند هذه النقطة ظننت أن الحوار بلغ منتهاه لكن الشباب فاجأ المخضرمين وقالوا بتحد آخر:

“وهل سيكون لديكم شجاعة إعلان أن حساباتكم لم تكن دقيقة إذا أخفقتم في تحقيق هذه الأهداف؟ وهنا تضاربت المواقف وتداخلت أصوات المخضرمين فمن قال موجزًا (لا تعبر الجسر قبل وصوله)، وهناك من قال مختتمًا بتفصيل أكثر: وإذا لا قدر الله لم ينجح الحوار في تحقيق أهدافه المرجوة للوطن، فسيكون واضحًا أمام الناس والتاريخ أنها ليست مسؤولية المعارضة المدنية. التي لبت الدعوة وتحملت في سبيل ذلك كل أذى الإخوان ومزايداتهم.

المقال مهدى إلى روح الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس الذي ألهمني كتابه الشهير «على مقهى في الشارع السياسي» القالب الذي صغت فيه هذا المقال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock