رؤى

ومضات قرآنية من وحي الحج .. الإيمان والهداية والاتباع (2)

إن الهداية إلى الصراط المستقيم، والتي تساءلنا عنها في المقال السابق، ليست هي ذلك الصك الممنوح لأي مسلم، لمجرد كونه مسلمًا دون أدنى مجهود يتكبده أو مشقة يبذلها، وهي ليست ذلك المكسب الذي اغتنم وامتلك للأبد بسبب الإيمان – الذي ربما يكون إيمانًا متوارثًا أو إيمانًا بدون علم–  فإذا بصاحبه يظن أن الهداية برمتها، قد باتت -شأنها شأن الإيمان- أمرًا مفروغًا منه وللأبد.

إن الهداية التي نعنيها هنا، وإن كانت بالفعل مرتبطة بالإيمان إلَّا إنها ليست كما يظن البعض ثابتة  وأصيلة دون تغيير أو تبديل؛ ولكنها هي ذلك الحال، الذي يظل كل مسلم يصبو إليه ما دام حيًّا، وما دام ساعيًا إلى تجديد إيمانه، وتقويته على مدار حياته.

فإذا كانت هناك هداية أوُلى للإيمان، فإنه هناك هداية أخرى تالية للثبات على ذلك الإيمان وترجمته بصورة عملية ومتجددة، من خلال عمل الصالحات؛ والدليل على ذلك أن البُشرى بالجنة ونعيمها، لم تكن وعدًا للذين آمنوا وفقط؛ بل للذين آمنوا وعملوا الصالحات. فهل من الممكن أن يكون هناك إيمان صادق بدون أي عمل صالح؟ أم هل من الممكن أن يجني المؤمن ثمرة عمله الصالح، وقلبه لم يخلص بعد في توحيده لخالقه وتعظيمه له وحده دون سواه؟!

لذلك يجب على كل مسلم، أن يقف متأملًا لإيمانه متفحصًا لحاله مع الهداية، التي بدأت عندما آمن بالله الواحد الأحد، فأسلم وجهه له وحده؛ لتبدأ بعد ذلك رحلة العمل الصالح الذي يُقوِّي به إيمانه، فيكون هو البرهان على صدق ذلك الإيمان والإخلاص فيه.

فمن يُسلِم وجهه لله بصدق وإخلاص- سيسعى دومَا إلى التزام طريق الهداية؛ ومن ثم لن يستكين إلى أي ضلال أو يهنأ دون استقامة.

وبالتالي فإن الهداية مستمرة مع الإنسان المسلم طوال حياته.. ما داوم على فعل الخيرات وعمل الصالحات؛ طالبًا الاستقامة في معية خالقه. ولأن الاستقامة بدون زللٍ أو حيادٍ أو مساوَمة هي الحال الذي يصعب الالتزام به على مدار الحياة بكل ما فيها من فتن وابتلاءات، فلابد إذن من مداومة المؤمنين على طلب الهداية إلى الصراط المستقيم، وطلب المعونة على ذلك ممَّن خلق الإنسان وسوَّى نفسه فألهمها فجورها وتقواها.

وهكذا يظل اختيار الإنسان، إما بتزكية نفسه أو تدنيسها هو مسئوليته الفردية، بل والدليل على قدرته على احتفاظه بهُويته المستقلة ومدى وعيه بها وتحمله لأعبائها. ومن هنا يجب على كل مؤمن التمييز بين السبل المؤدية إلى الاستقامة إذا تعددت أمامه، وأن يطلب من خالقه الهداية إلى اتباع سبيله وصراطه المستقيم، وعدم اتباع غيره من السبل التي تُفرق بين المؤمنين، وتشتتهم فرقًا وأحزابًا وشيعًا. وهل أصاب المؤمنين جميعًا على مدار تاريخ الإيمان البشري، ما هو أشد من تلك الفتن التي أدت إلى تشتتهم وتفرقهم وتحزبهم وتشيعهم؟!

ومن الملفت للانتباه أن ذلك الدعاء التعبدي “اهدنا الصراط المستقيم” الذي فرضه الله على عبده المسلم، في صلاته اليومية ليس دعاءً فرديًّا، بل هو دعاء بصيغة الجمع؛ وذلك كي يُذكِّر كل مؤمن بانتمائه لجموع المؤمنين الذين يعبدون رب العالمين ويستعينون به، فلا يكون أي مسلم منفصلًا عنهم أو متعاليًا عليهم، بل يكون مدركًا أنه على مدار حياته ليس بمنأى عن الفتن والابتلاءات أو ببعيد عن الحياد عن طريق الاستقامة الذي تحفه مخاطر العصيان بعد العلم، والتي يتحول الإيمان بسببها إلى مجرد أقوال بلا طاعة عملية، أو ربما في يوم ما تعصف بالإيمان عواصف الاختلاف والضلال، بعدما كان العلم بينًا وجليًّا؛ فيظل العمل مستمرًا ولكن مع الأسف فاسدًا بسبب ما أصاب العقيدة الإيمانية من فساد فيخسر المؤمن بسبب ضلاله عن الحق أو بسبب عدم صدق إيمانه؛ ومن ثم لا يكون من الفائزين بجائزة المتقين الصادقين.

أي إن ذلك التضرع المتكرر لله رب العالمين؛ طلبًا للهداية في كلمة (اهدنا) بصيغة الجمع لا الإفراد- يبدو وكأنه أمر إلهي غير مباشر بوحدة المؤمنين جميعًا، وكأنهم كلٌ لا يتجزأ فلا يجب عليهم أن يتفرقوا أو يتشتتوا حالهم حال الملائكة الذين ظلوا سويًّا غير متفرقين في طاعتهم لربهم، وذلك على عكس حال إبليس الذي آثر أن يكون بمفرده؛ فاستعلى وتكبر إلى أن طُرِد بلا عودة، بعدما عصى ربه وأبى أن يكون مع الساجدين لآدم.

إنها أيضًا المساواة بين المؤمنين جميعًا، والتي يدعو إليها الدين فلا يتكبر أحد منهم على الآخرين بسبب إيمانه؛ بل يجمعهم الانسجام والترابط في نسيج إيماني واحد لا يتميز فيه أحد عن غيره، ما داموا جميعًا ما زالوا يطلبون الهداية من إلهٍ واحد؛ هو ربهم جميعًا.

وتلك المساواة الإيمانية هي التي من شأنها أن تتعارض مع أية محاولة لتقديس البشر بعضهم بعضًا، وما قد يترتب على ذلك من شرك خفي أو كفر ظاهر برب العالمين، أو استبداد في الأرض وتكبر على خلق الله باستغلال ضعفهم وخداعهم بادعاء قضاء حوائجهم، بالرغم من أن الخالق عزَّ وجل قد دعا عباده جميعًا للإقبال عليه واللجوء إليه والاستعانة به وحده، ولا يتجلَّى ذلك إلَّا بالتوجه إليه وحده بالدعاء، دون شريك أو وسيط.

وهكذا ستظل الهداية هي مطلب كل مؤمن أدرك أن إيمانه ليس هو نهاية المطاف بل هو بداية رحلة حياة يجب أن تكون عامرة بالعمل الصالح بكل إخلاصٍ وصدق من أجل تعمير الأرض استحقاقًا للخلافة فيها ورجاءً في الفوز المبين بعد الموت.

وبداية طريق الهداية للعمل الصالح، بالنسبة لكل مؤمن قد آمن بالفعل، هي اتباع الهَدي الحكيم أمرًا ونهيًا، واتباع الرسل الذين أرسِلوا مبشرين ومنذرين، وليس اتباع الهوى، أو اتباع الشهوات، أو اتباع شياطين الإنس والجن، أو اتباع السائد والموروث، أو اتباع من يتخذهم الناس أولياء دون غيرهم، بدعوى التوسل بهم للتقرب إلى الخالق، أو اتباع كل متكبر جبار يفسد في الأرض ولا يصلح فيها فيُفرِّق بين الناس ويجعلهم شيعًا؛ مستضعفًا طائفة منهم كي تستقوي طائفة أخرى على الجميع فلا يكون هناك من يردعها إذا بغت في الأرض.

ولأن الإسلام دين لا يفرط في حرية المؤمن، أو يسعى لطمس معالم هُويته الفردية المستقلة، ولأنه أيضًا دين ينهى عن الظلم والبغي والإفساد والطغيان- فقد كان لابد أن يميز بين الاتباع من أجل التعلم والاتباع القائم على القهر والخوف والتسلط، وذلك التمييز واضح وبيِّن في آيات الذكر الحكيم وقصص القرآن الكريم؛ فنبي الله موسى عندما أراد أن يتعلَّم من عبد من عباد الله، تفسير أمور غيبية تتعلق بالرزق، كان عليه أن يتبعه متحليا بالصبر، وكذلك نبي الله إبراهيم، دعا أباه لاتباعه كي يهديه صراطًا سويًّا، وذلك لأنه قد جاءه من العلم ما لم يأت أباه.

وبالتالي فإن كل من يدعو الناس لاتباعه من أجل هدايتهم إلى سبيل الرشاد – عليه أن يعظهم ويرشدهم، وأن يبين لهم الفرق بين الحق والضلال؛ فيحفزهم على التعلم والتبصر، وهذا ما فعله مؤمن آل فرعون. أما فرعون الذي لم يُرهبه تذكيره بعذاب الله؛ فقد اغتر بسلطانه فارضًا على قومه الخضوع لجبروته، فاكتفوا بما يريهم إياه وما يهديهم إليه دون حاجة إلى العلم أو التفكر والتدبر وإعمال العقل، فلم يعد هناك غير صوته وأمره ونهيه ورؤيته وامتلاكه لمقاليد أمور قومه دون أية مشاركة أو معارضة.

ولأن قومه كانوا قومًا فاسقين؛ فقد استرهبتهم قوته وأخافهم سلطانه؛ ومن ثم كان من الطبيعي أن يواصل طغيانه حتى النهاية، وأن ينقاد ملؤه لأوامره راضين بألَّا يريهم إلا ما يرى هو، ومُسلِّمين بأنه لا يهديهم إلَّا سبيل الرشاد! .. فكانت نهاية فرعون وكل من اتبعوه -متكبرين كانوا أم مستضعفين- هي عاقبة السعي للإفساد في الأرض، والانقياد الأعمى والخضوع الجبان لكل طاغية.

فمع كل نفرة للحجيج من عرفات، وكل طواف حول الكعبة المشرفة، وكل إحرام وتكبير وتهليل، ليس على المؤمنين سوى أن يتوحدوا من أجل الحق؛ جهادًا في سبيل الله ورفضًا للظلم ونبذًا للباطل وإعراضًا عن الجهل والبغي، فمثلما تجرَّد كل حاج طواعية من كل زينة في الدنيا متوجهًا لتكبير الله عزَّ وجلَّ على كل ما سواه، فعليه أيضًا عندما يعود مرة أخرى إلى ما تركه وراء ظهره من متاع الدنيا الزائل أن تكون عودته تلك من أجل حياة في سبيل الله وطاعته؛ كي تتحقق للمسلمين مرة أخرى العزة والمهابة والرفعة التي لا يعبر عنها تكاثرهم عددًا ولكن تكاتفهم وتلاحمهم سويًّا بهمة وصدق.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock