رؤى

حول دلالة “التسخير”.. في التنزيل الحكيم

في البحث حول ملامح مفهوم “التسخير” في كتاب الله الكريم، لنا أن نلاحظ ارتباط اللفظ في مواقع وروده، في آيات التنزيل الحكيم، ليس فقط بالظواهر الطبيعية في الكون؛ ولكن أيضا بعلاقة الإنسان بهذه الظواهر، من منظور أنها ميدان فعله، ومن حيث إنه هو المسئول عن تغيير واقعه وتحقيق أهدافه، بعد هذا الواقع ولو بلحظة من الزمان.

بهذا الاكتشاف البسيط لعنصر الزمان (البعد المستقبلي)، في عمل الإنسان، نلتقي بأول وأهم شروط تحقيق الأهداف وامتلاك القدرة على إنجازها. إذ ما دمنا نبدأ من الواقع للوصول إلى هدف محدد في المستقبل، فإن إمكان الوصول إلى هذا الهدف لا يكون متوقفًا على مجرد إرادتنا وعملنا، بل ـ قبل الإرادة والعمل ـ على ما إذا كان الواقع (الذي نبدأ منه)، أو بالأصح: الأشياء والظواهر التي يتكون منها هذا الواقع، منضبطة في حركتها إلى المستقبل بقوانين أو نواميس ـ حتمية ـ أم لا.

فهل الأشياء والظواهر منضبطة في حركتها بقوانين أو نواميس حتمية؟

في مواجهة هذا التساؤل، لابد من التعرض لنقاط ثلاث أساسية: النقطة الأولى، لو لم يكن كل شيء خاضعًا في حركته لقوانين أو نواميس حتمية، لما استطاع أي إنسان تحقيق شيء أراده أو يريده، ولما استطاع إنسان أن يقول أنه “سوف” يشعل عودًا من الثقاب وأن يشعله فعلًا، ولما استطاع الناس أن يعدوا بالنزول على سطح القمر، وأن يصمموا ويصنعوا أداته المتفقة مع ظروفه وأن ينزلوا عليه في الموعد الذي حددوه.. إلخ.

ولا نعتقد أن في ما نقوله جديدًا.. بل لا نغالي؛ إذا قلنا إن “الحتمية” (أي: انضباط حركة الأشياء والظواهر على قوانين أو نواميس لا تتبدل)، لا يمكن لمسلم أن ينكرها ويبقى مسلمًا؛ فقد اتخذ الإسلام من انضباط نظام الكون ونواميسه حجة على الذين لا يؤمنون.. يقول سبحانه وتعالى: “سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا” [الأحزاب: 62].. ويقول سبحانه: “سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا” [الإسراء: 77].. ويقول تعالى: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [البقرة: 164].

وهكذا نجد أن جانبًا كبيرًا من آيات التنزيل الحكيم يكاد يكون مقصورًا على تعليم الناس، بصيغ شتّى، مدى ما في الكون من اتساق ونظام محكم.. وهو، وإن كان يأخذ من هذا دليلًا على وجود الله وعلى وحدانيته، كما في قوله سبحانه وتعالى: “لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ” [الأنبياء: 22].. فإنه -في الوقت نفسه- يدعو الناس إلى التأمل ما في الكون من آيات أو سنن لا تتبدل، لا لمجرد التأمل، ولكن لمعرفتها والعمل وفق نظامها (في إطارها)، لتحقيق أهدافهم.

النقطة الثانية، أن الوصول إلى هدف محدد (في المستقبل)، يتطلب ضرورة تدخل الإنسان لتغيير الواقع الذي يبدأ منه، أي: قطع الامتداد التلقائي (من الماضي إلى المستقبل)، لحركة الأشياء والظواهر التي يتضمنها هذا الواقع؛ لأنه إذا ما تركت الأشياء والظواهر على حالها، فسوف تنعدم إمكانية تحقيق الهدف المراد بلوغه (لو ترك الناس المعادن على حالها لما استطاعوا أن يصمموا ويصنعوا سفينة الفضاء التي نزلوا بها على سطح القمر، ولو ترك العبد الصالح الجدار على حاله لينقض لوجد الناس الكنز ولما استطاع الغلامان بعد أن”يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا”، أن يستخرجاه).

بناء على ذلك، فإن التغير المطلوب لا يعني قبول أو متابعة التحولات التي يقدمها الواقع تلقائيًا، بل يعني تحقيق مضامين نريدها ونعمل على تحقيقها، لأنها غير متوقعة الحدوث في الواقع ـ طبقًا لما نريد تحقيقه من أهداف ـ بدون تدخلنا.

وما هذا “الواقع”، الذي تكرر في حديثنا، والذي يمثل ـ في حقيقته ـ المجال “الفعلي”، لعمل الإنسان وتدخله، سوى: “الأرض”، أو: “الطبيعة المادية”، كما يقول المحدثون. ومن ثم، فما كان يمكن للتدخل الإنساني أن يتم، إلا إذا كانت الأشياء والظواهر التي يتكون منها هذا الواقع منضبطة في حركتها على قوانين ونواميس حتمية، بمعنى: أن يكون الواقع، أو بالأحرى: الأرض، أو بالأصح: الطبيعة المادية، طيعة للإنسان ومسخرة له.

قولنا الأخير هذا، ينبني على أن مفهوم التسخير في القرآن، هو مفهوم رئيس (وردت مشتقات لفظ “سَخَّرَ”، في القرآن 26 مرة)، يحدد علاقة الإنسان بالأرض (الطبيعة).. يقول سبحانه وتعالى: “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْأَنهَارَ” [إبراهيم: 32].. ويقول تعالى: “وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ” [إبراهيم: 33].. ويقول: “وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [الجاثية: 13]. 

وإذا كانت “الأرض”، أو “الطبيعة”، هي مجال التدخل الإنساني وموضوع فعله.. فإن في استعمال التنزيل الحكيم تعبير “السُخرة”، للدلالة على هذه العلاقة، ما يؤكد ـ بشكل قوي الدلالة ـ على أن الإنسان هو “القادر”، و”المسئول”، عن تغيير واقعه وتحقيق أهدافه.

النقطة الثالثة، أن قدرة الإنسان ومسئوليته عن تغيير واقعه وتحقيق أهدافه (إذ، مهما يكن التغيير الذي نريد أن نحدثه في الواقع، فهو إضافة ليست قابلة للتحقق تلقائيًا بدون عمل الإنسان)، هي أمور تتطلب “الإرادة الإنسانية.. الحرة”.

ومن ثم، يرتبط مبدأ “التسخير” بالإرادة الإنسانية أشد الارتباط؛ بل، والأهم أنه يرتبط بمسألة استخلاف الإنسان ليكون “خليفة في الأرض”، بما يمكن معه القول بأن مثل هذا الارتباط يُعد ملمحًا أساسيًا من ملامح التصور الإسلامي لـ”خلافة الإنسان” على الأرض من أجل تعميرها.. كيف؟ للحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock