رؤى

خط الإنتاج الأيديولوجي للحداثة

من صفحة الدكتور محمد دوير الباحث في شؤون الفلسفة علي الفيس بوك

الحداثة كأيديولوجيا، تعمل وفق خط انتاج –كأي مصنع كلاسيكي – وتهدف إلى إنتاج ثلاث سلع أساسية وهي: نقل الفرد من 1- حالته الدينية إلى حالته المدنية أي من الولاء لمقولات رجال الدين إلي الولاء لنظريات العلماء، 2- ومن حالته البشرية إلى حالته الإنسانية أي من فكرة الرعية إلى مفهوم العقد الاجتماعي، 3- ومن حالته الذاتية- حروب الهوية والوجود والبحث عن الطعام – إلى حالته الاجتماعية والتعاونية، وكانت المدينة والمصنع وسيلته لذلك. تلك التحولات خلقت نوعا متماسكا من الايديولوجيا عبر أبعاده الثلاثة تلك.

بيد أن نقطة الارتكاز لهذا المثلث لم تكن سوي الملكية الخاصة، التي جري على طاولتها رسم خريطة الانسان الحديث، وبناء مفاهيمه وتصوراته عن نفسه وعن الحياة بوجه عام. وبهذا المعني يمكن القول بأن التحول من انسان العصور الوسطي الي الانسان الحديث لم يكن جذريا رغم كل هذه التحولات المهمة، إذ كان العمود الفقري للمجتمعات – وهو الملكية الخاصة – هو السمة الغالبة بين النمطين، وإن اختلفت صورها بالطبع.

إذن، لم يكن الهرم الاجتماعي في القرون الخمسة الأخيرة ( ما يسمي بعصر الحداثة)  بقادر على أن يتنازل عن هيراركيته تلك، مما يعني أن الايديولوجيا كانت محصنة بمنطق الملكية الخاصة الذي لا يمكن، بل ولا يجب، تجاوزه، هذا المنطق هو ما تبقي لهؤلاء المنظرين من البراهين التي قدموها في الطبيعة البشرية، حيث أصبحت كافة المقولات كالعدالة والمساواة والخير والحس السليم.. الخ كلها ملحقات لذلك المنطق الذي تأسست عليه أعمدة الايديولوجيا الحداثية.

وكل حديث عن إنجازات الحداثة ينظر إليها غالبا – بفعل تأثير الأيديولوجيا – بوصفها انجاز بشري يجب الاحتفاء به، حتي لو كان مضمونه هو ترسخ العلاقات الرأسية في الاجتماع البشري. وعلي سبيل المثال اتخذت العلمانية كأيديولوجيا موجزة أو نهائية لمشروع الحداثة طابع تلك الملكية الخاصة، بمقولة فصل الدين عن الدولة التي راجت كتعريف للعلمانية، وهي في حقيقتها لم تكن سوي الشكل لجوهر مكون من سلسلة عمليات فصل.. بين العامل وقوة عمله، الدولة والمجتمع المدني، المدينة والريف، العالمين المتحضر والمتخلف، المتقدم والرجعي، السادة والعبيد، الخ، فالعلمانية بهذا التوجه إنما هي انتاج ايديولوجيا الحداثة، وليست انتاجا بشريا بالمعني العام الذي يمكن أن نأخذ عليه مفهوم علمانية، فيما نري أن المفهوم ينبغي أن يقضي على كافة صور الظلامية في التفسيرات سواء اجتماعية أو سياسية.

 لقد بدت لنا علمانية الحداثة بوصفها علمانية أخلاقية لم تنشغل سوي بالصورة الخارجية للعلاقات الإنسانية، وذلك حينما استبدلت القانون المدني بالقانون الإلهي، في حين أن القانون المدني هذا لم ينحرف عن القانون الإلهي سوي بمقادير متواضعة. والناظر في القانون الروماني مثلا سيجده أحد المؤسسين للقانون الإلهي في تخارجه البشري.

إن الإصلاح الديني والتنوير والعلمانية والتقدم والحريات بكافة صنوفها – كما تطرحها الحداثة – ليست في مضمونها سوي تصور البرجوازية الأوربية عن نفسها وعن الوجود والحياة والكون والمجتمعات.. وهو – شئنا أن أبينا- تصور أيديولوجي بامتياز.. ورغم ايديولوجيته تلك لا يجب رفضه أو قبوله.. بقدر ما ينبغي علينا فقط أن ندرك تلك الحقيقة ونحن ندرس تجربة الغرب الحداثي أو ما بعد الحداثي.

من كتابي #أكذوبة_نهاية_الإيديولوجيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock