ما تشهده الساحة الغنائية في الوطن العربي، خلال العقود الأخيرة من اختفاء ملحوظ لقصائد الفصحى؛ يدعو إلى محاولة استعادة بعض أغنيات الماضي القريب التي هجرناها؛ فاستوحشتها الأجيال الجديدة.. مثلما استوحشت اللغة العربية ذاتها، فلم تعد تتحدث بها بصورة تلقائية، أو تتفاعل معها بشكل طبيعي؛ حتى إن الكثيرين باتوا لا يشعرون أنها اللغة التي تعبر عما يختلج في وجدانهم، أو يدور في عقولهم، بعدما اقتحمتها الكثير من المفردات الغربية والعبارات الإفرنجية، فأصبحت جزءًا أصيلًا من حياة الناس ومن برامج الإعلام المسموع والمرئي، ما يؤكد على التهاون في التمسك بالهُوية والثقافة العربية.
ولذلك لا يجب أن يتوقف السعي الحثيث، نحو إحياء الإقبال على اللغة العربية الفصحى، وإعادة الترغيب في استخدامها بشكلٍ أو بآخر في الحياة اليومية؛ فالتحدث بها لن يتيسر إلَا إذا كان هناك استيعاب لمفرداتها وفهم لقواعدها وإدراك لجمالياتها.
ومع عودة الوعي بأهمية الحفاظ على اللغة العربية؛ ستتجدد علاقة الناس مع تلك اللغة، خاصة إذا كان هناك تقدير شعبي لأهميتها، وحماس من أولي الأمر للحفاظ عليها حية على ألسنة الناس الذين يجب أن يكونوا هم أنفسهم أكثر حرصًا على هُويتهم وتاريخهم.
ولكن أية محاولة فردية من أجل إحياء التراث الغنائي القديم – لن تؤتي ثمارها الطيبة؛ إلَّا إذا تبنتها المؤسسات الثقافية في العالم العربي، ليس فقط حفاظًا على تراث يستحق الخلود ويصعب أن يكون هناك ما يضاهيه قيمة أو إبداعًا، ولكن أيضًا من أجل إعادة الاهتمام بالكلمة التي تبني عقول ووجدان أجيال جديدة، واجبها أن تحمل في المستقبل مسئولية نهضة أوطانها، ومن أجل تطوير الموسيقى العربية والشرقية دون التخلي عن ملامحها المميزة لها. ولذلك يجب عدم التهاون في إنقاذ الشباب من الوقوع في شَرَك الاستهلاك النهم لسلع التفاهة التي تملأ الأسواق على كافة المستويات، والتي يتم فرضها على الناس ليل نهار بإلحاح شديد.
واستكمالًا لما قدمناه في مقال سابق من حديث مقتضب عن القصائد الدينية الخالدة للفنانة سعاد محمد [1926-2011]، فستكون لنا الآن وقفة قصيرة مع قصائدها الوطنية والعاطفية التي طواها النسيان بالرغم من قيمتها الفنية والإبداعية.
لقد تنوعت أغنيات الفنانة سعاد محمد؛ فكان لها عدد كبير من الأغنيات الوطنية التي يجهلها الكثيرون الآن، شأنها شأن قصائدها الوطنية التي نظمها أهم شعراء القرن العشرين. ومن هذه الأغنيات الوطنية التي غنتها لمصر: أغنية “جماهير الشعب العربي الحر أو تيار الشعب” ألحان عبد العظيم محمد، وصدرت سنة 1962، وأغنية “اعلي يا مصر الحبيبة” من ألحان الموسيقار محمد سلطان وكلمات صالح جودت، وأغنية “ارفعي صوتك يا مصر”، وأغنية “تسلم لي يا وطني”، وأغنية “مصر العظيمة”، كما غنت سعاد محمد من ألحان رياض السنباطي أغنية “أقسم بمصر” كلمات مجدي نجيب.
أما أكثر القصائد الوطنية التي أنشدتها المطربة سعاد محمد وحققت شهرة واسعة على مستوى العالم العربي فهي قصيدة “إرادة الحياة” التي نظمها الشاعر التونسي الشاب أبو القاسم الشابي عام 1933، ولحنها الموسيقار رياض السنباطي. وتثير تلك القصيدة الهمة للإقبال على الحياة وخطوبها ومقاومة الغزاة والمحتلين، وذلك عندما كان لابد من الانتفاضة لتحرير الأوطان العربية المغتصبة، والتي لم تكن لتتحرر بدون بذل الدماء والأنفس –على عكس ما يحدث الآن من تراخٍ واضح في مساندة شعب فلسطين، بعد توقيع معاهدات السلام واتفاقيات التبادل التجاري الملطخة بدماء الشهداء!
الفنان حليم الرومي لحّن وغنّى أيضا قصيدة إرادة الحياة، كما أعيد غناؤها بألحان توزيعات لحنية مختلفة في تونس؛ فغنتها المطربة التونسية لطيفة. كما أدرج أول بيتين من هذه القصيدة في نهاية النشيد الوطني التونسي، وغناها أيضا عدد من المنشدين العرب مثل: يحيى حوى وصالح اليامي.
وتقول كلماتها: “إِذا الشَّعْبُ يومًا أرادَ الحياةَ فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدَرْ، ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ، ومَن لم يعانقْهُ شَوْقُ الحياةِ تَبَخَّرَ في جَوِّها واندَثَرْ، فويلٌ لمَنْ لم تَشُقْهُ الحياةُ من صَفْعَةِ العَدَمِ المنتصرْ، كذلك قالتْ ليَ الكائناتُ وحدَّثَني رُوحُها المُستَتِرْ”.
وللفنانة سعاد محمد قصائد وطنية أخرى لا تقل أهمية عن قصيدة إرادة الحياة مثل: قصيدة (ثورتي) للشاعر محمود حسن إسماعيل وألحان الموسيقار محمد الموجي، وهي واحدة من القصائد الوطنية التي أنشدتها سعاد محمد وطواها النسيان مثلها مثل قصيدة (جلونا الفاتحين).
أما أول إطلالة للمطربة سعاد محمد على الجمهور المصري، فقد كانت عام 1948، من خلال فيلم فتاة من فلسطين الذي أنتجته وألفته رائدة السينما المصرية عزيزة أمير، وشاركها في بطولته مخرجه محمود ذو الفقار، وكتب له الحوار السيناريست يوسف جوهر.
أما أغنيات هذ الفيلم فكانت للشاعر بيرم التونسي، ومن ألحان كل من محمد القصبجي ورياض السنباطي الذي لحَّن لها في هذا الفيلم أغنية فلسطين والأغنية الخالدة والمنسية يا مجاهد في سبيل الله.
وفي عام 1952، تقاسمت سعاد محمد مع ماجدة بطولة فيلم آخر وآخير لها، وكان من إخراج هنري بركات، وهو فيلم “أنا وحدي” وغنت فيه قصيدة “أنا وحدي”.
ولمدينة القاهرة قدَّمت سعاد محمد قصيدة بديعة بعنوان “مدينتي” نظمها الشاعر صالح جودت ولحَّنها الموسيقار رياض السنباطي.
لقد تميزت الفنانة سعاد محمد بما قدمته من عددٍ ضخم من الأغنيات في الإذاعات العربية، وبالرغم من ارتباط اسمها بالأغنيات الدينية، إلَا أن أغنياتها العاطفية الكثيرة، قد نالت أيضا قدرا كبيرا من الشهرة على مستوى العالم العربي، ومن هذه الأغنيات: أغنية “أوعدك” من ألحان الموسيقار محمد سلطان وكلمات الشاعر مجدي نجيب، وأغنية “وحشتني” التي أعاد غناءها المطرب خالد عجاج عام 1996، وهي من ألحان خالد الأمير وكلمات صلاح فايز.
وقبل هاتين الأغنيتين كانت من أشهر الأغنيات العاطفية التي تغنت بها سعاد محمد أغنية الموسيقار الراحل فريد الأطرش “بقى عايز تنساني” من كلمات الشاعر الغنائي عبد العزيز سلَّام الذي غنت له أيضًا أغنية للأم بعنوان “يا حبيبتي يا غالية يا أمي” من ألحان أحمد عبد القادر، وهي من الأغنيات المنسية التي لا يُلتَفت إلى إذاعتها في عيد الأم.
ومن بين القصائد العاطفية المتنوعة التي تغنت بها الفنانة سعاد محمد: قصيدة “قد كفاني”، وقصيدة “أبَعدَ الوصْل”، وقصيدة “يا نديمي آه من سِحر النَّوى”، وقصيدة “يَمُر بي معاتبًا”، وقصيدة “قولوا له”، وقصيدة “يا ليل طال غنائي”، وقصيدة “غمر الطيب حبيبي بالضياء”.
أما أشهر قصائد الفنانة سعاد محمد العاطفية فهي قصيدة “انتظار” للشاعر إبراهيم ناجي والتي كانت ستنشدها أم كلثوم لولا رحيلها، وهي من ألحان الموسيقار رياض السنباطي الذي لحَّن لها أيضا قصيدة “عُد لنا” للشاعر فاروق شوشة، وقصيدة “بلبل الورد بكى” من كلمات الشاعر عبد الفتاح مصطفى، وأنشدتها في البرنامج الغنائي الإذاعي شهريار.
وتقول كلماتها: “بلبل الورد بكى أم غرَّدا؟ ذوَّب العشاق في بحر الدموع طائر العمر قليلًا ما شدا، فإذا طار فهيهات الرجوع! من كتاب الكون ضاعت صفحتان، صفحتا مبدئه والمنتهى، من تُرى يعلم مكنون الزمان، ولمن تُبدي الليالي سرَّها؟ يا طبيبي راحتي في راحتيك إنما أهرب من نفسي إليك، يا حبيبي واسني .. قل لا عليك .. قل أنا الدنيا هنا أين يديك؟!”
https://www.youtube.com/watch?v=PS6RO3c79X4
كما أنشدت أيضًا سعاد محمد في البرنامج الغنائي شهريار قصيدة “دموع الساهرين”، وقصيدة “العيد رضا المحبوب” أو “نغمات وأغاريد”، وهما أيضا من كلمات الشاعر عبد الفتاح مصطفى وألحان الموسيقار رياض السنباطي الذي لحَّن لها من روائع الشاعر محمود حسن إسماعيل قصيدة “نداء الليل”، وقصيدة “حكايتي في هواك” من كلمات الشاعر صالح جودت.
أما الموسيقار محمد الموجي فقد لحِّن للفنانة سعاد محمد قصيدة “أنا وحبيبي”، وقصيدة “شهرزاد” في البرنامج الإذاعي “شهريار” وهما من كلمات الشاعر عبد الفتاح مصطفى. كما لحَّن لها الموجي قصيدة كتبها الشاعر السعودي عبد العزيز بن محيي الدين خوجة بعنوان “ومنك سمعت أغاني الحياة”.
ومن كلمات الشاعر إيليا أبو ماضي أنشدت سعاد محمد قصيدة “وداع أو أزِفَ الرحيل” من ألحان الموسيقار أحمد صدقي، الذي لحَّن لها أيضًا موشح “سلني عن الحب”، وقصيدة “رأيتُ بعينيك” للشاعر فاروق شوشة، وقصيدة “أتحبني حقًّا” للشاعرة روحية القلَّيني.
كما أنشدت المطربة سعاد محمد قصيدة “كم قتيلٍ كما قُتِلتُ شهيد” لشاعر العصر العباسي المتنبي (القرن 4هـ/10م)، وهي من ألحان نجيب السراج. ولها أيضًا قصيدة “أنا قد نسيتك فانسني” كلمات الشاعر اللبناني سميح حماده، وقصيدة “نجوى” أو “عادني طيف حبيبي” للشاعر مصطفى محمود وألحان الموسيقار توفيق الباشا، الذي لحَّن لها قصائد أخرى مثل: قصيدة “ما هكذا أسرفتَ يا أسمرُ” للشيخ محمد يونس القاضي، وقصيدة “يا واحدَ الحب”، وقصيدة “كتمتَ الهوى”.