رؤى

مبدأ التوحيد.. ومغزى تسخير الظواهر الكونية

في البحث حول ملامح مفهوم التسخير.. في كتاب الله الكريم، وصلنا إلى ملاحظة أن هناك ارتباط بين سنن التسخير وسنن الخلق، في آيات التنزيل الحكيم؛ ومن ثم يصبح من الضروري التأكد من أن تسخير الكون، أي تسخير “مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، إنما كان للإنسان لأجل وجوده؛ بما يعني أن الكون قد بُني بالقدرة الإلهية على قوانين (سنن) كمية وكيفية تناسب تماما الكيان الإنساني في وجوده ابتداء؛ فكأنما الكون قد صُنع لاستقبال الإنسان.

وبالطبع.. فإذا كان تسخير “مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، قد أراده الله سبحانه وتعالى ليُناسب وجود الإنسان؛ فإنه -في الوقت نفسه- قد جعله سبحانه لاستمرار الحياة الإنسانية. فالسنن الإلهية -ومن ضمنها سنن التسخير- مُذللة لاستقبال الوجود الإنساني ولحياته وسيرورتها، لأجل أن يكون بحق “فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” [البقرة: 30] لإعمارها؛ كما في قوله تعالى: “وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ” [هود: 61].

 تسخير الكون

ولعل الحركة العطفية بين “أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ”، و”وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا”، وإن كانت تدل على الارتباط بين “الإنشاء” و”الاستعمار”؛ فهي تؤكد أيضا على أن استثمار ما سخَّره الله سبحانه وتعالى يُعدّ من فروض إعمار هذه الأرض، وهو تكليف يُسأل عنه الإنسان يوم القيامة؛ خاصة أن “أَنشَأَكُمْ” تُلمح إلى سنن الخلق التي تتضمن في إطارها، سنن التسخير.. أي تسخير “مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”؛ وأن “اسْتَعْمَرَكُمْ” تؤشر إلى فرض الإعمار، من حيث إن اشتقاق “اسْتَعْمَرَ” يأتي من “عَمَرَ”، مثلما يأتي اشتقاق استنهض من نهض.

بل، إن مصطلح “سَخَّرَ” بتشديد حرف الخاء، ورد في التنزيل الحكيم، مرتبطًا بـ “مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، للدلالة على أن ما في الكون من موجودات؛ ليست مستقلة عن الإنسان ووجوده.. فالكون بكل “مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، لم يوجد إلا من أجل الإنسان؛ وهو ما يبدو بوضوح عبر آيتين من آيات التنزيل الحكيم.. في قوله سبحانه “وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [الجاثية: 13] وفي قوله تعالى: “أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ” [لقمان: 20]. 

وبالتالي، فإن تسخير “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ” إشارة إلى إعداد الكون كميًا، ليُناسب وجود الإنسان؛ وإن تسخير “اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ” إشارة إلى إعداده كيفيًا لذلك.

يقول سبحانه وتعالى:  “وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [النحل: 12]. وكما يبدو من سياق الآية الكريمة، فإن “النُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ” سبحانه لأجل اهتداء الناس بها، حيث يقول تعالى “وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ” [النحل: 16] وهو تسخير معطوف على التسخيرين السابقين، لأجل هذا الإنسان.. بدليل، أن في ذلك التسخير “لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ”.

مبدأ التوحيد

لقد سخَّر الله سبحانه وتعالى للإنسان كثيرًا من الظواهر الكونية؛ فقد سخَّر له الشمس والقمر، والليل والنهار والفلك والأنهار والبحار. وفي آيات التنزيل الحكيم ما يؤكد هذا التسخير، بل والارتباط بين “الخلق” و”التسخير”. يقول سبحانه “وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [الجاثية: 13].. ويقول تعالى “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْأَنهَارَ” [إبراهيم: 32].

ليس هذا فقط، بل سخَّر لهذا الإنسان “َالْبُدْنَ” (الإبل والبقر؛ والكلمة هي جمع بدنة أي “الإبل”؛ وقد سُميت “البدنة” بذلك لسمنها)؛ ورغم ذلك، أي رغم بدانتها وضخامتها مقارنة بحجم الإنسان، فإن مالك الملك سبحانه قد سخرها للإنسان؛ كما ورد التأكيد على ذلك في آيتين متتاليتين في سورة الحج، نعني قوله عزَّ وجل: “وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ٭ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ” [الحج: 36-37]. 

وهنا، يبدو التأكيد عبر “كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ”، و “كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ”؛ وهو تأكيد متبوع بـ”لام التعليل” في الحالتين: الأولى، من خلال “لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ”؛ والثانية، عبر “لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ”.

وعبر هذه الآيات البينات، ومحاولة تدبرها، لنا أن نُلاحظ أن كل ما في عالم الشهادة هو مُسَخَّر للإنسان؛ إذ ليس هناك شيء محظور على الإنسان، الذي جعله سبحانه وتعالى “فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”، اكتشافه، أو التفكير فيه، أو البحث فيه ودراسته، أو استخدامه لمصلحته.
في هذا الإطار، فإن تسخير كل تلك الأشياء والظواهر الكونية، بما فيها المخلوقات من دون الإنسان، لا يتوقف عند حدود الانتفاع المادي فحسب؛ بل إن الغرض الأساس يتمثل في التطلع إلى الجانب المعنوي، الجانب الخاص بالعقيدة الإنسانية تجاه الخالق الأعظم: “مبدأ التوحيد”.. فالتسخير، الذي هو مقدمة لأن يستطيع الإنسان إنجاز مهمته في إعمار الأرض، وتعميرها، يقود إلى أن يتجاوز الإنسان الأفلاك والنجوم المُسخَّرة فوق الناس، إلى المُسَخِّر سبحانه وتعالى فوق عباده: “وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ” [الأنعام: 18].

مغزى التسخير 

لقد سخَّر الله سبحانه وتعالى للإنسان الأشياء والظواهر الكونية، لتكون عونًا له في أداء مهمته، التي من أجلها أوجده الله في الأرض؛ وأن هذا التسخير -في حقيقته- يرتبط ارتباطًا وثيقًا بـ”نعم الله” التي أسبغها على الإنسان.. يقول سبحانه: “أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ” [لقمان: 20]. وكما يبدو من سياق الآية، يأتي التأكيد على أن “مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، قد سَخَّرّهُ الله سبحانه وتعالى للناس بدليل التأكيد على “أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ”. 

أضف إلى ذلك، أن مفتتح الآية يؤشر إلى طلب الاستدلال والتدبر من الناس “أَلَمْ تَرَوْا”، على أن هذا التسخير هو لمصلحة الإنسان، خاصة أن سياق الآية يؤكد أن التسخير يرد مترابطًا مع نعم الله سبحانه وتعالى، وذلك عبر صيغة العطف “أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ… وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ…”. بل وإن هذا الاستدلال يتطلب تدبرًا وتأملًا عبر “الرؤية” التي جاءت في أول الآية؛ إذ إن الخطاب في “أَلَمْ تَرَوْا” يأتي موجهًا للكل.

ويتبقى بعد ذلك أن نحاول التعرف على مفهوم مصطلح “تسخير” ودلالته، من آيات القرآن الكريم.

 

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock