رؤى

الصراع على ثروات القطبين.. هل هو صراع بقاء أم صراع هيمنة؟(2-2)

في الوقت الذي يمارس فيه التخويف الإعلامي، من عواقب التغير المناخي الوخيمة، وما نراه من إلحاح عالمي؛ يدعو إلى حشد كل الجهود من أجل مواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري، والعمل على الحد منها، تكون هناك حسابات أخرى لدى القوى العظمى في العالم؛ تعتمد على التسابق لإحكام السيطرة على قطبي الكرة الأرضية الشمالي والجنوبي، بعدما يذوب الجليد وتُغرِق الفيضانات الكثير من أنحاء العالم؛ خاصة الجزر والمدن الساحلية. وبالفعل فقد وصلت درجات الحرارة في القطب الشمالي إلى مستويات قياسية في فصلي الربيع والصيف، ما يعني حدوث ذوبان للجليد بسبب موجة الحر، وذلك الطقس الحار الذي كان يتوقعه خبراء الأرصاد بحلول عام 2100، والذي يقولون إنه قد جاء مبكرًا عن الموعد الذي حددوه له بنحو ثمانين عاما.

وعلى ما يبدو فإن الاستعدادات العالمية؛ لمواجهة عواقب التغير المناخي، تخفي وراءها استعدادات أخرى على مستوى آخر؛ لبحث إمكانية العيش في المناطق القطبية التي سيذوب فيها الجليد، والتي ما زالت تحوي ثروة هائلة من الموارد الطبيعية، وهي التي تتنافس القوى العظمى في العالم على الاستفادة منها؛ بأكبر شكل ممكن منذ الحرب العالمية الثانية. فالترهيب الإعلامي من حرب عالمية ثالثة والذي ينذر بإبادة جماعية جراء استخدام الأسلحة النووية؛ يخفي عن الجماهير كيف تستعد القوى النووية العالمية العظمى لاكتشاف بقاع جديدة في أقصى شمال الأرض وأقصى جنوبها؛ كي تكون صالحة للعيش بعد تدمير المناطق المأهولة بالسكان بالسلاح النووي، أو بعد تعرض أجزاء كبيرة من الأرض للفيضانات أو للجفاف والمجاعات بسبب أضرار الانبعاث الحراري. فنفس الدول التي تتسبب بشكل كبير في إفساد هواء الأرض – هي التي تتزعم إبرام الاتفاقيات الأممية الإطارية بشأن تغير المناخ المعروفة اختصارًا بـ (UNFCCC) أوUnited Nations Framework Convention on Climate Change، وهي أيضا التي تمرر المعاهدات البيئية الدولية لمكافحة التدخل البشري الخطير في النظام المناخي، وكأنها بهذه الطريقة تقدم لسكان الأرض العسل بيدها اليمنى بعدما قدمت لهم السم بيدها اليسرى. وما بين الالتهاء الحالي بحلاوة مذاق العسل والغفلة الطويلة عن الوقاية من السموم المقدمة على طبق أنيق من فضة – تولي نفس تلك القوى العظمى اهتمامها بإعداد ما تتطلع أن يكون عليه مستقبلها من هيمنة أكثر ونفوذ أكبر؛ كي تظل لها الكلمة العليا المسموعة واليد الأعلى المرفوعة بكل كبرياء وجبروت.

وفي طرفي الأرض الشمالي والجنوبي، أو القطبين الشمالي والجنوبي؛ حيث يسود النهار لمدة ستة أشهر ويسود الليل لفترة مماثلة بالتبادل.. كان الجليد وما زال مكسوًّا بطبقة من الغموض الذي يثير الخيال العلمي ويستفز فضول المكتشفين والمغامرين؛ كي يسبروا أغوار تلك البقاع الجليدية الموحشة، والتي استطاعوا بالفعل على مدار عقود مضت أن يتعرفوا على الكثير من طبيعتها الجغرافية والمناخية والبيئية، وما يخفيه باطنها من موارد وثروات طبيعية ومعدنية عديدة ومتنوعة. فإذا كان القطب الشمالي خاليا من الجليد قبل مئة ألف عام؛ فإن علماء الأرصاد يتوقعون أن المحيط المتجمد الشمالي سيكون خاليا تماما من الجليد في فصل الصيف في غضون بضعة عقود. فهل من الممكن أن تشهد المنطقة القطبية الشمالية وجود أرض يابسة؛ إذا ما ذاب الجليد الذي يطفو فوق ماء المحيط المتجمد الشمالي في يومٍ من الأيام؟ وهل من الممكن أن تشهد القارة القطبية الجنوبية وهي أرض يابسة مرتفعة عن سطح الماء– نزوح عدد كبير من سكان الأرض إليها في يومٍ ما؟ وإلى متى سيستمر النزاع حول ملكية هذين القطبين بين الدول المطلة عليهما؟ وماذا سيكون مصير قبائل الإسكيمو البدائية التي تقطن المناطق المجاورة للقطب الشمالي؛ حال نزوح بشر آخرين إلى تلك البقاع؟

التنافس بين روسيا والصين والولايات المتحدة على المنطقة القطبية الشمالية:

إن تقلص حجم الجليد بشكل ملحوظ، في العقود الأخيرة في القطب الشمالي بسبب تغير المناخ –يحمل العديد من الفرص للدول القطبية وبالأخص روسيا التي بالقطع لها حسابات خاصة في ظل سعيها الحثيث للتنقيب عن الاحتياطات الهيدروكربونية (الغاز والنفط) التي يعتمد عليها الاقتصاد الروسي، بالإضافة إلى معادن مثل النيكل والكوبلت والنحاس والبلاتين. فبالرغم من تسبب نقصان حجم الجليد نتيجة ذوبانه المستمر بمعدلات كبيرة في العديد من الكوارث البيئية والجغرافية المتوقعة إلَّا إنه –في نفس الوقت– سيتسبب ليس فقط في تغيير موازين سوق الطاقة العالمي؛ بل أيضا في تحويل البحار والممرات المائية الشمالية المجمدة إلى طرق محتملة للشحن الدولي، وعلى سبيل المثال الممر الشمالي الذي يصل المحيط الأطلسي بالمحيط الهادئ، عبر سواحل القطب الشمالي الروسية؛ ومن ثم سيربط اقتصادات آسيا الصاعدة في الشرق بالعالم الغربي؛ ما يعني تغيير موازين القوى في العالم؛ خاصة بعد أن يحل ذلك الممر الجديد محل الطريق التقليدي عبر قناة السويس.

وهكذا لم تكن المناطق القطبية بمنأى عن الأهداف الروسية، التي تطمح منذ عقود في الوصول إلى أقصى نقطة ممكنة شمال العالم، وبالفعل فإن المنطقة القطبية الشمالية ليس غريبا أن تكون بمثابة جزء لصيق بروسيا؛ نظرا لقدرة الشعب الروسي على العيش في مثل تلك الأجواء القارسة البرودة، فهناك حوالي مليوني روسي يعيشون داخل الدائرة المتجمدة، وهو أكثر من نصف عدد سكان العالم في هذه المنطقة، كما إن خُمس الأراضي الروسية ونحو 90% من احتياطاتها الهيدروكربونية المستقبلية تقع داخل الدائرة القطبية، هذا بالإضافة إلى إن ما يقرب من 22% من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا تحصل عليه من حقول النفط والغاز في المنطقة الواقعة فوق الدائرة القطبية الشمالية. ولذلك فإن محاولات روسيا لاستكشاف القطب الشمالي بدأت إبَّان عهد القياصرة منذ أكثر من ثلاثة قرون، إذ استطاعت البعثة البحرية التي أرسلها قيصر روسيا الخامس بطرس الأكبر [1682-1725م] ترسيم سواحل القطب الشمالي، في حين قامت بعدها البحرية البريطانية بأول محاولة غربية ناجحة للوصول إلى تلك المنطقة المتجمدة. وفي القرن العشرين وقبيل الحرب العالمية الثانية اكتسبت نظرة روسيا إلى القطب الشمالي بُعدا عسكريا في ظل إمكانية استخدامه كبوابة للعبور إلى شمال المحيط الأطلسي فقامت بتدشين ما يعرف بالأسطول الشمالي وهو أسطول بحري مخصص للمهام القطبية، كما أنشأت أول ميناء روسي على المحيط المتجمد الشمالي، ونقلت إليه مجموعة من السفن الروسية من أسطول البلطيق. وإبَّان الحرب بين السوفييت وفنلندا في الفترة [1939-1940م] كان لذلك الأسطول دور مهم في توصيل الإمدادات للجيش الروسي؛ ما استرعى انتباه الولايات المتحدة؛ فبادرت بالاستثمار العسكري في هذه المنطقة القطبية، وبالفعل قامت بإنشاء قاعدة عسكرية لها في جرينلاند عام 1943، لاستخدامها في مراقبة الأنشطة العسكرية السوفيتية آنذاك بهدف اعتراض قذائفها النووية.

وفي تلك المنطقة المتجمدة، كانت المشكلة الرئيسة هي عدم إمكانية الإبحار في المحيط المتجمد الشمالي إلَّا لمدة ثلاثة أشهر فقط كل عام، وذلك بسبب تراكم الجليد، ولكن روسيا استطاعت أن تستثمر مليارات الدولارات في بناء كاسحات جليدية متطورة، كي تساعد على إبحار السفن هناك لأطول فترة ممكنة.

وفي عام 1957م نجحت روسيا في بناء أول كاسحة جليدية في العالم تعمل بالطاقة النووية، وبعد ذلك بعشرين عام بدأت روسيا باستخدام أسطولها الناشئ من الكاسحات الجليدية في استكشاف القطب الشمالي، وبالفعل كانت كاسحة الجليد الروسية “أركتيكا” هي أول كاسحة جليد في التاريخ تصل إلى القطب الشمالي، حيث إنه في الوقت الراهن تذهب حوالي 10% من استثمارات الحكومة الروسية إلى القطب الشمالي، ويُوجّه الجزء الكبير من هذه الاستثمارات في صناعة الشحن؛ ما مكّن روسيا من تشكيل أسطول ضخم من كاسحات الجليد الروسية، وصل عددها الآن إلى خمسين كاسحة جليدية، منها تسع كاسحات تعمل بالوقود النووي، في حين أن الولايات المتحدة لا تملك بالكاد سوى ثلاث كاسحات جليدية فقط ما زالت تعمل على تطويرها.

ومع ازدياد الاعتماد على نقل البضائع عبر الممر الشمالي؛ فإنه من المتوقع أن يتم نقل أكثر من ثمانين مليون طن من دول مختلفة بحلول عام 2025، وهذا يعني إن روسيا ستدفع ثمن طموحها في الهيمنة على طرق الشحن القطبية، أمام قوتين كبيرتين مثل الصين والولايات المتحدة، وذلك عن طريق تبني استراتيجية عسكرية حازمة تحمي مصالحها الاقتصادية المتوسعة في تلك المنطقة. لذلك فإنه منذ عام 2013، صنّفت موسكو حلف الناتو كقوة تهدد الأمن القومي الروسي في القطب الشمالي وأعلنت أن مواجهة ذلك التهديد تمثل أولوية قصوى لديها. وفي عام 2014، قامت بإنشاء القيادة الاستراتيجية الشمالية بهدف الإشراف على أنشطتها العسكرية في القطب الشمالي. وفي عام 2015، استطاعت روسيا أن تقوم بأكبر عملية انتشار عسكري في منطقة القطب الشمالي؛ إذ حشدت آلاف الجنود والمراكب وعددا كبيرا من الطائرات والسفن البحرية والغواصات هناك، وذلك كي تبرهن من خلال ذلك التعزيز العسكري على أن السفر عبر الممر الشمالي؛ سيكون خاضعا لإشرافها وحمايتها وحدها.

وعلى النقيض من روسيا، كان الاهتمام الصيني بالقطب الشمالي حديثا نسبيّا –إلى حد كبير– إذ بدأ في الظهور بوضوح خلال ثمانينيات القرن الماضي، وكان مُركزًّا في مجال البحث العلمي وإرسال الحملات الاستكشافية هناك.. ففي عام 1996، انضمت الصين إلى اللجنة الدولية لعلوم القطب الشمالي، وفي عام 2003، افتتحت مركزا للأبحاث يطل على المحيط المتجمد الشمالي. ولم تولِ الصين اهتماما أكبر للأهمية الجيوسياسية للمناطق القطبية إلَّا في عام 2007، بعدما زرع الروس علما من التيتانيوم في قاع المحيط المتجمد الشمالي، وقتها بدأ صناع السياسة الصينيون في صياغة رؤية استراتيجية خاصة بهم من أجل الاستفادة من المناطق القطبية. وبحلول عام 2013، حصلت الصين على عضوية مراقب في مجلس القطب الشمالي والتي أصبحت بعدها لها سياستها المتكاملة في تلك المنطقة القطبية؛ حيث منحت الأولوية لاستخدام طرق الشحن في القطب الشمالي، بالإضافة إلى استكشاف واستغلال الموارد الطبيعية هناك، وكذلك المشاركة في حوكمة المنطقة القطبية الشمالية.

وفي ظل رغبة الصين في تقاسم النفوذ داخل القطب الشمالي –برغم من كونها دولة غير قطبية ومن ثم فهي لا تمتلك أي أراضٍ داخل الدائرة القطبية– فقد كان عليها أن تزيد من استثماراتها في الأقاليم المتمعة بالحكم الذاتي من أجل مشاركتها في إدارة مصالحها وحقوقها في القطب الشمالي.. وبالتالي فقد تعاظمت استثماراتها في أيسلندا وجرينلاند.

ومن الواضح أن ذلك الصراع الجيوسياسي حول المنطقة القطبية؛ قد بلغ نقطة اشتعال غير مسبوقة بين القوى العظمى في العالم، ولكن ذلك الصراع المستعر ما زال بعيدًا عن تسليط الضوء عليه من قِبل وسائل الإعلام. فخشية واشنطن من تغير التوازن العسكري في منطقة القطب الشمالي وما حولها؛ بسبب انضمام الصين لروسيا كقوة عسكرية في تلك المنطقة، يشير إلى أن ذلك الصراع يدور بشكل رئيس على مساحات الهيمنة، وليس فقط حول الموارد والعائدات الاقتصادية؛ إذ أن سيطرة روسيا على طرق الشحن القطبية الجديدة؛ سوف تمنحها أفضلية جيوسياسية في مواجهة الولايات المتحدة، التي تسيطر على طرق الشحن التقليدية؛ ولذلك فهي تحاول أن تحمي تلك السيادة باستخدام أكبر قدر ممكن من قوة الردع العسكري، بينما الصين تحاول ترسيخ قدمها في القطب الشمالي كجزء من سياستها لاستعراض نفودها الاقتصادي، وتقوية موقفها الجيوسياسي في مختلف الفضاءات الجغرافية.

وهكذا فإن ذلك الوجود المتزايد للصين في المنطقة القطبية، والمتزامن مع زيادة النشاط الروسي هناك بات يهدد التوازن الدقيق بين حلف الناتو وروسيا في تلك المنطقة، ما يمثل تهديدا لأوروبا بشكل مباشر، خاصة إذا تمكن الأسطول الشمالي الروسي من العبور إلى المحيط الأطلسي. ولذلك فإنه منذ نهاية عام 2017، والجيش الأمريكي يطور قواعده الجوية في أوروبا؛ ردا على تحرك الغواصات النووية الروسية عبر المنطقة المعروفة باسم “فجوة جيوك” وهي نقطة الاختناق بين جرينلاند وأيسلندا والمملكة المتحدة. كما إن الصين باتت بشكل واضح تعزز استثماراتها وتوسع حيازاتها في جرينلاند وأيسلندا حول “فجوة جيوك”، وبالقطع فإن واشنطن لن تتقبل أن يكون لكل من الصين وروسيا تلك الهيمنة على القطب الشمالي، والتي من شأنها أن تغير من التوازن العسكري هناك بتحالف كل من الصين وروسيا في مواجهة الولايات المتحدة وحلف الناتو. هذا بالإضافة إلى أن واشنطن لن تسمح بصعود الصين كقوة قطبية تسعى لبناء أسطولها الخاص من الكاسحات الجليدية النووية والذي بالقطع سيكون سببًا في فقدان الغرب لهيمنتهم على تلك المنطقة مع حلول اللحظة المتوقعة لذوبان الجليد الصيفي في القطب الشمالي عام 2050، وهذا يعني أن من يريد التحكم في مصير العالم خلال العقود القادمة، فليس أمامه سوى أن يملك قطبي الكرة الأرضية وخاصة القطب الشمالي الذي أصبح يمثل بشكلٍ ما قلب العالم جيوسياسيًّا.

وإذا كان الصراع الذي يهدف إلى بسط المزيد من النفوذ والهيمنة على بقاع العالم التي ما زالت بكرًا قد يحمل في ثناياه الخير لمن سيفوز بالغنائم، فإنه قطعًا لن يدخر أيًّا من ثروات تلك المناطق لمن لم يقتحم حلبة ذلك الصراع؛ فمن تخلى عن التسابق في مجال البحث العلمي، ومن فرَّ من الاستعداد للنزاع العسكري، ومن لم يتبارَ في التنقيب عن الموارد الطبيعية الكامنة في العالم لن يكون من نصيبه أي شيء منها.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock