من السهل التغني بالعروبة والتشدق بالانتماء للأوطان، ولكنه من الصعب أن يكون المرء منتميًا فعلًا لوطنه ومتفانيًا من أجل عزته وعزة أبنائه. ولولا البرهان على صدق الانتماء للوطن لكان الافتخار والتباهي به مجرَّدًا من أي روح تضيف إليه المزيد من المعاني.
لقد ظلت مصر لعقود طويلة خاضعة للأوروبيين منذ الحملة الفرنسية عليها، والتي اكتشف خلالها حجر رشيد عام 1799، على يد جندي فرنسي، وبعد ذلك بسنوات قليلة وفي عام 1822، استطاع الفقيه اللغوي الفرنسي وعالم الدراسات الشرقية جون فرانسوا شامبليون [1790-1832] أن يفك رموز الكتابة المنقوشة على ذلك الحجر بالخط الهيروغليفي؛ ليكون ذلك إيذانًا باحتكار الغرب الأوروبي لأسرار حضارة مصر العريقة، بوصفها واحدةً من حضارات الشرق القديم، الذي ظل بعيدًا عن قبضة الغرب لقرون طويلة، بفضل توسعات فتوحات المسلمين وازدهار حضارتهم.
عام 1851، كانت مصر تستعد لاستقبال أحد نوابغها وعلمائها الأفذاذ المخلصين لها ولعروبتهم. ففي هذا العام وُلد مَن تحدى علماء الآثار غير العرب؛ فتعلّم وفهم كتابات اللغة المصرية القديمة، ودرس آثارها، وتعمق في فهم مناحي حضارتها؛ بل وأمضى ما يقرب من ثلث عمره في كتابة أول معجم لغوي للغة المصرية القديمة باللغة العربية.
إنه الفقيه اللغوي المصري أحمد كمال، أول عالم مصريات مصري عربي يخترق أسوار الحضارة المصرية القديمة، ويتعلم رموز أبجديتها.
وصفه الزركلي -في فهرس الأعلام- بالعلامة الأثري أحد نوابغ مصر الذي استطاع أن يجيد اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والتركية والهيروغليفة (إحدى كتابات اللغة المصرية القديمة)، بالإضافة إلى معرفته بالقليل من القبطية والحبشية. درَّس الحضارة القديمة في الجامعة المصرية بالإضافة إلى كونه أول أثري مصري يخترق الأسوار المنيعة لمتحف القاهرة (المتحف المصري) للالتحاق بالعمل به.
ويُعتبر أحمد كمال باشا المؤسس الفعلي للمدرسة المصرية الوطنية في علم المصريات، وهو بجدارة شيخ وأبو الآثاريين المصريين، وذلك بعدما كرَّس حياته لدراسة الحضارة المصرية القديمة والكتابة عن لغتها التي تعلمها وأتقنها على يد العلماء الأجانب، الذين انفردوا بمعرفتها وبالتنقيب عن آثار الشرق القديم.
لم يكتفِ أحمد كمال بأن يكون أول مصري، يتحمس لدراسة لغة وحضارة مصر القديمة، دراسة علمية منهجية؛ بل أصرَّ على العمل مع الأجانب في مجال البحث العلمي والتنقيب الأثري، بعدما كان ذلك قاصرًا على الأوروبيين وحدهم.. كما حارب لسنوات من أجل إنشاء مدرسة مصرية للآثار تهدف إلى توعية المصريين بعظمة تاريخ أجدادهم؛ كي يكونوا على دراية به وفهم له.
ولقد حوى كتاب “صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر” لزكي فهمي الذي صدر عام 1926، ترجمة لأحمد كمال باشا، فوصفه فيها بنابغة مصر، وكذلك بالعالم الأثري الجليل الذي قبل أن يلتحق بالتعليم النظامي، تعلّم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب وحفظ شيئًا من القرآن الكريم، شأنه شأن أقرانه في ذلك الوقت، ثم التحق بمدرسة المبتديان الابتدائية بالعباسية سنة 1863، وانتقل منها سنة 1867، إلى المدرسة التجهيزية وهي تعادل الآن المدارس الثانوية.
ذكر زكي فهمي في ترجمته لأحمد كمال باشا، ما يفيد بأنه في عام 1869، التحق بمدرسة اللسان المصري القديم، حيث تلقّى دروس الكتابة الهيروغليفية، وما يتعلق بفن الآثار.. على يد عالم الآثار الألماني بروجش Brugsch– مؤسس أول مدرسة للدراسات الأثرية بالقاهرة؛ ولكن نظرًا لعدم رغبة الأوروبيين في وجود مصري بينهم، ينافسهم في دراسة الآثار المصرية التي تمكنوا من إخراج الكثير منها من الديار المصرية إلى العديد من دول أوروبا- فقد أمضى أحمد كمال فترة ليست بالقصيرة في عدة وظائف، إلى أن تمكّن من العمل في المتحف المصري، في وظيفة أمين مساعد لمدير المتحف أوجست مارييت في عام 1873.
عمل أحمد كمال مدرسًا للغة الألمانية بإحدى المدارس الأميرية بالقاهرة، ثم التحق بالعمل في وزارة المالية للعمل بها، مُترجِما للغة الفرنسية، ثم التحق بعد ذلك بمصلحة الآثار المعروفة آنذاك بـ “الأنتيكخانة” كي يعمل كاتبًا بها، بعدما تظاهر بعدم معرفته بالآثار؛ كي يحظى بهذه الوظيفة. وبسبب معاناته من الغبن والظلم؛ تقدّم بشكوى لرفع الظلم الوظيفي عنه، وفي عام 1879، كانت الاستجابة لشكوى أحمد كمال من رئيس الوزارة في عهد الخديوي توفيق، بناء على طلب من علي باشا مبارك وزير الأشغال العمومية، التي كانت تتبعها مصلحة الآثار آنذاك.
كما عمل أحمد كمال مترجما ومدرسا للغات القديمة بالمتحف المصري، هذا بالإضافة إلى تدريسه للحضارة واللغة المصرية القديمة في مدرسة المعلمين العليا.. وفي الجامعة المصرية الأهلية.
وفي عام 1892، أنعم خديوي مصر عباس حلمي الثاني على أحمد كمال بك بالرتبة الحكومية الثانية، باعتباره أحد كبار موظفي مصر في العصر الملكي، ولوصوله لوظيفة أمين مساعد متحف القاهرة، هذا بالإضافة إلى كفاءته ومجمل إنجازاته العلمية ومؤلفاته وخدماته الوطنية؛ سواء في المتحف المصري أو في مجال الحفائر الأثرية.
وفي عام 1923 أنعم الملك فؤاد على أحمد كمال بالباشاوية، بعد حياة وظيفية وعلمية وبحثية حافلة بدأها بوظيفة معاون ثم مترجم ثم “خُوجَة” ثم كاتب إفرنجي، ثم أمين مساعد، ثم مُتدرجا في المناصب العُليا حتى بلوغه سن المعاش عام 1916.
ومن بين محفوظات دار الكتب والوثائق القومية، بعض الوثائق الخاصة بأحمد كمال باشا، منها الطلب الذي كتبه من أجل إنشاء مدرسة للآثار المصرية، والذي يعود لعام 1881، وكذلك ما يفيد اشتراكه في مؤتمر للمصريات عام 1923، بالإضافة إلى وثائق أخرى تفيد التعاون بينه وبين جاستون ماسبيرو، في نقل عدد من المومياوات الملكية بالدير البحري بالأقصر.
ولقد أرخ المخرج والسيناريست الفنان شادي عبد السلام لهذا الحدث الذي استوحى منه قصة فيلمه الشهير “المومياء” عام 1969، وجسَّد خلاله الممثل محمد خيري دور مفتش الآثار أحمد كمال، بينما أدى دور عالم الآثار الفرنسي جاستون ماسبيرو مهندس الديكور ومنسق المناظر اللبناني جابي كراز. وقد بدأ الفيلم بلقاء يجمعهما في اجتماع للكشف عن خبيئة الدير البحري قبل وصول لصوص الآثار إليها.
لقد ظل الحُلم بإنشاء مدرسة للآثار المصرية؛ لتعليم أبناء مصر كل ما يخص آثار بلدهم يراود أحمد كمال منذ عام 1881، إلى أن نجح عام 1910، في سعيه لدى وزير المعارف أحمد حشمت باشا من أجل إنشاء قسم لتعليم فن الآثار المصرية بمدرسة المعلمين العليا، وكان من ثمرة ذلك أن تعلّم الهيروغليفية على يديه كل من: سليم حسن، ومحمود حمزة، وأحمد عبد الوهاب باشا، وابنه الدكتور حسن كمال، وغيرهم ممن تخرجوا من ذلك القسم عام 1912؛ ولكنه مع الأسف فشل في توظيف أي منهم في المتحف المصري، من أجل التفرغ للبحث العلمي ولدراسة الآثار المصرية.
وبعد عدة أعوام.. تحقق الحلم الذي كان بعيد المنال، ففي عام 1921 عُيِّنَ ثلاثة مصريين، أمناء بالمتحف المصري لأول مرة، كما تقرر سفرهم في بعثات لفرنسا وإنجلترا لإتمام دراسة الآثار هناك، وهم كل من: سليم حسن، ومحمود حمزة، وسامي جبرة.. ووصل بعد ذلك الدكتور سليم حسن إلى منصب وكيل عام مصلحة الآثار المصرية، فكان أول مصري يتولى ذلك المنصب، كما وصل محمود حمزة إلى منصب مدير المتحف المصري، أما دكتور سامي جبرة فتولى عمادة معهد الآثار المصرية، كما شارك في تأسيس جمعية الآثار القبطية ومعهد الدراسات القبطية.
كما سعى أحمد كمال لدى وزير المعارف محمد توفيق رفعت باشا، من أجل إنشاء مدرسة عالية لدراسة الآثار المصرية، يُدرَّس فيها ما استطاع أن يصل إليه من رأي علمي بخصوص الارتباط بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية. هذا بالإضافة إلى حرصه على إنشاء متاحف في شتى عواصم مديريات (محافظات) مصر، وكان منها تأسيسه لمتاحف أسوان والمنيا وأسيوط وطنطا.
وبعد وفاة أحمد كمال، وفي عام 1924 أعادت وزارة المعارف فرقة دراسة الآثار واللغات القديمة بمدرسة المعلمين العليا؛ كي يلتحق بها طلاب الشهادة الثانوية، ثم في عام 1925، تأسست كلية الآداب بالجامعة المصرية، وظل قسم الآثار ضمن أقسامها حتى عام 1970، وهو العام الذي أنشئت فيه كلية مستقلة لدراسة الآثار بجامعة القاهرة.
هذا وقد شارك أحمد كمال في تأسيس المتحف المصري بالقاهرة، وفي تحرير كتالوج المتحف في الجزء الخاص بموائد القرابين، كما ترجم إلى العربية كتاب دليل الزائر إلى المتحف المصري، بالإضافة إلى ترجمته لبطاقات العرض الموجودة في المتحف، ما يشير إلى اهتمامه بتقديم كل ما يخص الحضارة المصرية القديمة لكل مصري وعربي.
أما قيمة أحمد كمال باشا في عالم الدراسات الأثرية واللغوية- فتتجلى فيما أثرى به المكتبة الأثرية من أبحاث علمية وكتب قيمة في علم المصريات باللغة العربية، ومن هذه الكتب: كتاب العقد الثمين في محاسن وأخبار وبدائع آثار الأقدمين من المصريين (1883)، وهو أول دراسة علمية تاريخية عن الحضارة المصرية القديمة وتاريخها باللغة العربية يكتبها عالم آثار مصري، وكتاب الفرائد البهية في قواعد اللغة الهيروغليفية (1885-1886)، وكتاب اللآلئ الدرية في النبات والأشجار القديمة المصرية (1889-1890)، وكتاب بُغية الطالبين في علوم وعوائد وصنائع وأحوال قدماء المصريين (جزءان: 1891-1895)، وكتاب ترويح النفس في مدينة الشمس (1896)، وكتاب الدر المكنوز في الخبايا والكنوز، وهو عبارة عن مجلدين أولهما باللغة العربية والآخر باللغة الفرنسية، وكتاب الحضارة القديمة (وهو في حضارة مصر والشرق إلى ظهور الإسلام)، بالإضافة إلى ترجمته لدليل متحف القاهرة ودليل متحف الإسكندرية من الفرنسية إلى العربية، وله رسالة في التحنيط والجنازة عند قدماء المصريين، ورسالة أخرى في مدينة منف، وآجرومية عربية ألمانية (وهو كتاب في قواعد اللغة المصرية القديمة).
ولأحمد كمال معجم فريد وضعه بمفرده وكان باكورة معاجم اللغة المصرية القديمة باللغة العربية؛ إذ كان بالإضافة إلى أبحاثه العديدة المنشورة في المجلات العلمية علامة بارزة في تاريخ الكتابة عن اللغة المصرية المصرية القديمة باللغة العربية.
ولقد بُدِئ في طباعة المخطوط الخاص بهذا المعجم في ثلاثة وعشرين مجلدًا منذ عام 2002 بواسطة المجلس الأعلى للآثار، أي بعد حوالي ثمانين عامًا من انتهاء أحمد كمال من هذا القاموس اللغوي الفريد الذي لم تهتم الحكومة بطبعه أو نشره في حياته مما أحزنه كثيرًا قبل وفاته.
والآن ومصر تحتفي بمرور مئة عام على رحيل أحمد كمال باشا في الخامس من شهر أغسطس عام 1923، هل لاقت رؤيته حول عروبة مصر القديمة اهتمامًا مختلفًا عما كان في الماضي من قِبل الأوساط العلمية والثقافية والبحثية والإعلامية في مصر والعالم العربي؟
وهل مدرسته البحثية التي أسسها وأراد لها أن تكون عربية صميمة استطاعت أن تجذب إليها الباحثين العرب والمصريين لاستكمال مشروعه البحثي؟ أم أن تلك المدرسة ما زالت تفتقد مؤسسها وتبحث عن طلاب علم يمتلكون جزءًا ضئيلًا من حماس أحمد كمال لعروبة مصر ومن اجتهاده الدؤوب في فهم أسرار الحضارة المصرية القديمة؟ … هذا ما سنجيب عليه في تتمة هذا المقال.