رؤى

الفلسفة العربية.. الخروج من دائرة النقل والشرح والانتحال!

يذهب البعض إلى أن إنتاج نص فلسفي عربي- أمر من الصعوبة بمكان، ويتمادى آخرون بالقول أن لغة الضاد ليست لغة تفلسف بالأساس؛ حتى أننا إذا حملناها إلى المعنى الفلسفي؛ نكون بذلك قد حمّلناها ما لا طاقة لها به، ونكون قد وضعنا أنفسنا في محنة قاسية ودخلنا دائرة الاتهام بالنقل غير الأمين الذي يرجع بنا إلى الخلف، ويسلمنا للتخلف، وهو عكس مقصود الفعل الفلسفي الذي يرمي إلى استكانه الواقع وصولا إلى تفكيك معضلاته ومكبلات تقدمه.

إن الوقوع في شبهة انتحال الأصل الإغريقوروماني الذي ذهب البعض إلى قصور لغتنا عن مقدرة استيعاب نص فلسفي بعيدا عن مضامينه، حتى أن واحدا من أهم فلاسفتنا، وهو ابن رشد لا يعدو كونه- في نظر البعض- مجرد شارح لفلسفة أرسطو؛ بل إنه حين أراد أن يخطو بعيدا عنها تعثَّر غير مرة؛ حتى أدرك أنه قد قارف خطأ وجب إصلاحه – لا يجب أن يقعد بنا عن تلمس السبيل لإنتاج نصوص فلسفية صرفة، تتحاشى دون تهويل أي سمات وافدة أو دخيلة.

إن “إشكال البدايات والتأسيس، والمجادلة في أنماط التأويل التي أنجزها الفكر العربي للتيارات الفلسفية الغربية في عقود تاريخية منصرمة كمقاربات؛ لا تتوخى الإحاطة التاريخية الجامعة، بل إنها توظف التقصي التاريخي؛ لتتمكن من معاينة العوائق النظرية التي تحول دون رسوخ المغامرة الفلسفية المبدعة في مجال النظر العربي” بحسب ما يشير كمال عبد اللطيف.

ابن رشد
ابن رشد

فّإذا كنا جادين في طلب ذلك المفقود؛ علينا أولا أن نفض ذلك الارتباط القديم بين الفلسفة العربية وتاريخها وسِيَر فلاسفتها الأوائل وما خاضوه من معارك – فقد حال ذلك بينها وبين المواكبة فصارت حبيسة الماضي، ليس ذلك فحسب بل إنها وقفت عند مغلقاته دون محاولة جادة لتلمس المعنى اللاحق على أحداثه، ومن ثم غُلَّت يد الفلسفة العربية عن استلهام رؤى المستقبل التي لا تفجأ بالأحداث ولا تستسلم للجزع.

ونحن إذ نفقد القدرة على استخراج فلسفتنا من جُبِّ التاريخ؛ نُسلَب أيضا إمكانية امتلاك أدوات التحكم في مصائرنا، ويصبح فراغ المجال الذي تحدثه تلك الغيبة الخطرة مصدر ارتباك هائل وتمدد للعدوان على كل ما هو أصيل في واقعنا.

إن تحرير الرؤية الفلسفية العربية من عوائق التبعية والتقليد والمطابقة، بتجديد النظر في كل القضايا والمسائل بشكل يجاوز كل ما هو سائد يعد أولى خطوات بعث الحياة في الفلسفة العربية وذلك من خلال الترجمة والتأصيل- كما يرى طه عبد الرحمن في قراءته للتراث التي سعى من خلالها نحو الخروج من هذا المأزق.

كما كان لعبد الرحمن توق إلى “تحقق فلسفة عربية متميزة تتمايز عما سواها في مختلف اعتباراتها، وتتأسس على ما أسماه “السؤال المسئول” والذي يعتبر طورا ثالثا من أطوار السؤال الفلسفي، بعد السؤال اليوناني القديم الذي عد سؤال فحص، وبعد “السؤال الأوربي الحديث” الذي عُدَّ سؤال نقد.

فقه الفلسفة

رغم ذلك يحلو للبعض أن يشير بإصبع الاتهام إلى لغتنا المغرقة في جمالياتها الأسيرة في بلاغتها، ما أقعدها عن الأهلية لتلك المهمة- لكننا نُحرِّض على عدم التسليم بالمقولات السالفة مهما كانت درجة يقينيتها لدى البعض، فإذا كان البعض يرى أن اللغة بمثابة سجن للمعنى الفلسفي، وأنها تضيق بكثير مما يراد من النص الفلسفي.. نؤكد أن تلك الإشكالية إنما نبعت من الترجمات القديمة للفلسفة اليونانية التي جرَّت علينا التباس المعاني وازدواجية اللغة وتلك الحالة من المراوحة العاطلة بين الأصل والترجمة التي لا تثري ولا تعمِّق بقدر ما تربك وتمكر.

إن تلك الحالة من الضياع دعت البعض إلى اتهام اللغة العربية بالحدة والقطيعة مما يناوئ ما يجب أن تكون عليه المدلولات اللفظية من رحابة، وهذا ما اعتبر صرامة لا تتسق وما يجب أن يكون للغة الفلسفية من لين يسمح بحمل الأبعاد الفلسفية دون طغيان الجوانب اللغوية، وهذا الرأي قال به كثير من القدماء والمحدثين، وهو وإن كان يبدو للوهلة الأولى متماسكا إلا أنه لا يصمد كثيرا أمام النقاش الجاد، إذ من الواضح أنه يحيل إلى أن قوة اللغة العربية المشار إليها بالحدة والقطيعة وصرامة التعريف من شأنها تغوُّل اللغة على المعنى الفلسفي، وكأنه ضعيف هش لا يقوى على مواجهة ذلك، كما أن هناك تناقض آخر بشأن قدرة العربية على حمل المعنى الفلسفي دون طغيان الجوانب اللغوية، وهو أمر مضحك ينبئ عن ضحالة علم بما لمفردات العربية من مقدرة على الانكماش والاختزال الذي يسمح بالتجاور والتماهي والمباغتة، وهذا مما لا غنى عنه في المبتغى الحكمي.

من الواضح أن كثيرا من تلك الهجمات هي بفعل عواصف التغريب التي اجتاحت عالمنا العربي منذ زمن بعيد، نحن نعرف ذلك ونرصده في لحن القول في عديد من الكتابات، وهذا معلوم في أغلب مراميه وتوجهاته مكشوف في أدواته وآلياته؛ لكن الطريف أن ما يسوقونه دفاعا عن غربية الفلسفة وانحسار ثقافتنا عن بلوغ شواطئها، وأن غاية ما يمكننا بلوغه السباحة في فضاءات النص الفلسفي الغربي، واستكناه بعض معانيه- يبتعد بهم هم أنفسهم عن روح التفلسف التي تبقي النوافذ مفتّحة لإعادة التعاطي مع الإشكاليات لإنتاج دلالات متجددة، فيقعون في فخ إصدار الأحكام القاطعة، ومصادرة الآراء المخالفة، والوصول إلى مرحة الانتهاء ورفع الأقلام.

إننا إذا أردنا تجاوز كل هذه العوائق وصولا إلى إمكانية إنتاج نص فلسفي عربي صرف؛ لابد لنا أن ندرك أسباب تلك المحنة التي حاقت وما زالت بالفلسفة العربية، ومن أهم تلك الأسباب ذلك التنازع بين من يرونها ظلا باهتا للفلسفة الغربية لابد أن تبقى هكذا، ومن يتخذ من تلك الرؤية ذريعة لوصمها بكل نقيصة.. وهي تبدو في تلك الحال دون منتصر لها على وجه الحقيقة، بينما يرى كثيرون أن محنة الفلسفة العربية إنما صنعها تغول الديني على الدنيوي فيما يتعلق بمسائل الألوهية والوجود والماهية والحياة ونشأة الكون وغيرها، مما حدا بالكثيرين إلى القول بضرورة فض هذا الاشتباك الحادث نهائيا، إذ لا ضرورة على الإطلاق لجعل الفلسفة والدين قيد المواجهة، كونهما من حيث المدخل متباينين، حيث إن مدخل الفلسفة عقلي (تشككي) بينما مدخل الدين إيماني تصديقي (يقيني)، ومن ثمَّ فهما حقلان متمايزان لا يصح وضعهما متقابلين على هذا النحو.

ويشير الدكتور الجابري في كتابه إشكاليات الفكر العربي المعاصر، إلى الدور الذي قامت به الصوفية بوصفها مكونا رئيسا للأطر الاجتماعية الثقافية والسياسية، ومن ثم تحولها إلى مركز يتمحور حوله “اللامعقول بلباسه الديني” قبل أن يصبح موجها للعامة ومحولا إياهم إلى “قوة مادية تقف بالمرصاد لكل نهضة عقلية”.

محمد عابد الجابري
محمد عابد الجابري

ويلمح الجابري إلى دور الغزالي الذي حوّل التصوف إلى بحيرة استوعبت السيل الفلسفي العربي واحتوته، لتقوم بتبديده وإبطال فاعليته!

إن من أولويات العمل على إنتاج نص فلسفي عربي أن نصل إلى درجة من القبول المجتمعي يصنعها النظر المعمق للواقع ومعضلاته، وتلك المحاولات الدؤوبة لحلحلة تلك الحالة من الركود المميت التي تورث اللامبالاة وتبعث على بلادة الحس، وتراجع العقل ونكوصه عن القيام بمهامه من إزالة ركام المقولات المضللة والممارسات التي تتزيا المنطق، وتنتحل أدوارا أبدا لم تكن لها.

وليس هناك برهان على مسيس الحاجة إلى ذلك أنصع من تراكم ما أنتجه واقعنا من تأزمات ومعضلات وإشكاليات بمعزل عن الحلول الناجعة، فصرنا نحتفظ بها كإرث تتداوله الأجيال، أو تنتفي هذه المعضلة أو تلك بانتفاء أسبابها الموضوعية أو تقادمها أو اندماجها داخل معضلة أكبر، وحتى تلك المحاولات التي بذلت لم ترق إلى مستوى الجدية التي يحفظ لها شيئا من أثر أو بقية من قدرة على الاستمرار.. لذلك يتوجب علينا أن ننظر في أسباب هذا الإخفاق، ومن أهمها أن كثيرا منها أخلص لما رآه من ضرورة التوفيق فانتهى إلى التلفيق، وليس أخطر من طلب أسباب النجاة دائما أبدا بحسبان التصدي للمشكلة من جانب النظر الفلسفي أمر ينطوي على خطورة، وغير ذلك من المحاولات لم يكن سوى خضوعا مبررا لهيمنة النص الديني مع الاحتفاظ باستقلال شكلي على مستوى البنية والوظيفة.. أما النوع الأخير فقد كان جموحا صرفا وتمردا مختلقا صار مع الوقت لددا وادعاء بلا طائل.. فهل من الممكن أن يكون تلمسنا لهذا الدور بعيدا عن هذه الأنواع الثلاثة من الفخاخ؟ وما أكثرها على الطريق!

إننا بحاجة إلى أن نثق في قدرتنا على خلق واقع غير معاد للطرح الفلسفي بل مناصر له، أو على الأقل يقف منه على الحياد، وهذا لن يتأتى إلى بإحداث تلك الدرجة من الوعي الكاشف لكل الممارسات العدائية المغرضة التي أدمنتها مؤسسات السلطة في مجتمعاتنا؛ حتى وصلت بها إلى درجة التبجح الكامل في التقليل من شأن كل ما هو علمي انتصارا للتضليل والجهالة ودفعا للوطن إلى المصير المجهول دون حسيب؛ استغلالا لتلك الحالة العامة من الذهول الناتج عن فداحة الانهيار وتسارعه.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock