رؤى

مصطلح “اسم”.. الدلالة والمفهوم في التنزيل الحكيم

عبر التمييز بين الخلق البشري والاستخلاف الإنساني، تأكد لدينا، في حديثنا السابق، عدم صحة المقولة التي انسابت من بين يدي الكثيرين من السلف، ومن سار على دربهم من الخلف، نعني مقولة “آدم خليفة الله على الأرض”. إذ، إن آدم عليه السلام، بعد التسوية والاصطفاء ونفخة الروح، إضافة إلى الأسماء التي تعلمها، أصبح يختلف عن البشرية من قبله؛ أي أصبح خليفة لمن كان قبله من البشر من نفس جنسه، ليؤدي كـ”إنسان” مهمته التي استخلفه الله سبحانه وتعالى من أجلها.

ويظل السؤال الذي يطرح نفسه: فما هي الأسماء التي تعلمها آدم عليه السلام؟

والأهم، ما هي هذه الأسماء التي لم تكن تعرفها الملائكة، قبل أن يُنَبِئهم آدم بها، بأمر من المولى عزَّ وجل؟ ثم، ما الرابط بين تعلم آدم لهذه الأسماء، ودلالة الاصطفاء الإلهي له ليكون في الأرض خليفة؟

هذه، وغيرها كثير، تساؤلات تطرح نفسها بقوة، في إطار محاولتنا البحث في الفارق بين الإنسان والبشر؛ وكذلك، في معنى الاستخلاف ودلالته.

سؤال الاسم

في معرض الإجابة عن تلك التساؤلات، نبدأ من دلالة لفظ “اسم”، وكيف تناوله المفسرون القدامى والمحدثون على حد سواء. وسنحاول هنا، الاكتفاء بأمثلة ثلاثة، في محاولة معرفة الإشكالية التي تتبدى بها دلالة ومفهوم لفظ “اسم”، في الفكر العربي الإسلامي. وسوف نبدأ من محاولات تفسير الآية التي وردت في سورة البقرة، نعني قوله سبحانه وتعالى: “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ” [البقرة: 31].

في تفسيره لهذه الآية الكريمة، يؤكد الرازي في “التفسير الكبير، ط 1، 1981″، على أن “وعلم آدم الأسماء كلها، أي علمه صفات الأشياء ونعوتها وخواصها، والدليل عليه أن الاسم اشتقاقه إما من السمة أو من السمو؛ فإن كان من السمة كان الاسم هو العلامة وصفات الأشياء ونعوتها وخواصها دالة على ماهياتها، فصح أن يكون المراد من الأسماء: الصفات؛ وإن كان من السمو فكذلك لأن دليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء”.

وكما يبدو، يكتفي الرازي، وهو من كبار المفسرين، من القدماء، بأن الاسم اشتقاقه “إما من السمة أو السمو”؛ ولا ندري لماذا لم يحدد لنا أيهما هو اشتقاق الاسم، ولماذا.. إذ، إن الفارق بين السمة والسمو، كبير من حيث المعنى والدلالة.

أما المراغي، وهو من المحدثين، فيشير في كتابه “تفسير المراغي، ط 1، 1946″، إلى أن “الأسماء واحدها اسم، وهو في اللغة ما يُعلم به الشيء؛ فاسم الله مثلًا هو ما به عرفناه في أذهاننا، بحيث يُقال إنا نؤمن بوجوده”. وهنا، يبدو أن المراغي لا يُفرق بين المعنى والدلالة؛ يؤكد هذا قوله “يُقال من الأسماء المسميات، وعبر بها عنها للصلة الوثيقة بين الدال والمدلول، وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر”

وكما يتضح، فإن المراغي، وهو واحد من دارسي ومدرسي اللغة العربية في آن- يختصر المسألة كلها في دمج الأسماء بالمسميات، نتيجة الصلة بين الدال والمدلول، بحسب تعبيره. فإن طرحنا التساؤل عن معنى الاسم، ومدلوله، لا نجد الإجابة واضحة. أما محاولته تعريف “العلم الحقيقي”، بأنه “إدراك المعلومات؛ أما الألفاظ الدالة عليها فهي تختلف باختلاف اللغات التي تجري بالمواضعة والاصطلاح”؛ فهذه المحاولة لا تُلقي الضوء على ماهية العلم، وعلاقته بالأسماء، وعلاقتهما معًا بتفسير الآية الكريمة؛ خاصة أن مفتتح الآية: “وَعَلَّمَ آدَمَ”.

أما الطاهر بن عاشور، وهو من المحدثين أيضًا، فيقول في كتابه “تفسير التحرير والتنوير، ط 1، 1889″، بأن “والظاهر أن الأسماء التي تعلمها آدم هي ألفاظ تدل على ذوات الأشياء، التي يحتاج نوع الإنسان إلى التعبير عنها لحاجته إلى ندائها، أو استحضارها، إو إفادة حصول بعضها مع بعض”؛ وهو ما يعني أن الأسماء، بحسب ابن عاشور، هي ألفاظ تدل على ذوات الأشياء. فإذا طرحنا التساؤل عن معنى الاسم ومدلوله؛ نجده يؤكد على أنه “قيل مشتق من الوسم لأنه سمة على المدلول. والأظهر أنه مشتق من السمو، وأن وزنه سِمْو ـ بكسر السين وسكون الميم ـ لأنهم جمعوه على أسماء”.

وفي ما يبدو، ينتصر ابن عاشور لأصل الاسم من السمو، بحسب قوله؛ إلا أنه يعود ليطرح لنا المسألة العكسية، عندما يقول “ولولا أن أصله سِمْو لما كان وجه لزيادة الهمزة في آخره، فإنها مبدلة عن الواو في الطرف إثر ألف زائدة، ولكانوا جمعوه على أوسام”. فأي منهما يكون اشتقاق الاسم، السمة أم السمو؛ وبشكل محدد “الوسم” أم “السمو”(؟).

دلالة الاسم

في معرض الإجابة عن هذا التساؤل الأخير، نبدأ من دلالة لفظ “اسم”، الذي يأتي في الأصل من “وسم” وليس من “سمو”؛ من حيث إن الألف في “اسم” هي في الأصل حرف “واو”، وتأتي في أول اللفظ وليس في آخره؛ ومن ثم، يكون الجمع هو “أسماء” وليس “أوسام” كما حاول ابن عاشور أن يشير إلى أصل لفظ “اسم”.

وبالنسبة إلى “وسم”، فهو فعل يدل على أثر ومعلم، ووسمت الشيء وسمًا: أثرت فيه بسمة، بما يعني أن الاسم هو سمة لصاحبه، أي شيء يُميزه عن غيره؛ ولذا، يكون المراد من الأسماء “الصفات”.

ولنا أن نلاحظ ذلك في الآية الأولى من آيات التنزيل الحكيم: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”، حيث تؤشر الآية إلى الصفة المميزة “لله”؛ والله هو لفظ ـ ولا نقول اسم ـ الجلالة، ومن سماته أنه “الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”. وهي نفس دلالة الاسم في قوله سبحانه وتعالى: “سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى” [الأعلى: 1]؛ وفي قوله سبحانه: “تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ” [الرحمن: 78].

ويأتي ورود لفظ “اسم” في آيات الله البينات، كمصطلح ذي دلالة على سمات، وصفات، بعض من الأنبياء عليهم السلام جميعًا. ففي قوله سبحانه وتعالى: “إِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ” [آل عمران: 45]، يأتي مصطلح “اسْمُهُ الْمَسِيحُ” للدلالة على سمة عيسى بن مريم عليه السلام، وهي السمة التي جاء ذكرها في قوله سبحانه: “وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ ٭ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنْ الصَّالِحِينَ” [آل عمران: 45-46]. أما في قوله تعالى: “يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا” [مريم: 7]، فإن مصطلح “اسْمُهُ يَحْيَى” يأتي للدلالة على السمة التي تميز “يَحْيَى” عن غيره، والتي ورد ذكرها في الآية: “لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا”؛ إذ، إن سمة “يَحْيَى” عليه السلام أنه أكثر اسم حي من أسماء أهل الأرض جميعًا.

ثم، في قوله سبحانه وتعالى: “وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ” [الصف: 6]، يأتي مصطلح “اسْمُهُ أَحْمَدُ” ليؤشر إلى دلالة السمة المميزة لخاتم الأنبياء والرسل، محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام؛ حيث إن “أَحْمَدُ” هي صيغة تفضيل على وزن أفعل من “حَمَدَ”، بما يعني أن الله سبحانه قد أعطى لمحمد عليه الصلاة والسلام سمة “الحمد”، المميزة بالتفضيل على من سواه من الأنبياء والرسل. ولنا أن نلاحظ دلالة ذلك، في عدد من آيات التنزيل الحكيم؛ فقد بدأ الله كتابه الكريم بالحمد: “الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” [الفاتحة: 2]، وبدأ إنزال الكتاب بالحمد: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا” [الكهف: 1]، وبدأ الخلق بالحمد: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ” [الأنعام: 1]، وأنهى دخول الجنة بالحمد: “وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” [يونس: 10].

ولنا أن نلاحظ، أن ثمة فارقًا مُهمًا يتبدى بوضوح بين التعريف وبين سمة هذا التعريف، في آيات التنزيل الحكيم؛ إنه الفارق في دلالات ألفاظ القرآن الكريم وعائدها المعرفي، ما بين أسماء العَلَم ومحمولات هذه الأسماء، بحسب اصطلاحات اللسان العربي. فقد ميّز التنزيل الحكيم بين اسم العلم محمد (التعريف)، وبين اسم المحمول أحمد (سمة هذا التعريف)، كما ميّز بين اسم العلم “عِيسَى” واسم المحمول “الْمَسِيحُ”، وجمع ليحيى بين اسمي العلم والمحمول من اسم واحد حين أسماه الله سبحانه وتعالى “يَحْيَى”؛ أي إن الاسم المحمول يتعلق بسمات وخصائص وهوية الحامل له.

فما علاقة ذلك بالآية الكريمة “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا”؟

… يتبع.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock