في البحث حول ملامح مفهوم التسخير في كتاب الله الكريم، وصلنا إلى أن الله سبحانه وتعالى سخَّر للإنسان الأشياء والظواهر الكونية لتكون عونًا له في أداء مهمته، التي من أجلها أوجده الله في الأرض؛ وأن هذا التسخير يرتبط ارتباطًا وثيقًا بنعم الله التي أسبغها على الإنسان.. يقول سبحانه: “أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ” [لقمان: 20].
وكما يبدو في سياق الآية، يأتي التأكيد على أن “مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، قد سَخَّرّهُ الله سبحانه وتعالى للناس بدليل التأكيد على “أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ”.
أضف إلى ذلك، أن مفتتح الآية يؤشر إلى طلب الاستدلال من الناس، “أَلَمْ تَرَوْا”، على أن هذا التسخير هو لمصلحة الإنسان، خاصة أن سياق الآية يؤكد أن التسخير يَرِد مرتبطا بنعم الله سبحانه وتعالى، وذلك عبر صيغة العطف “أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ… وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ…”. بل، وإن هذا الاستدلال يتطلب تدبرا وتأملا عبر الرؤية التي جاءت في أول الآية؛ إذ إن الخطاب في “أَلَمْ تَرَوْا” يأتي موجهًا للكل.
ولكن، ماذا يعني مصطلح “تسخير”، في ارتباطه بالظواهر الكونية، في القرآن الكريم؟
اسم المفعول
من نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان.. تسخير الشمس والقمر والنجوم؛ ويأتي تسخير هذه الظواهر الكونية، في بعض آيات التنزيل الحكيم في صيغة اسم المفعول، وهي الصيغة التي ورد عليها اشتقاق “سخَّر” في مرات “أربع” من آيات الذكر الحكيم؛ حيث يأتي اسم المفعول “ْمُسَخَّرِ” في مرة واحدة، في حين يأتي اسم المفعول “مُسَخَّرَاتٍ” في مرات ثلاث.
في المرة الأولى، يأتي اسم المفعول “الْمُسَخَّرِ” للدلالة على “السَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ”؛ وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [البقرة: 164].
وفي سياق الآية الكريمة، يبدو بوضوح أن “السَّحَابِ الْمُسَخَّرِ” يأتي ضمن دلائل آيات الله تعالى في الكون، ومُرتبطًا بها، من حيث إنها “لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ”؛ وهو ما يعني أن التسخير يأتي، عبر صيغة اسم المفعول، مرتبطا بكافة الظواهر الكونية النافعة للإنسان في حياته، سيرورتها وصيرورتها.
ثم، يأتي اسم المفعول “مُسَخَّرَاتٍ”، في مرات “ثلاث” في آيات التنزيل الحكيم، تؤشر اثنتان منها إلى “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ”؛ في حين تؤشر الثالثة إلى “الطَّيْرِ… فِي جَوِّ السَّمَاءِ”.. ففي قوله سبحانه: “أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” [النحل: 79]؛ يبدو ارتباط اسم المفعول “مُسَخَّرَاتٍ”، بالتساؤل القرآني عن الاستدلال بأن تسخير “الطَّيْرِ” إنما هو آية، من آيات رب العالمين الكونية، وأن هذه الآيات “لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”.
وكما أشرنا من قبل في سورة لقمان [لقمان: 20] نشير هنا أيضا إلى أن مفتتح الآية يؤشر إلى طلب الاستدلال من الناس، “أَلَمْ يَرَوْا”، على أن هذا التسخير هو لمصلحة الإنسان، من قِبل الله سبحانه وتعالى الواحد الأحد؛ خاصة أن سياق الآية يؤكد أن التسخير يرد مرتبطا بصيغة الاستثناء “مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ”. بل وإن هذا الاستدلال يتطلب تدبرًا وتأملًا عبر “الرؤية” التي جاءت في أول الآية؛ إذ إن الخطاب في “أَلَمْ يَرَوْا” يأتي موجهًا للكل.
مُسَخَّرات ثلاث
فماذا إذن عن تسخير “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ”؟
تأتي ثلاثية “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ” في سياق مترابط مع صيغة اسم المفعول “مُسَخَّرَاتٍ”، في مرتين ضمن آيات التنزيل الحكيم. الأولى، في قوله سبحانه: “وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [النحل: 12]؛ وكما يبدو فإن ثلاثية الظواهر الكونية تأتي، كـ”مُسَخَّرَاتٍ”، مترابطة مع تسخير “اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ”، وأن هذه الظواهر الكونية “الخمس”، هي آيات كونية سخَّرها رب العالمين للإنسان.
ومن ثم، فإذا كان تسخير “اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ” إشارة إلى إعداد الكون كيفيًا، ليُناسب وجود الإنسان؛ وإن تسخير “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ” إشارة إلى إعداده كميًا لذلك؛ فإن في ارتباط “النُّجُومُ” مع هاتين الظاهرتين، في ثلاثية “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ”، كظواهر كونية “مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ” عزَّ وجل، تأكيد على هذا الإعداد الإلهي للكون، لأجل إنجاز الإنسان لمهمته في “الخلافة” وتعمير الأرض.. وإعمارها.
ولنا هنا أن نلاحظ أن “النُّجُومُ” قد وردت في كتاب الله الكريم؛ إما في صيغة المفرد، كما في قوله سبحانه: “وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ” [النحل: 16] أو في صيغة الجمع، كما في قوله تعالى: “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” [الأنعام: 97]. وفي الحالين فقد جعل الله سبحانه وتعالى من “النُّجُومُ” ظاهرة كونية؛ لكي يهتدي الناس بها، كما ورد بالآيتين: “هُمْ يَهْتَدُونَ”، و”لِتَهْتَدُوا بِهَا”.
ولنا أن نلاحظ أيضًا أن التعبير القرآني “مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ”، وإن كان يختص، في سياق الآية الكريمة، بالثلاثية “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ” فهو -في الوقت نفسه- يأتي للتأكيد على مدى الترابط في ما بين هذه الظواهر الكونية، وليُوضح أن تسخيرها يُرَد إلى عالم الأمر الإلهي.
مثل هذا التوضيح، أو التأكيد بالأحرى، يأتي ضمن سياق الآية الثانية، التي تَرِد فيها الثلاثية نفسها؛ نعني قوله تعالى: “إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” [الأعراف: 54]. بيد أن سياق الآية الكريمة هذه، وإن كان يؤكد من جديد، على أن ثلاثية “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ” هي ظواهر كونية مترابطة، وأنها كظواهر “مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ” سبحانه وتعالى؛ فإنها تُرَد، في تسخيرها، إلى “عالم الأمر الإلهي”، الذي يتأكد عبر مُفتتح الآية “إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ”.
إلا أن الأمر الجدير بالتأمل والانتباه، في آن، أن سياق الآيات الكريمات السابقة، تؤشر إلى أهم سُنَّة من سنن التسخير، ألا وهي قانون “الحركة”. إن قوله سبحانه: “يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا” [الأعراف: 54]، الذي يتكامل مع قوله تعالى: “وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ” [النحل: 12]، يأتي ليؤشر إلى هذه “الحركة” إذ إن “يُغْشِي” تدل على القيام بالتغطية، تغطية شيء بشيء؛ أما “يَطْلُبُهُ حَثِيثًا” فيدل على الحركة السريعة، من حيث إن “الحث: هو الجِد في الإعجال”.
ولعل التأكيد على هذه الحركة، يتبدى عبر قوله عزَّ وجل: “لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” [يس:40].
ولعل ذلك ما يؤكد أولى ملامح مفهوم “التسخير”، التي سبق أن أشرنا إليها، نعني: “تذليل الشيء وجعله مضطردًا في حركته”… وللحديث بقية.