مختارات

ثورة يوليو.. كيف أنصفتها وثائق الغرب وهزائم العرب؟

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن موقع عروبة 22

حسين عبد الغني

ربما لم تحدث ثورة في الشرق الأوسط وإفريقيا ما أحدثته من تأثير وما فجرته من جدل مثل ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ التي تمر ذكراها الـ٧١ اليوم.

لكن اللافت للنظر أن التفوق النسبي لخصوم هذه الثورة على الإعلام عمومًا وعلى وسائل التواصل الاجتماعي المؤثرة خصوصًا لم يمنع الحقائق والوقائع من أن تنصف هذه الثورة ومشروعها العربي الجامع وتضعها رغم كل أخطائها وهزائمها في مصاف الثورات الإنسانية الكبرى، الثورة الفرنسية والروسية والصينية وتضع زعيمها عبدالناصر في مصاف زعماء تاريخيين صاغوا مسار القرن العشرين بطريقة أو بأخرى مثل ديجول ولينين وماوتسي تونج ونهرو وتشرشل وروزفلت.

فمن ناحية تكفلت الوثائق الأمريكية والبريطانية والفرنسية بإظهار حقائق أكدت صحة السردية Narrative الرئيسية ليوليو بشأن المعارك التي خاضتها والفخاخ التي نصبت لها ووقعت في شركها أحيانا ونجت منها أحيانًا أخرى ولكن أنكرها الخصوم من القوى الغربية في وقتها واتهموها بأنها غارقة في نظرية المؤامرة.

مجلس قيادة ثورة يوليو
مجلس قيادة ثورة يوليو

ومن ناحية أخرى تكفلت الوقائع والأحداث التي مر بها العالم العربي وما صارت إليه أحواله في العقود الأربعة الأخيرة من انهيار في المكانة الدولية ومن اختراق قوى دولية وإقليمية لأمنه وحدوده بل وإلى تفجر الحروب الأهلية والمذهبية وتفتت الدولة الوطنية في عدد وازن من الدول العربية.. تكفلت بإعادة الاعتبار للمشروع العربي ليوليو في جوهره القائم على التحرر من التبعية والتصنيع والحداثة والتوزيع المتناسب للثروة الوطنية.

عندما انتهت فترة الحظر القانونية في هذه الدول على «سرية» الوثائق الرسمية بعد مرور خمسين سنة عليها كما في كثير من التقاليد الغربية -وباتت متاحة للرأي العام- تأكدت صحة السردية العربية ليوليو في الحروب العربية-الإسرائيلية وفي الأزمات مع العواصم الكبرى في واشنطن ولندن وباريس وبرلين وكما يقول المثل فإن «الحق ما شهدت به الأعداء».

ثورة 23 يوليو

تأكيد صحة السرديات الثلاث الرئيسية ليوليو عن حرب ١٩٥٦ التي عرفت باسم العدوان الثلاثي كمجرد مثال بسبب ضيق مساحة المقال دون التعرض لسرديات حرب ١٩٦٧ وحرب الاستنزاف الخ.. والتي أكدت الوثائق أيضا صحة السردية العربية لها:

السردية الأولى: كانت تقول إن بريطانيا وفرنسا وإسرائيل دبرت مؤامرة تقوم فيها إسرائيل بافتعال الحرب مع مصر والتقدم في سيناء، فتقوم مصر بإرسال جيشها للدفاع عن سيناء شرق القناة وعندها تقوم بريطانيا وفرنسا بإنزال جوي غرب القناة فيحاصر الجيش المصري بينهما ويتم تدميره وبالتالي القضاء على نظام يوليو الذي أوجع البريطانيين بتأميم قناة السويس أهم ممر ملاحي عالمي وأحد أهم مراكز هيمنة بريطانيا السابقة على المنطقة وأوجع الفرنسيين بدعمه الهائل للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي «دعم ساعدها مع تضحيات لم يقدمها شعب في التاريخ كالشعب الجزائري لإنهاء هذا الاحتلال بعد ١٣٠ سنة» وأوجع الإسرائيليين برفض كل الضغوط الغربية للاعتراف بإسرائيل والتسليم بضياع فلسطين.

جاءت الوثائق البريطانية/ الفرنسية لتثبت أن ما كذبته الأطراف الثلاثة وقتها كان حقيقة دامغة وأن «خطة سيفر» نسبة لضاحية سيفر الباريسية شهدت اجتماعا سريا بين الدول الثلاث المتآمرة وتم فيه التوصل إلى خطة العدوان وتوقيته الذي تم في ٢٩ أكتوبر ١٩٥٦.

الضباط الأحرار وسط الجماهير بعد ثورة يوليو

السردية الثانية: تم فيها تكذيب السردية الغربية من أن السبب الرئيسي للعدوان وهو تأميم مصر الشركة العالمية لقناة السويس في ٢٩ يوليو من العام نفسه كان استفزازًا لا داعي له للغرب إذ أن الغرب المهيمن على الشركة كان سيعيد القناة إلى مصر طواعية في عام ١٩٦٨ كما قضت الاتفاقية الأساسية للقناة الموقعة في القرن الـ١٩.

أثبتت الوثائق أن سردية يوليو كانت صحيحة وأن قرارها بالتأميم كان محتوما، فهذه الوثائق خاصة البريطانية أثبتت أنه لم تكن هناك نية للتخلي الغربي عن القناة في الموعد المذكور بل تم وضع الخطط لاستمرار السيطرة الأجنبية على القناة ومقاومة أي خطط مصرية وتوسيعها وزيادة طاقة وغاطس مجراها الملاحي للسفن التي كانت تزداد حجمًا وعمقًا. وثبت بهذه الوثائق ما خاطب به عبدالناصر الشعوب العربية آنذاك من على منبر الأزهر الشريف من أن بريطانيا ورئيس وزرائها إيدن وقتها كانت طرفا رئيسيا في منع البنك الدولي من تقديم قرض لمشروع السد العالي أو مشروعات تطوير القناة نفسها.

السردية الثالثة: إن مصر والعالم العربي الذي وقف معها وقفة دعم هائلة من عمان إلى المغرب في مواجهة العدوان قد انتصروا استراتيجيا في هذه المعركة ولم يهزموا كما ادعى الإعلام الإسرائيلي والغربي، بل وانضم إليهم في هذا الادعاء ذلك حتى بعض المصريين والعرب. تؤكد الوثائق الغربية صحة هذه السردية وأحقية مصر وأمتها في الاحتفال بعيد النصر في ٢٣ ديسمبر، إذ تقول هذه الوثائق بوضوح أن زعم إسرائيل وفرنسا وبريطانيا أنها انتصرت في الحرب ولكن انسحبت فقط بسبب معارضة أمريكا والاتحاد السوفييتي السابق للعدوان كان زعما خاطئا وأن العدوان فعلًا فشل في تحقيق أهدافه إذ يكفي ما أفصحت عنه هذه الوثائق من أن معركة السويس كانت بالنسبة للدوائر البريطانية بمثابة الإعلان الرسمي على انتهاء هيمنتها على الشرق الأوسط وبات من المستقر في الكتابات الأكاديمية الغربية الرصينة الحديث عن عالم ونظام دولي قديم ما قبل السويس وعالم ونظام دولي جديد ما بعد السويس.

ثورة يوليو

لكن أكثر ما أنصف يوليو هو التاريخ العربي المتدهور بعد التخلي عن هذا المشروع. ومع الاعتراف بأخطاء بل وخطايا التجربة «.. فإن جوهر مشروع يوليو كان إنجاز تحرر العالم العربي من التبعية للقوى الدولية المستغلة لثرواته الوفيرة ورفعت شعار (بترول العرب للعرب) وبالتالي الاستفادة بهذه الثروات من عبور برزخ التخلف وعمل نموذج للتنمية المستقلة واللحاق بالعالم المتقدم بعد قرون من الركود». شمل هذا المشروع وقتها نموذجًا لتحويل مصر وغيرها (سوريا والعراق والجزائر بصور متفاوتة) من دول زراعية شبه إقطاعية – إلى دول صناعية تقوم على سياسة إحلال الواردات والتصدير وتحقيق معدلات آمنة من الأمن الغذائي يساندها في ذلك تعليم حديث وواسع وحراك اجتماعي غير مسبوق. ويستند المشروع إلى إقامة علاقات اجتماعية حداثية بين جميع المواطنين تحت الهُوية العربية الجامعة بغض النظر عن دينهم أو مذهبهم أو عرقهم. ولعل هذا يفسر اختفاء هذه النزعات وتوحد مشاعر الشعوب العربية حول مصر في٥٦ ومع الجزائر في حرب الاستقلال.. وتصاعد الشعور العربي بالعزة والكرامة. ما عرفه العرب منذ ٧٥ كان الانقسام المستمر بين معسكرات متعادية وتم إشعال الصراعات المذهبية في البلد الواحد، وتفجر النزعات والنزاعات الأثنية «كرد وعرب وأمازيغ وعرب»..الخ. وتفتت فيها الدولة الوطنية في العراق وسوريا وليبيا والسودان واليمن.

باتت الأجواء والأراضي والشؤون الداخلية للدول العربية ساحة مستباحة واستحق العرب في مطلع القرن الـ٢١ صفة رجل المنطقة والعالم المريض الذي كان صفة الإمبراطورية العثمانية في مطلع القرن الـ٢٠.

العدوان الثلاثي على بورسعيد
العدوان الثلاثي على بورسعيد

وبصعود الجماعات الإرهابية لما سمي باسم فرق الإسلام السياسي لتهدد الدولة الوطنية العربية في دول مثل مصر والعراق وسوريا وليبيا واليمن ومن قبلهم الجزائر تأكدت صحة المشروع القومي الذي وضع الدين في مكانه السامي وتأكد موقفه الصحيح في مقاومة المؤامرة الغربية «التي أثبتتها أيضًا الوثائق المرفوع عنها السرية» باختلاق الغرب لصراع زائف بين العروبة والإسلام. إذ عادت كل هذه التيارات من أفغانستان وغيرها قنابل موقوتة كادت تفتك بالدولة الوطنية العربية لولا لطف الله.

وكشفت كارثتا جائحة كورونا وحرب أوكرانيا العالميتان عن انكشاف الأمن الغذائي العربي وتحول العرب إلى مستهلكين وليسوا منتجين أي أعادت الاعتبار للمشروع القومي الذي كان يقوم على استقلال الإرادة السياسية واستقلال الاقتصاديات العربية وتكاملها معًا لإنهاء الاعتماد على الخارج.

ولعل هذا الكشف يفسر التطورات الإيجابية النسبية في السلوك العربي في العامين الأخيرين في الانفتاح السياسي والاقتصادي على الصين وروسيا والهند وغيرها وتنويع العلاقات التجارية وتنويع مصادر السلاح والسعي «لتصفير» النزاعات في الإقليم وكلها خطوات تتسق مع ما دعت إليه هذه الثورة منذ سبعة عقود.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock