رؤى

نصر أبو زيد في ذكرى رحيله.. واللقاء بين ابن رشد وابن عربي!

مرت أمس الذكرى الثالثة عشرة لرحيل الدكتور نصر حامد أبو زيد.. ويعد أبو زيد واحدا من أبرز من خاضوا معركة تجديد الخطاب الديني ضد جماعات التأسلم السياسي والتطرف الديني، فقد وضع أبو زيد يده علي أحد أهم أسباب التراجع والتدهور الذي أصاب أمتنا العربية الإسلامية، وهو جمود الخطاب الديني وقال عنه “إن هذا الخطاب لا يتحمل أي خلاف جذري، وإن اتسع صدره لبعض الخلافات الجزئية، وكيف يحتمل الاختلاف الجذري وهو يزعم امتلاكه للحقيقة الشاملة المطلقة؟”.

ويُعد كتاب “هكذا تكلم ابن عربي” من أبرز مؤلفات د. نصر والذي أكد فيه أن التجربة الصوفية في التراث الإسلامي – في جانب منها علي الأقل- تعتبر بمثابة ثورة ضد المؤسسة الدينية التي حولت الدين إلى مؤسسة سياسية اجتماعية مهمتها الأساسية الحفاظ علي الأوضاع السائدة ومساندتها، من خلال آليات إنتاج معرفية ثابتة يقف على رأسها الإجماع ويليه القياس.

وإذا كانت مصادر المعرفة، وهي القرآن الكريم والسنة النبوية – مصادر لا خلاف عليها بين المتصوفة والفقهاء والمتكلمين المسلمين؛ فإن الخلاف بين الاتجاهات الثلاثة يتمثل في ترتيب آليات استنباط المعرفة وإنتاجها من هذه المصادر، ففي حين يُركّز المتكلمون على أهمية العقل -على خلاف بينهم- في ترتيب العلاقة بينه وبين النقل، يضع الفقهاء العقل في درجة أدنى من درجة الإجماع، ولا مجال عند المتكلمين والفقهاء للتجربة الروحية، وهي محور الخلاف بين المتصوفة وغيرهم،  إذ يعتبر المتصوفة أن التجربة الروحية الشخصية الذاتية هي أساس المعرفة الدينية، وفي حين ينشغل المتكلمون والفقهاء بقضايا سياسية واجتماعية وينخرطون في إطار إنتاج معرفة مؤسسية، يلوذ المتصوفة بتجاربهم الروحية التي تحاول استعادة تجربة النبوة ذاتها في إطار تأويلي للشريعة النبوية .

وحول مفهوم العودة للدين.. يذكر الكاتب أنه في تعريف الدين يُركّز غالبا علي مفهوم “النظام” أو “النسق” أي على البعد الجمعي للدين؛ فيهتم الفلاسفة ورجال اللاهوت بمسائل العقائد والوجود، بوصفها أنساقا معرفية أو بوصفها قضايا إيمانية، ويكون تركيز الفقهاء بصفة خاصة على الدين بوصفه نسقا من الأوامر والنواهي يتحقق بخلاص الإنسان فردا كان أو جماعة، أما علماء الاجتماع والأنثروبولوجي فيهتمون بالدين بوصفه ظاهرة اجتماعية إنسانية، أما الدين بوصفه تجربة روحية ذاتية؛ فهو التصور الذي يمثل بؤرة اهتمام كل الروحانيين في كل الأديان والثقافات.

وفي سياق حديث أبوزيد ودفاعه عن ابن عربي، يتحدث عن مفهوم الكفر عند الشيخ الأكبر، وهي نقطة خلافية وأساسية  فيذكر أن الكفر بمعني عدم الاعتراف بوجود إله للعالم هو شيء لا وجود له عند ابن عربي؛ إذ أن العالم عنده كله من أعلاه إلى أدناه، بمستوياته ومراتبه المختلفة من أرواح وعقول وأجسام فلكية وعناصر طبيعية، ليست سوي مظاهر للحقيقة الإلهية، وتكمن القضية في أن كل البشر قد أقروا بالربوبية؛ ولكن الفارق بين الموحد والمشرك، يكمن في أن المشرك أضاف لله شريكا في ربوبيته بينما الموحد آمن بإله واحد لا شريك له، فوفقا لكلام ابن عربي.. أن أي إنسان لابد أن يكون مؤمنا بشيء ما، بقيمة ما، أو بمذهب فكري ما، وهذا الإيمان بموضوع أو فكرة أو مذهب أو مبدأ، ليس في باطنه العميق إلا إيمانا بتجلي الحقيقة الإلهية.

ومن أهم فصول الكتاب، فصل يتناول فيه أبو زيد، لقاء ابن عربي مع ابن رشد.. ما كان له تأثير كبير عليه؛ فقد كان ابن رشد صديقا لأبيه والتقي به الفتى ابن عربي في ريعان الشباب،  ويذكر ابن عربي أنه دخل بقرطبة علي قاضيها ابن رشد، وكان يرغب في لقائه لما سمعه وبلغه عنه من فتح الله عليه في خلوته، وعن ذلك يحكي ابن عربي “دخلتُ يومًا بقرطبة، على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله عَلَيَّ في خلوتي، وكان يُظهر التعجب مما سمع؛ فبعثني والدي إليه، في حاجة قصدًا منه؛ حتى يجتمع بي، فإنه كان من أصدقائه، وأنا صبي ما بَقَلَ وجهي، ولا طرَّ شاربي، فلما دخلتُ عليه قام من مكانه إِلَيَّ؛ محبَّةً وإعظامًا، فعانقني وقال لي: نعم؟ فقلت له: نعم؟ فزاد فرحه بي، لفهمي عنه، ثم استشعرتُ بما أفرحه من ذلك، فقلتُ له: لا؟ فانقبض وتغيَّر لونه، وشكَّ فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه النظر؟ قلت له: نعم ولا، وبين نعم ولا تطير الأرواح؛ فاصفرَّ لونه، وقعد يحوقل، وعرف ما أشرتُ به إليه”.

حقيقي أن الاختلاف كان موجودا وما زال.. وهو  أمر طبيعي بين مدرستين في الحياة والتفكير والوصول، ولكن الرغبة في محاولة التقريب كانت حاضرة، وهذا هو الدرس الحقيقي في رأيي، أن نسعي للتقارب لا للتباعد، ومن الجميل  ما ذكره ابن عربي  بعد ذلك من “طلب ابن رشد من أبي بعد هذا الاجتماع أن يلتقي بنا ليعرض ما عنده علينا، لنرى هل هو يوافق أم يخالف،  فإنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي، فشكر الله الذي كان في زمانٍ رأى فيه مَنْ دخل خلوته جاهلًا، وخرج مثل هذا الخروج،  من غير درس ولا بحث، ولا مطالعة ولا قراءة. وقال: “هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أربابًا؛ فالحمد لله الذي أنا في زمان فيه واحد من أربابها، الفاتحين مغاليق أبوابها، والحمد لله الذي خصني برؤيته”.

ومما يذكر أن آخر ما شاهده ابن عربي في الأندلس قبل رحيله النهائي الذي لم يعد منه أبدا، هو جنازة الفيلسوف قاضي قرطبة ابن رشد سنة 595 هـ وبعدها قرر ابن عربي الرحيل عن الأندلس بلا عودة!

ويوضح نصر أبوزيد في فقرة هامة بالكتاب.. ما حدث لابن رشد بعد ذلك حيث “لم تهدأ سيطرة الفقهاء في عهد الموحدين، إذ كان مناخ الصراع العسكري الديني يدفع بالتوتر في أفق الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية إلى أقصاه، وفي ظل هذا المناخ المتوتر تسيطر عادة نزعة التمسك بالشكليات الدينية تعبيرا عن مفاهيم الهوية في مواجهة التهديد بالقضاء عليها من قبل أعداء خارجيين يرفعون شعارات دينية بدورهم، نحن نعرف مثلا أن مأساة ابن رشد ومحنته المعرفية تسبب فيها حاجة الخليفة لفرض ضرائب جديدة لتغطية تكاليف الحروب. ولما كان من شأن العامة المستضعفين اجتماعيا واقتصاديا أن تحركهم مثل هذه الأعباء إلى انتفاضات وثورات، فقد كان الحكام دائما في حاجة إلى الفقهاء والوعاظ  في المساجد؛ ليمتصوا أي احتمال لثورة العامة ضد الأعباء الجديدة. ومن المنطقي في مثل هذا السياق أن يكون للفقهاء بدورهم شروطا على الحاكم لضبط السلوك الديني الذي غالبا، ما يتهمون الفلاسفة والمتكلمين والصوفية بإفساده”.

ويعد مشهد لقاء ابن عربي بابن رشد من أهم المحطات التي شهدتها العلاقة بين الفلسفة والتصوف، حيث شهدت في كثير من الأحيان فشلا ذريعا، لكن شهدنا في هذا اللقاء تقاربا ملحوظا وتفهما واضحا للاختلاف الفكري.

ويعطي الكتاب كذلك درسا بليغا في العلاقة بين فساد الحاكم وفساد الفقهاء- تتكرر مشاهده كثيرا علي مدار التاريخ الإسلامي؛ حتى أن ابن عربي نفسه عاني منه فيما بعد، وكأن هذا قدر كل مفكر أو باحث خارج  الصندوق الرسمي، وما زلنا حتي يومنا هذا نعاني توابع وتبعات تلك النظرة الضيقة.

فما أشد حاجتنا اليوم إلي نصر حامد بوزيد وثقافته وعلمه وفكره؛ ليكون دليلا فكريا لنا في عصر لا يؤمن إلا بالعلم والمعرفة والتجدد المستمر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock