ثقافة

هربرت ماركيوز وفؤاد زكريا و”العقل والثورة”.. وأشياء أخرى!

عقب تصاعد وتيرة الأحداث في مصر عام 2011، جذب الحِراك الواسع الذي عمّ البلاد قطاعات كبيرة من الشعب إلى أتون الصراع السياسي الذي تحوّل في أوقات كثيرة إلى حالة من الصدام والعداوة بين “فرقاء الثورة” وبقايا النظام الساقط.

ومع محاولات كل فريق الحصول على جزء من كعكة السلطة؛ تقلصت مساحة المشترك الذي جمع الناس على ضرورة إنهاء حكم الرئيس مبارك، وتعاظمت الأطماع وتعددت الألاعيب على الأرض وفي وسائل الإعلام على نحو غير مسبوق.. إلى أن بلغت الحيرة بالكثيرين مبلغا صعبا.. فصاروا يتلمسون سبيل النجاة على أي نحو كان.. رأى كثيرون أن نقص المعرفة بالثورة وطبيعتها وصيرورتها وآليات بقائها وتجددها- هو مكمن الداء؛ ذلك لأن هذا الجهل بما هو ضروري يحوّل كل فعل مضاد لجوهر الثورة، إلى مفاجأة تشل العقول وتكبل الأيدي، فلا ينجم عن ذلك إلا رد فعل مشوش أو متهور أو بائس على نحوٍ واضح.

جَدَّ البعض على إثر ذلك في البحث عن عناوين تتناول فلسفة الثورة؛ لتسبر أغوار هذا الفعل الذي وقع وتعاظم وأثمر ثمارا كانت في معظمها زائفة من صنع قوى الثورة المضادة.. وكان من أهم هذه العناوين كتاب “العقل والثورة.. هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية” لهربرت ماركيوز الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني الشهير.. والذي صدرت ترجمته في القاهرة عام 1970، عن الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر.. للمترجم الدكتور فؤاد زكريا الذي صدّر الكتاب بمقدمة له جاء فيها: “… فهذا الكتاب لا يعدو أن يكون محاولة مفصّلة، متعمّقة، للإجابة عن سؤال هام يقع على الحدود الفاصلة- أو على الأصح الحدود الجامعة- بين الفكر النظري والعملي، هو: هل يستطيع العقل أن يقوم بدور ثوري في حياة الإنسان؟ وما أبعاد هذا الدور، وما حدوده التي لا يتعدّاها؟ والحق أن أهمية هذا السؤال إنما ترجع إلى أنه يطرح في ظل تاريخ طويل ظلّ فيه معنى العقل منفصلا عن معنى الثورة، بل ظل فيه العقل قوة محافظة أساسا، تعمل على كبت أي تمرد على الأوضاع القائمة، وتدعو إلى الاحتفاظ بكل القيم السائدة، وتحارب كل ميل جذري إلى التغيير”.

العقل والثورة.. هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية

يدافع ماركيوز في هذا الكتاب عن مثالية هيجل، وعن المثالية الألمانية بشكل عام، ويرى أنها كانت أقرب إلى التحررية.. كما يبين أن إصباغ صفة السكونية على العقل منذ بارمنيدس كان سببا مباشرا للربط بين اللامعقولية والثورية لأمد طويل.

لم يندفع هربرت ماركيوز في دفاعه عن المثالية الألمانية إلى الدرجة التي جعلته يصفها بأنه أداة ناجعة لنقل الفكر الخالص إلى لغة السياسة أو الاجتماع.. بل اعترف أنها نأت بنفسها عن التطبيقات العينية لآرائها، والاحتفاظ بها على المستوى الفكري الخالص.

لكن ماركيوز ذهب إلى أبعد من ذلك حين قسّم فكر هيجل إلى ثلاثة أقسام: أفكار ثورية خالصة، أفكار تمهد مباشرة للثورة، عناصر شاع وصفها بالرجعية، قدم لها ماركيوز تبريرات مقنعة إلى حد ما خففت من غلواء هذه التهمة.

ورغم إعجاب الدكتور فؤاد زكريا بقوة طرح ماركيوز، ما جعله يختصه بترجمة قصيرة صدرت عام 1980، إلا أن زكريا رأى في ماركيوز صورة أخرى للتناقض الشديد بين الفكر النظري والواقع التجريبي.. أو بين “العقل والثورة” كما هو عنوان الكتاب، وقد لخّص د. فؤاد هذا التناقض في عدة نقاط عرضها على النحو التالي:

لم يتخلص ماركيوز رغم ثورية أفكاره من تأثير انتمائه اليهودي وظل متمسكا به دون محاولة للتحرر منه.. ما دفعه للبقاء مدة طويلة في  جامعة برانديس بالولايات المتحدة وهي معقل الثقافة اليهودية في أمريكا، وجميع أعضاء هيئة التدريس والطلبة فيها من اليهود.

إعلانه عن انحيازه وتعاطفه مع مبادئ وأفكار وآليات عمل الحزب الديمقراطي الاشتراكي في ألمانيا، ثم إعلانه رفض الحزبية لضرورة استقلال العالِم وعبوره الحواجز بين الأيديولوجيات المتعارضة، برغم ما يحمل ذلك من تناقض واضح مع معتقدات ماركيوز السياسية والاجتماعية الأصلية.

ذكر زكريا أيضا ما هو أعجب من ذلك؛ بشأن اشتغال ماركيوز لمدة طويلة في أعمال تخدم نشاط الحكومة الأمريكية المتعلق بالشئون الروسية وشئون أوروبا الشرقية بوجه عام، ما يحمل على الاعتقاد باستحالة أن يكون موقفه الحقيقي هو موقف الحياد بين المعسكرين؛ ناهيك عن اختياره الولايات المتحدة دون غيرها لتكون وطنا جديدا له بعد رحيله عن ألمانيا مطلع الثلاثينات.

ورغم ذلك فإن ماركيوز لم يُحجم عن نقد المجتمع الصناعي المتقدم بشكل حاسم؛ متخذا من النموذج الأمريكي مثالا  جرى تناوله على نحو بالغ العمق والدراية.

لا شك أن ثمة تناقضات جلية تتبدى للقارئ في ما طرحه هربرت ماركيوز في كتابه “العقل والثورة” نبه إليها الدكتور فؤاد زكريا في غير موضع؛ لكن يظل الكتاب وكاتبه محلا للاهتمام  والدراسة لما يحمله من قابلية تتجاوز حدود الزمن، مفسرة للكثير من الظواهر الاجتماعية المتعلقة بالثورة.. وكيف أن الجدل يمكن أن يكون السبيل إلى تثوير العقل وإخراجه من دوائر الإخضاع على نحو واقعي بعد إشباعه بفضيلة الرفض والإنكار، وهو ما يسميه هيجل بالسلب، ويمكننا فهمه -في ثقافتنا- بحالة القطيعة التامة مع الواقع الراكد المراد تغييره بالثورة عليه.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock