في فيلمه الروائي الطويل الثالث “بو خائف” يصحبنا المخرج والسيناريست الأمريكي الشاب آري أستر، المُلقّب في هوليود بسيد سينما الرعب الجديد – في رحلة ممتدة على مدار ثلاث ساعات، في حضور بالغ القوة والتأثير للممثل خواكين فينيكس “بو” الذي يعاني من اضطرابات نفسية شديدة، تُدخله في حالة من “البارانويا” بسبب علاقته المتوترة بأمه منذ الصغر.
وقائع الفيلم يمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام: القسم الأول الذي يمتد لنحو من خمسة وأربعين دقيقة نرى خلالها جلساته مع المعالج النفسي، وحياته في شقته المتهالكة في حي يعج بالخطرين والمنحرفين، وفي القسم الثاني نراه في بيت جريس وروجر وهما زوجان فقدا ابنهما في إحدى الحروب، ويعيشان مأساةً يحاولان التغلب عليها بطرق شتى، منها الاحتفاظ في حديقة المنزل بزميل ابنهما الراحل والذي يعاني من صدمة ما بعد الحرب.. يستضيف الزوجان “بو” لفترة تتحول فيها الإقامة إلى ما يشبه الاحتجاز القسري، وينتهي هذا القسم بوقوع مأساة وهروب “بو”.
في القسم الثالث من الفيلم يتجلى إبداع آري أستر من خلال تجسيد ذلك العالم الغرائبي الذي يدخله “بو” بدخوله الغابة المجاورة للمنزل الذي فرّ منه، ليجد نفسه بصحبة فرقة مسرحية تتسمى بـ “أيتام الغابة” وتقدم عروضها في الغابات.. ومع حضوره العرض المسرحي يجد “بو” نفسه بطلا للمسرحية التي يعيش من خلالها أطوار الحياة التي حُرم منها، فيتزوج وينجب ويعمل وينجح.. لكن كل ذلك يضيع بسبب طوفان هائل يغرق القرية، لكنه يعود فيلتقي بأولاده الذين فقدهم، وبينما هو يحتضنهم ويغمرهم بالحنان يتذكر أنهم لا يمكن أن يكونوا أولاده، بسبب أنه محروم من إقامة علاقة طبيعية مع أي امرأة؛ لأن ذلك يعني موته الحتمي كما أخبرته أمه!
في القسم الأخير من الفيلم يعود “بو” إلى بيت والدته، سيدة الأعمال الناجحة مونا واسرمان؛ صاحبة إمبراطورية mw التي تمتلك العديد من الشركات والمنتجات والمؤسسات التجارية التي تحيط بالبطل المأزوم إحاطة السوار بالمعصم.
عودة “بو” إلى منزل والدته يكون لحضور جنازتها المؤجلة بعد وفاتها المفاجئة إثر سقوط “ثُريا” ضخمة عليها لتسحق رأسها بالكلية.. وتتكشف لبو خلال هذا الجزء العديد من الأمور حول والده، وأسباب معاملة أمه القاسية له.. وينتهي هذا الجزء والفيلم كله بمشهد المحاكمة التي يدان فيها “بو” لينال على الفور عقوبته القاسية.
ينفتح هذا العمل المميز على العديد من القراءات، لازدحامه بالكثير من الرموز والدلالات، فمن الممكن أن تكون الأحداث مزيجا ما بين الواقع والخيال، كما يمكن تفسيرها بأنها مخاوف “بو” وقد تجسدت لنا من خلال شخوص وأحداث العمل، الذي يطرح رؤيته الفلسفية لقضايا حاضرة وملحة في حياتنا.. مثل انتشار العنف على نحو غير مسبوق، وجنون الميديا والهوس بتصوير كل شيء حتى أشد اللحظات مأساوية، بل إن الأمر قد يصل في بعض الأحيان لمحاولة إقناع شخص بالتخلص من حياته ليستمتع الجمهور بحضور لحظة الانتحار وتصويرها كما ظهر في بداية الفيلم في حي المنحرفين؛ الذي هو تجسيد واضح لما صار عليه حال العالم، من الاضطراب والفوضى حتى صارت الأسلحة في أيدى المراهقين في الشوارع، أمر لا يسترعي الانتباه؛ فحتى التواجد الشرطي ليس لوجه العدالة وحفظ النظام؛ بل لأغراض أخرى لا تخفى على أحد.
لا يتوقف آري أستر عن انتقاد نمط الحياة الأمريكية الذي ساد العالم وأفسده، والعلاقات داخل الأسرة التي تحولت في كثير من الأحيان إلى أشكال متعددة من العداء أو التسلط والاضطهاد؛ كذلك يدين أستر ذلك التكريس المقيت للاستهلاك، عبر الآلة الإعلامية التي تعمل ليل نهار لحساب الشركات الكبرى التي حولت البشر إلى قطعان لا هم لها سوى الاستهلاك؛ ليقعوا أسرى للأمراض النفسية والإدمان، وهو ما يعني المزيد من الاستهلاك للدواء، وأرباح خرافية للشركات العاملة في هذا المجال.
يكشف أستر في الجزء الثاني من الفيلم، حقيقة وهم الأسرة الأمريكية السعيدة التي تتعايش مع محنة فقدان الابن في إحدى حروب الولايات المتحدة التي بات الكل يعرف، كم هي حروب غير أخلاقية، لا تهدف سوى للهيمنة واستنزاف ثروات البلدان، والمزيد من الأرباح في مبيعات الاسلحة والتخلص من مخزونها الزائد، مع إذلال الشعوب وكسر إرادتها.. إلى جانب النقد الواضح للجانب الاجتماعي المتمثل في إهمال الأسرة للفتاة المراهقة، وتركها فريسة للمخدرات ولصديقات السوء.
وتتضح إدانة أستر لهدم قيم المجتمع الأمريكي من خلال مشهد انتحار الفتاة الذي يظهر فيه اللونان (اللبني والبمبي) وهما رمزا الذكورة والأنوثة على الترتيب؛ في إشارة واضحة لخطورة انجراف المجتمع نحو دعم المثلية الذي نراه الآن في الولايات المتحدة بصورة لم يسبق لها مثيل.. جعلت بعض وسائل الإعلام الأمريكية تجاهر برأيها بأن الأمر فاق الحدود وصار فجًا ومقحمًا على نحو جنوني.
مثّل الماء رمزا أساسيا متكررا خلال أحداث العمل في أقسامه الأربعة، فكان سبيل النجاة من الموت لبو بعد تعاطيه الدواء الخطير، وكان مشهد حوض الاستحمام في وجود العقرب والشخص المنحرف؛ ذا دلالة واضحة على هروب البطل المتكرر من واقعه التعس، وملاحقة حظه العثر له.. وفي مشاهد التذكر كان حوض الاستحمام الممتلئ وإرغام الأم للصبي على الاستحمام، أحد أهم مظاهر العلاقة السامة بين الأم والابن. ولقائه بالفتاة ألين (حب حياته) في عرض البحر على متن سفينة، ورحلته المسرحية التي رأى فيها، الحياة المتمناة وكيف ذهبت وانقضت بفعل الطوفان الذي دمر قريته، وحال بينه وبين أبنائه.. وكذلك مشهد المحاكمة الذي جاء في أجواء سريالية، وكان “بو” ماثلا وسط بركة داخل ملعب كبير وسط حضور حاشد.
فيلم “بو خائف” فيلم يستحق المشاهدة أكثر من مرة رغم طوله، لما يحفل به من الإبداع والروعة خاصة الأداء الإعجازي للممثل خواكين فينيكس الذي يثبت كل يوم أنه أحد أعظم نجوم هوليود؛ إن لم يكن الأعظم الآن.. أما بالنسبة للمخرج الشاب سيد أفلام الرعب الجديد آري أستر، فبلا شك أنه يحمل -برؤاه- للسينما الأمريكية طوق نجاة من الغرق في أفلام التفاهة والسطحية والعنف التي كادت أن تكون سمة مميزة لها في الآونة الأخيرة.