إذا كان التمييز بين الخلق البشري والاستخلاف الإنساني، يتأكد عبر الأسماء التي تعلمها آدم عليه السلام، لتكون التشريع الأول للإنسانية؛ وإذا كانت “الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا”، التي خصَّ الله سبحانه وتعالى بها آدم، لتكون الأساس في التشريعات الدينية التالية.. من حيث إن ما تعلّمه آدم عليه السلام، هو “الشرعة” النقيضة للسلوكية البشرية الأولى، أي محمولات الأسماء “العائلية”.
وقد وصلنا في الحديث السابق إلى أن “الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا” تنحصر في التكوين العائلي ذي العلاقة الجديدة؛ فحوّاء اسم علم وهي امرأة ومحمولها زوجة، واسم المولود الذكر علم ومحموله ابن، وكذلك اسم المولودة الأنثى علم ومحمولها ابنة. بل، إن آدم نفسه اسم علم، أما محموله فزوج يسكن مع زوجه الجنة، فتحرم على غيره وهو محرم على غيرها.
بل، وصلنا إلى أن تلك هي “الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا”، التي خص الله بها آدم، لتكون أول تشريع للإنسانية، ولتكون الأساس في التشريعات الدينية التالية؛ إنها “الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا” بما تتضمنه من علاقات التحريم، التي تمتد إلى محمولات الأسماء التي بيَّنَتها آيات الذكر الحكيم في سورة “النساء” [23-25]، والتي جاء في ختامها قوله سبحانه وتعالى: “يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” [النساء: 26].
فما هي إذن دلالة الاصطفاء الإلهي لآدم عليه السلام.. ليكون “خليفة” في الأرض؟
خليفة لمن؟
رغم أننا طرحنا هذا التساؤل من قبل؛ إلا أن طرحه هنا يرتبط كثيرًا بمسألة “الاصطفاء”.
بالنسبة إلى جذر لفظ “خلف”، وفي كتابه “معجم مقاييس اللغة” يقول ابن فارس “الخاء واللام والفاء أصول ثلاثة تأتي لأحد معان ثلاثة، الأول أن يجيء شيء بعد شيء فيقوم مقامه؛ والثاني خلاف قُدام، ويكون هذا المعنى بتسكين الوسط خَلْف. أما الثالث فهو الاختلاف والمخالفة ومنه إخلاف الوعد”.
في هذا المعنى الأخير، أي التنازع في خلافة شخص لآخر في قوله أو فعله رغم وجوده، يأتي قوله سبحانه: “وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ” [آل عمران: 105]. وقوله تعالى: “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ” [آل عمران: 19]. وفي المعنى الثاني، أي تخَلَفَ ضد تقدم أو خَلْف ضد قُدام، يأتي قوله سبحانه: “فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ” [الأعراف: 169]؛ وقوله: “فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ” [مريم: 59]. وأيضًا، يأتي قوله تعالى: “فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً” [يونس: 92]؛ وقوله: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” [يس: 45].
أما في المعنى الأول، أي مجيء شخص بعد آخر ليقوم مقامه، يأتي قوله سبحانه وتعالى: “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ” [الأنعام: 165]؛ وقوله سبحانه: “وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً” [الأعراف: 69]؛ وقوله تعالى: “هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ” [فاطر: 39].
وهكذا، يبدو ارتكاز دائرة المعنى على نقطة رئيسة، مفادها أن الجذر “خلف”، يؤشر إلى مجيء شخص بعد آخر ليقوم مقامه، ومصدره الخلافة. ومن ثم، فإن الخليفة هو من اُستُخْلِف في الأمر مكان من كان قبله، فهو مأخوذ من كونه خلف غيره وقام مقامه. وبالتالي، فالخليفة لا يُصبح خليفة إلا لمن هو من بني جنسه؛ فالإنسان لا يصلح أن يخلف الملائكة أو الجن، والعكس صحيح. فكيف إذًن يقول القائلون بأن الإنسان يخلف الله سبحانه وتعالى؟!
يكفي أن نشير هنا للدلالة إلى قوله سبحانه: “وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ” [الزخرف: 60]. وهنا يرد “مَلَائِكَةً” كـ”جنس” إلى “مِنْكُمْ”، أي من نفس جنسكم؛ لأنه لا يصلح، ولا يصح، أن يخلفكم ملائكة من جنس غير جنسكم. إن الخلط بين اسمي الفاعل “خالق” و”جاعل”، هو ما أدى بأطروحات الكثيرين من السلف، والخلف، إلى القول بأن الإنسان خليفة الله في الأرض؛ وهو قول – في نظرنا – غير صحيح.
ولكن، كيف يرتبط ذلك بمسألة “الاصطفاء” الإلهي؟
دلالة الاصطفاء
أصل الاصطفاء من الفعل صفو، الذي يدل على اختيار الشيء وخلوصه من كل شوب. بهذا، يكون الاصطفاء “من شيء” أو “على شيء”؛ لكن الاصطفاء ليس مجرد اختيار، بل هو “تفرد في الاختيار”، بمعنى أن الشخص أو الشيء المُصطفى لحدث ما هو مُتَفرد في هذا الحدث، ولم يسبقه إليه أحد، أو ليس له سابقة. وبناءً عليه، فإذا وجد الاصطفاء وجد المُصطفى منه، أو المُصطفى عليه؛ وأن هذا المُصطفى لابد وأن يُصطفى من أفراد جنسه وليس من أجناس أخرى.
ولعل هذا يتأكد إذا ما اقتربنا من دائرة الدلالة لمصطلح الاصطفاء، في المرات التي ورد فيها في كتاب الله الكريم، وهي “ثلاث عشرة” مرة.
فقد اصطفى الله لإبراهيم وبنيه الإسلام دينًا، كما في قوله سبحانه وتعالى: “وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ” [البقرة: 132]. ولأن هذا الدين الذي اصطفاه الله هو دين مُتَفرِّد، ومن توقيع هذا التَفَرُد أنه لا يُجمع، فلا نقول أديان، لذا قال سبحانه: “وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ” [آل عمران: 85].
أيضًا، فقد اصطفى الله إبراهيم عليه السلام من قومه وعلى قومه، حيث يقول تعالى: “وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ” [البقرة: 130]؛ ولأن هذا الاصطفاء ـ في الدنيا ـ هو اختيار مُتَفرِّد، لذا جعل الله إبراهيم إمامًا للناس، وهو ما جاء في قوله: “وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا” [البقرة: 124]؛ بل، وأكد سبحانه وتعالى على تفرد “مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ”، في قوله: “وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ” [البقرة: 130].
ثم، هناك الاصطفاء الإلهي لموسى عليه السلام، على الناس، كما في قوله سبحانه: “قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ” [الأعراف: 144]. ومن حيث إن اصطفاء موسى هو اختيار مُتَفرِّد، لذا فقد اختص الله تعالى موسى بـ”التَكْلِيم”، كما جاء في قوله: “وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا” [النساء: 164].
ولنا أن نُلاحظ أن ورود الاصطفاء في آيات الله البينات، لم يتوقف على حالتي إبراهيم وموسى، ولكنه يمتد إلى مريم الصديقة التي اصطفاها الله على نساء العالمين.
كيف؟