رؤى

أمين الخولي.. وتجديد الفكر الديني!

منذ مطلع القرن التاسع عشر، شهد العالم العربي عددا كبيرا من المتغيرات، عقب الصدمة الحضارية التي أحدثها قدوم الحملة الفرنسية، وتأثيرها الكبير علي المصريين، إذ نبهتهم إلي البون الشاسع بين الشرق والغرب من حيث التقدم العلمي.

صحب الحملة مجموعة من العلماء في شتى مجالات العلم -أكثر من  150 عالما وأكثر من 2000 متخصص في العلوم والفنون والتقنية- وعلي الرغم من قصر مدة الحملة وعدم استطاعتها إنجاز أهدافها؛ بسبب مقاومة المصريين، وظروف الصراع الاستعماري وقتها؛ إلا أن حجرا كان قد أُلقي بالفعل في المياه الراكدة. 

ثم كانت الصدمة الثانية مع بدء موجة البعثات التعليمية للخارج في عصر محمد علي، وبناء وتأسيس تعليم وطني؛ تمثّل في التوسع في إنشاء المدارس لبناء دولة مدنية وعصرية. 

رفاعة الطهطاوي
رفاعة الطهطاوي

في ظل كل هذه التأثيرات نشأ شيخ المجددين أمين الخولي، وعاش شبابه في ظل ثورة وطنية خالصة هي ثورة 1919، ومبادئها التي انتصرت للحرية والعدل، وقد شهدت تلك الفترة ظهور رواد الفكر المصري الحديث، ودعاة تمصير الجامعة أمثال: طه حسين وعلي مصطفي مشرفة، حسين فوزي، مراد كامل، نجيب محفوظ، سليم حسن، عبد الرازق السنهوري، يوسف مراد، لويس عوض، عبد الرحمن بدوي، عبد الحليم منتصر، محمد كامل حسين، سهير القلماوي، محمد مندور،  وغيرهم كثيرين من المبدعين الكبار.

قد يعتقد البعض أن الحديث عن أمين الخولي هو حديث مكرر وتقليدي، بنفس العبارات والألفاظ والأفكار التي تنتهي لنفس النتائج؛ فنحن عادة ما نتذكره في المناسبات، كما حدث عند الاحتفال بمئويته عام 1995، وبعدها صدور أعماله الكاملة، أو ذكري مرور خمسين عاما علي وفاته في عام 2016،  أو في مناسبات لها علاقة بالصراع بين المجددين والمتشددين علي الرغم من أن الزمان والعلم يتقدمان للإمام، بينما لازال البعض ومن تبعهم من المؤيدين والمريدين يسيرون إلي الخلف دوما، ويزداد الاعتقاد بالاستهلاك الفكري؛ خاصة ونحن نتناول كتاب كتبته عنه حفيدته، فلابد أن يكون إذن -كالمعتاد- تمجيدا وإثارة للعواطف الإنسانية، دون إضافة مهمة لرصيد المعرفة الإنساني.

إلا أن الأمر مع كتاب الدكتورة يمني طريف الخولي يختلف تماما، فقد ذهب لمناطق جديدة في فكر أمين الخولي، برؤية فلسفية وعلمية نحتاجها في وقتنا الحالي، وفي ظل المتغيرات العالمية السريعة والطفرة المعلوماتية، ومع التقدم التكنولوجي الكبير.

الكتاب بعنوان “أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد”، صدر في طبعة شعبية عن سلسلة اقرأ بدار المعارف منذ فترة، كما أصدرته مؤسسة هنداوي للنشر في طبعة مجانية ألكترونية متاحة للاطلاع والتحميل علي شبكة الإنترنت، ويركز الكتاب علي فلسفة الخولي وفكره ونظرته لمشكلاتنا الثقافية. 

فقد حدث مع بداية القرن العشرين؛ صدام بين عدد من المفكرين وثلة من المحافظين بسبب محاولات لتجديد الخطاب الديني؛ عملا على إيجاد طريق ثالث؛ يعتمد التدين العقلاني للخروج من النفق المظلم. 

لقد وضع أمين الخولي يديه على السبب الرئيس للتراجع والتدهور الذي أصاب أمتنا العربية الإسلامية؛ فقال كلمته المأثورة: “إن أول التجديد هو قتل القديم بحثًا وفهمًا ودراسة”، وذلك قبل نصر حامد أبوزيد بعشرات السنين الذي زاد نسج على منوال الخولي قوله “إن هذا الخطاب لا يتحمل أي خلاف جذري، وإن اتسع صدره لبعض الخلافات الجزئية، وكيف يحتمل الاختلاف الجذري وهو يزعم امتلاكه للحقيقة الشاملة المطلقة؟”.

أزمات ومشكلات عديدة تظهر عند كل محاولة فردية لتجديد الخطاب الديني، وعادة ما تنتهي تلك المحاولة الفردية إما بالتشهير أو التكفير أو القتل باسم الدفاع عن الدين، وتظهر هنا قضية مهمة، وهي احتكار المؤسسات الدينية للدين واعتبار أن (الأنا) أو (المفتي بالرأي) هو الخصم والحكم في كل شيء، وتصبح جموع الناس ليس عليها إلا الطاعة العمياء المجردة من أحكام العقل والمنطق والتفكير. 

ينبهنا ذلك إلي أن محاولات تجديد الفكر الديني، جاءت نتيجةً حتميةً لتدخل رجال الدين في كثير من أمور الحياة والواقع على طريقة “هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ”، وإخضاع العلم والفكر والأدب لهذا الحكم؛ دون مراعاة للتطور والتجدد المستمر للحياة، ليصبح الدين – في أحيان كثيرة- في مواجهة العقل، لتفشل محاولات التقريب بينهما؛ نتيجةً لسيطرة وهيمنة المقدس علي الإنساني تأويلا وتفسيرا. 

كان أمين الخولي – كما تذكر المؤلفة – مُجددا في شتي مناحي الفكر والأدب والدين؛ إذ ساهم بمؤلفاته في تجديد اللغة ونحوها، والبلاغة وجمالياتها، والأدب ونقده، وفي تفسير القرآن الكريم، والفكر الديني، وحتى حين تعرَّض لترجمة إمام من أئمة عصر التدوين، هو الإمام مالك بن أنس، ثارت بينه وبين العقاد معركة أدبية شهيرة حول التجديد في كتابة التراجم. 

الشيء الذي  ربما يختلف فيه الخولي عن معظم المجددين، هو ارتكاز التجديد عنده علي الثابت البنيوي (النص الديني/القرآن الكريم) وقد ذكر أن الحل يكمن في النظر والبحث العلمي الذي لا يستقيم بغير الفهم العميق للقرآن الكريم.. بل وجاهر الخولي بأن هذا الفهم ليس سهلًا لمن لا يتذوقون العربية، ومهما فعل المستشرقون، ومهما بذلوا من جهود رصينة، لن يستطيعوا النفاذ إلى جوهر القرآن، بعبارة أخرى هذا التجديد مهمة منوطة بنا وحدنا، واجب علينا وحق لنا.

وقد وضع أمين الخولي في تجديده، مثله الأعلى الشيخ الإمام محمد عبده أمامه، فقد كانت النقطة المهمة التي ارتكز عليها فكر محمد عبده، هي أن الإسلام دين العقل، وقد فسر الإمام القرآن بتفسير عصري عقلاني لم يشهده المسلمون من قبل.

محمد عبده

وقد كانت معارك محمد عبده مع المتشددين بالأزهر حاضرة في ذهن الخولي، ومحاولته  إقناع شيخ الأزهر آنذاك بتدريس مقدمة ابن خلدون في الأزهر، بعد أن وصف له فوائد ذلك، لكن طلبه لم يصادف قبولا!

وحين دعا الخولي إلى إدخال الجغرافيا ضمن علوم الأزهر- توجهت نحوه الألسنة والأقلام بالاتهامات وأنه إنما يريد الغضّ من علوم الدين.

وحين ثارت عليه هجمات الأصوليين والسلفيين – تذكر الخولي كل ذلك وقال قولته المشهورة عن النصوص القديمة وأصحابها “هم رجال ونحن رجال، لهم عصرهم ولنا عصرنا، نتعلم منهم ولا نحذو حذوهم النعل بالنعل”.

ويتوقف الكتاب عند نقطة مهمة ومحورية، وهي موقف الخولي من نظرية التطور، فقد بين في كتاباته أن نظرية التطور الحديثة- في صلبها- لا تتناقض مع العقيدة الدينية، ولا تتعارض مع الإسلام، والقرآن هدى للمتقين وليس درسا في الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء، والإسلام في أصوله وفروعه يحث على عمل العقل، ويستحيل أن يصادر على نظرية أو تفسير علمي ما.. أما مقاومة نظرية التطور والنزاع الشهير بشأنها في أوروبا وأمريكا، فهذا -كما يؤكد الخولي- لا يخصنا؛ لأن التناقض هنا مع نصوص العهد القديم.

وفي تناولها لكتاب “المجددون في الإسلام” توضح المؤلفة أن الخولي أهدى كتابه الرائد للتجديد في الفكر الديني إلى الذين يدينون بعالمية الإسلام وخلوده، فالكتاب – كما ينص الإهداء – بحث في وسائل هذه العالمية وذلك الخلود. 

كما يشرح الكتاب أفكار الخولي الأساسية في أن التجديد تطور، والتطور الديني هو نهاية التجديد الحق، والتجديد بهذا انطلاق مع الحياة ووفاء بجديد حاجتها، وما كان أصل الاجتهاد في الدين إلا تقديرًا للحاجة الماسة والضرورة القاضية بحدوث تغيير يوجبه التطور، وكشف عن حاجة النصوص إلى سعة تمدها بحيوية، تجعلها أصلح للبقاء الذي نودي به لها، بهذا نجد التجديد لا يكون مع منطق الحياة والواقع إلا تطورًا. فالدين في حاجة دائمة للتجديد والتطور بفعل المتغيرات العاتية والأمواج العالية، والعوامل القوية التي تصطخب حوله؛ لهذا كان الاجتهاد والتجديد أصلًا ثابتًا في العقيدة.

وتوضح يمني الخولي أن التجديد اللغوي كان هَمَّ الخولي الأساسي، والحلبة الأولى لنضاله من أجل الاجتهاد والتجديد وتأثيم التقليد، مستندًا على أصل عريق هو إجماع النحاة القدامى على ذم التقليد. حتى عندما أغلق الفقهاء باب الاجتهاد في عصور الانحطاط، لم يفعل النحاة مثلهم  ورأوا الاجتهاد قائمًا في كل آن ومكان، وإلا عجزنا عن ضبط وتفهم ما نقوله.

يبين الكتاب أن أمين الخولي -في كتاباته- ينفي سائر التفسيرات الغيبية اللاهوتية اللاعقلانية، التي تزعم أن العربية – دونًا عن سائر لغات العالمين – هبطت فجأة من السماء بالغة الكمال، لتظل هكذا إلى قيام الساعة. فأكد الخولي أن اللغة العربية خضعت لما خضعت له سائر اللغات البشرية، نافيًا أي أصل إلهي لها..  وفي هذا يستند إلى الآية الكريمة “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم”ْ فليست العربية فقط، بل ثمة لغات أخرى نزل بها كلامه ووحيه.

يتضمن الكتاب قضايا كثيرة غير أن أبرز ما ورد فيه – في نظرنا- مناقشة علاقة التفكير العلمي بالاستنارة الدينية، ولعل أهميتها تعود إلى طرح المؤلفة أستاذةُ فلسفةِ العلوم ومناهج البحث  العلمي التي تسعي في مؤلفاتها إلي نشر الثقافة العلمية ومنطق التفكير العلمي، والكتاب يتناول علم من أعلام الاستنارة الدينية، فالمناقشة في هذه الحالة ثرية ومفيدة للفكر والثقافة. 

وتذكر يمني الخولي أن النص هو محور الارتكاز في كل أفق ديني، سواء أكان منغلقًا أو مستنيرًا. لكن الاتجاه المستنير لإيمانه بقدرة العقل وبتغير الواقع، يتعامل مع النص الديني بمناهج قادرة على التحديث وبعث الحياة فيه، ليتجدد مع كل جديد ويغدو ملائمًا لكل العصور، ولكل الأزمنة والأمكنة، فيكون الدين رسالة شاملة حقٍّا.

كما تناول الكتاب جزئية مهمة، وهي نظرية أمين الخولي في التفسير القرآني، وقد توقف عند الإعجاز النفسي لبلاغة القرآن الكريم، بمعنى أثره العظيم على النفس الإنسانية ووقعه عليها وفعله فيها، بطلاوته وعذوبته في مبناه وفي معناه، وفي جرسه وإيقاعه.

وعن طريق الاستعانة بأمهات عيون التراث، يبين الأثر النفسي لأساليب القرآن الكريم البلاغية، خصوصًا التكرار.. ومن خلال البعد النفسي يبلور الخولي نقطة التلاقي بين الدين والأدب، ليخرج بدعواه للتفسير الأدبي للقرآن الكريم، موضوعا موضوعا، لا سورة سورة، أو آية آية.

كما يشير الكتاب إلي جهود واحد من أهم الإصلاحيين المسلمين الذين بذلوا الجهد لتجديد الفكر والعلم والدين والأدب، ووضع يديه علي الأسباب الكامنة وراء تخلفنا وتقدم الآخرين، ويبعث برسالة مهمة إلي جماعات التطرف الديني التي تري أن الماضي مستمر في الحاضر دون تجدد أو تطور.

لقد كان أمين الخولي الرائد الأول للتدين العقلاني ومواجهة الفكر السلفي الرجعي، ولابد لشبابنا من قراءة أعماله التي سبقت عصرنا بكثير، فلابد من التجديد والتفكير كنتيجة حتمية وتطور طبيعي تفرضه سنن الحياة والواقع . 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock