بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن صحيفة عمان
«لكل شيء إذا ما تم نقصان»
ليس هناك وصف ينطبق على المخاطر التي تهدد وجود إسرائيل ككيان مثل مطلع القصيدة الشهيرة أعلاه للشاعر أبي البقاء الرندي، فإسرائيل التي بات التحذير من أنها قد تختفي من الوجود خلال سنوات لم تبلغ في تاريخها ذي الـ ٧٥ عاما شأنا وقوة ونفوذا وغنى كما بلغته اليوم وفي الوقت نفسه «ويا لمكر التاريخ» فهي لم تكن مهددة بانهيار كيانها السياسي والاجتماعي بمخاطر من الداخل والخارج كما هي اليوم.
وكأن الدولة الوظيفية التي خلقتها المصالح الغربية تؤكد نظرية أنه ليس بعد الوصول إلى القمة من مصير إلا الانحدار إلى السفح، وفي حالة إسرائيل يرى البعض أنها ستنحدر إلى حفرة سحيقة ثم يردم عليها التاريخ بما تستحق كأي دولة «غير طبيعية» مثلما حدث لدولتي النظام العنصري في روديسيا وجنوب إفريقيا.
أولا: قوة غير مسبوقة في الاقتصاد والسياسة والعسكرية في العالم وفي الإقليم: حسب نماذج قياس أكثر دقة طورتها جامعات أمريكية احتلت إسرائيل المركز العاشر عالميا بمعايير القوة الشاملة والتأثير في الشؤون العالمية ونمط التحالفات الدولية واختراق أمن الإقليم. ويضع تقرير للبنك الدولي إسرائيل في أحد تصنيفاته في ١٨ على العالم وإذا حذفت ٤ من جزر الملاذات الضريبية التي لا تشكل دولا بالمعنى الحقيقي وهي ملاذات للتهرب الضريبي لا يلجأ إليها ولا يعيش فيها غير أغنى الأغنياء، فإن إسرائيل تقع في المرتبة الرابعة عشرة عالميا وتسبق فنلندا وألمانيا وكندا والمملكة المتحدة وفرنسا واليابان وإسبانيا وإيطاليا. كما تسبق جميع دول الخليج النفطية الغنية باستثناء قطر التي يعد مواطنوها الأغنى ولكن أقل دول الخليج وشبه الجزيرة سكانا. في التصنيف العسكري النوعي الأدق لهذه «الدولة» الصغيرة في شرقي المتوسط تم تصنيف جيشها باعتباره الجيش الرابع عالميا مباشرة بعد العمالقة أمريكا وروسيا والصين.
ثانيا: لماذا قد تبدأ رحلة نهاية إسرائيل وهي في أوج قوتها؟
لا يتعلق الأمر هنا بتحذيرات كبار الساسة والعسكريين في إسرائيل مثل رئيس الوزراء المتطرف نتانياهو أو رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك والمستندة في جزء كبير منها إلى الأساطير والخرافات التلمودية من أنه «لم تعش في التاريخ اليهودي – الذين فشلوا دائما إثباته بأي قرائن أركيولوجية – دولة بناها اليهود أكثر من ٨٠ سنة وأن إسرائيل وقد أتمت عامها الـ ٧٥ تكون قد اقتربت من مصير أخواتها البائس، ولكن يتعلق الأمر بمخاطر جسيمة وضعها الجدل الداخلي في إسرائيل والجدل في الغرب المتابع لامتداده الوظيفي في الشرق الأوسط تحت مجهر التحليل العلمي الذي يقول إن هذا الكيان معرض فعلا لخطر الزوال في لحظة ما قد تكون على المدى المتوسط أو الطويل ولكنه خطر مرجح وليس خطرا مستبعدا».
ثالثا: المخاطر الوجودية الداخلية:
١- إسرائيل دولة دينية وليست دولة وطنية: منذ قرنين كاملين على الأقل أنجزت البشرية نظامها للعلاقات الدولية القائم على الدولة الوطنية ذات السيادة بعد دماء وثروات أهدرت في الحروب الدينية، منها حرب الثلاثين عاما الشهيرة في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت. وباتت الدولة القائمة على الدين دولة من التاريخ ولم يعد البابا في روما أو الخليفة في الآستانة هو مصدر الشرعية بل حكام وشعوب كل دولة على حدة.
تتحدى إسرائيل الإنجاز البشري الذي بدونه ما شهدنا نهضة الثورات الصناعية المتتالية التي أوصلتنا الآن إلى عصر التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي فتصنع دولة لليهود فقط مهمتها أن تقتل أو تهجر كل من هو غير يهودي.
يلخص هذا رئيس الوزراء نتانياهو «إسرائيل ليست دولة لجميع مواطنيها» «بل» هي الدولة القومية للشعب اليهودي فقط». بهذا فقط تحكم إسرائيل على نفسها بالوقوف ضد حركة التاريخ والعبرة معروفة «عجلة التاريخ تدهس كل من يقف أمامها».
٢- إسرائيل دولة غير ديمقراطية: وهم آخر تقوم عليه الدولة الإسرائيلية إضافة إلى وهم أنها تستطيع في القرن ٢١ الإبقاء على دولة «نقية» دينيا. هذا الوهم الذي سوقه الغرب والمدرسة الصهيونية العلمانية هو أن إسرائيل دولة ديمقراطية كاملة مثل الديمقراطيات الغربية العريقة:
أ- إنجاز كبير آخر طورته البشرية خاصة منذ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ١٩٤٨والمفارقة أنه صدر متزامنا مع سنة إعلان الدولة الإسرائيلية ألا وهو الثقافة العالمية لحقوق الإنسان والذي أخذ دفعة هائلة بعد صدور العهدين الدوليين لحقوق الإنسان عام ١٩٦٦.
هذه الثقافة أضافت إلى إنجاز القرن ١٩ في تعريف الدولة الوطنية القائمة على الوطن وليس على الدين شرطا آخر هو أن تكون دولة مواطنة لجميع أبنائها وما أبعد إسرائيل عن ذلك فهي ليست إلا آخر دولة فصل عنصري «أبارتهيد» في الكون باعتراف منظمة العفو الدولية.
ب – إسرائيل دولة بل مجتمع عسكري سحق نشوء مجتمع طبيعي كباقي مجتمعات الدنيا:
فعلى عكس الأكذوبة الشائعة عن بلد ديمقراطي فإن الديمقراطية ترتبط بدور محدد للمؤسسة العسكرية تخضع بمقتضاه للحكام المدنيين ويبقى إسهامها مقتصرا على حماية الوطن دون تدخل في السياسة.
نظرة واحدة على قادة إسرائيل من بن جوريون وحتى نتانياهو في المنصب الحاكم وهو رئيس الوزراء لن تجد قائدا منهم لم يخدم في الجيش أو في المنظمات العسكرية الإرهابية التي بنت الدولة عبر إحراق المدن والقرى الفلسطينية قبل ٤٨.
الاستثناء الوحيد كانت المرأة الوحيدة التي شغلت المنصب وهي جولدا مائير.
على أن عسكرة المجتمع الإسرائيلي ونفي أي هوية مدنية وطبيعية له لا تقف عند هيمنة ضباطه الكبار على السلطة السياسية عبر منصبي رئيس الوزراء ورئيس الدولة وقادة الأحزاب.. إلخ ولكن أيضا حول تحويل البلد إلى جيش من الاحتياطي القابل للاستدعاء والدخول في حرب في أقل من أسبوع بما مجموعه – مع قوات الجيش العاملة – إلى ما يقرب من مليوني جندي أي أكبر من جيوش مصر وتركيا وإيران كل على حدة. كما يوجد ملايين من المتطرفين دينيا من المستوطنين المدججين بالسلاح والحاصلين على تدريب متقدم يجربونه بشكل شبه يومي في قتل الفلسطينيين.
لم تستطع دولة في التاريخ أن تستمر في حالة تأهب واستنفار وتقف مشدودة على أطراف أصابعها طول الوقت كما لا يمكن لدولة أن تسحق تطور مجتمعها المدني لصالح مؤسساتها العسكرية كما تسحق شعبا تحتل أرضه أن تتمكن من البقاء إلى الأبد.
ج: مجتمع منقسم على نفسه وصل إلى مرحلة الحرب الأهلية: «المجتمع الإسرائيلي وصل إلى مرحلة الحرب الأهلية» هو تعبير لرئيس وزراء إسرائيل نفتالي بينيت وليس اجتهادا من محلل عربي. الانقسام الداخلي في إسرائيل بات رأسيًا وأفقيا وهو لا يتمثل فقط في الصراع الحزبي المرير الذي منع أن تكمل حكومة في إسرائيل مدتها في السنوات الأخيرة وأن تجري أربعة انتخابات عامة مبكرة غير حاسمة خلال عام ولكن في اختلال بل سقوط التوازنين الرئيسين اللذين سمحا باستمرار الدولة وهما: أولا التوازن بين التيار العلماني الذي بنى الدولة وبينهم التيار الديني المتطرف الذي يمثل ووصل المتطرف الديني القومي مناحم بيجين للسلطة ١٩٧٧ عموما ثم اغتيال إسحاق رابين ١٩٩٥ على يدي اليمين المتطرف خصوصا إلى سيطرة شبه كاملة لليمن الديني.
وتؤكد استطلاعات الرأي أن نحو ثلاثة أرباع الناخبين الإسرائيليين يؤيدون اليمين وأن ما يقرب من نصف الجيش الإسرائيلي ينتمون حاليا إلى أفكار معسكر اليمين المتطرف.
نهاية التوازن بين العلمانيين والدينيين ارتبط بتغير تام في المشهد السياسي الإسرائيلي انتهى بسقوط شبه تام لما يسمى بمعسكر اليسار وصعود شبه تام لمعسكر اليمين. إن المظاهرات العدائية بين اليهود الحريديم واليهود المدنيين حول مشروع السلطة القضائية الإسرائيلية لشهور هو مجرد مؤشر ضمن مؤشرات عدة على دولة يحمل مجتمعها بذور فنائه بنفسه وأنه في حال عجزه عن وقف الانهيار الداخلي، ناهيك عن التحديات الخارجية التي تحتاج وقفة تحليلية أخرى فإن المصير التلمودي عن دول لا تصل أبدا إلى عمر المائة عام قد يتكرر.