رؤى

قمة روسيا.. ومصالح أفريقيا الاقتصادية

في وقت تتزامن فيه الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها العالم، مع إعلان روسيا الانسحاب من اتفاقية تصدير الحبوب؛ جاء انعقاد القمة الروسية الأفريقية، في نسختها الثانية، لتبحث في سُبل تعظيم التعاون بين الجانبين، في أكثر من ملف. ففي حين تسعى موسكو إلى تخفيف حدة القيود الغربية المفروضة عليها، عبر التعاون الاقتصادي، والسياسي، مع الدول الأفريقية؛ ترى الأخيرة أن روسيا يمكن أن تكون البديل الاستراتيجي، في تأمين احتياجاتها الغذائية.

ويأتي الأمن الغذائي في مقدمة العوامل ذات الحساسية العالية، بالنسبة إلى الدول الأفريقية، بما يفرض تحديًا حقيقيًا على دول القارة، في محاولة التوصل مع موسكو إلى صيغة، تحفظ مصالحهم في ظل الصراع الروسي الغربي، بخصوص الحرب الروسية الأوكرانية؛ ولعل ذلك ما يطرح تساؤلات متعددة حول الدوافع الاقتصادية عمومًا، التي ساهمت في المشاركة الأفريقية في قمة روسيا، في الإطار العام لقاعدة “تبادل المصالح” بين الجانبين.

عوامل رئيسة

تضافرت عدة عوامل، تختص بالأبعاد الاقتصادية، في المشاركة الأفريقية في القمة؛ ولعل أهم هذه العوامل.. ما يلي:

أولًا: تعميق التعاون والتبادل التجاري والاقتصادي؛ إذ، ترى الدول الأفريقية أن الفرصة سانحة أمامها، بعد العقوبات الغربية المفروضة على موسكو، وانسحاب الشركات الغربية من السوق الروسية، بما يمكن أن يُساهم في فتح فرص كثيرة في الجوانب الاقتصادية، وزيادة التبادل التجاري، عبر دخول شركات من دول الجنوب إلى الداخل الروسي.

ومثلما تعتبر روسيا أن القارة السمراء أصبحت، بالنسبة إليها، امتدادًا اقتصاديًا، وليس فقط امتدادًا استراتيجيًا؛ تعتمد الدول الأفريقية على إمكانية زيادة التبادل التجاري والاستثماري مع روسيا. فإضافة إلى العدد الكبير من الشركات الروسية العاملة في القارة، فقد بلغت الاستثمارات المباشرة أكثر من 40 مليار دولار، كما بلغ حجم التبادل التجاري بين دول القارة وروسيا حوالي 18 مليار دولار في عام 2022، وذلك طبقًا لما أكده الرئيس بوتين، في الجلسة العامة للمؤتمر البرلماني الدولي “روسيا وأفريقيا في عالم متعدد الأقطاب”. رغم ذلك، فإنه يُعد ضئيلا مقارنة بالتبادل التجاري بين أفريقيا ومناطق أخرى من العالم، مثل الاتحاد الأوروبي والصين، حيث يصل إلى 295 و254 مليار دولار على التوالي.

ثانيًا: ملف الأمن الغذائي وتوفير بديل لاتفاق الحبوب؛ حيث يأتي ملف الأمن الغذائي، على رأس أولويات الدول الأفريقية، خاصة مع تضرر العديد من دول القارة من فشل الاتفاقية، التي توسطت فيها الأمم المتحدة، بإعلان روسيا الانسحاب منها؛ لاسيما أن أفريقيا تستورد نحو 40 % من احتياجاتها من القمح، من روسيا وأوكرانيا بشكل خاص.

وبحسب مؤشرات وإحصاءات دليل التجارة والأعمال الدولية، تعتمد غالبية  الدول الأفريقية على واردات القمح الروسي والأوكراني؛ فقد بلغت واردات أفريقيا من القمح الروسي، في 2020، حوالي 3.5 مليون دولار، وانخفضت إلى 3.25 مليون دولار، قبل أن تصل خلال العام الماضي، 2022، إلى 2.5 مليون دولار. ومن ثم، يبدو أن موسكو تستخدم احتياجات القارة من الحبوب، بشكل استراتيجي، حيث أعلن الرئيس الروسي، في كلمته أمام القادة الأفارقة في افتتاح القمة، أن روسيا قادرة على تعويض صادرات الحبوب إلى أفريقيا، مُبديًا استعداد بلاده “توريد الحبوب مجانًا إلى 6 من دول القارة في غضون 3 أو 4 أشهر”.

ثالثًا: الدعم التكنولوجي لمشاريع قطاع الطاقة؛ ففي ظل الرهان الأفريقي على الاستفادة من الخبرات التقنية الروسية في قطاع الطاقة، التي تُمثل مجالًا خصبا للتعاون بين الجانبين؛ يأتي التعاون في إنتاج الطاقة النووية للأغراض السلمية، كما هو الحال مع مصر كمثال؛ كما تأتي الحلول الروسية في تكنولوجيا قطاع الطاقة والتعدين، والتعاون التقني مع الدول الأفريقية. ويبدو أن عديدًا من الدول الأفريقية قد استفاد من الضغوط الغربية، على روسيا، في مجال النفط والغاز؛ حيث تُبيِّن أرقام وكالة “ستاندرد آند بورز غلوبال” الاقتصادية الأمريكية، أن الصادرات النفطية الروسية لأفريقيا، خاصة المشتقات النفطية المكررة، تضاعفت 14 مرة منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، وحتى نهاية الربع الأول من هذا العام.

رابعًا: إلغاء الديون المستحقة على دول أفريقية؛ حيث أعلن الرئيس الروسي، في ثاني أيام القمة، الجمعة 28 يوليو، أن روسيا “ستخصص نحو 90 مليون دولار إضافية للدول الأفريقية لتخفيف الديون”؛ وتابع موضحًا “حتى الآن، بلغ جمالي الديون التي شطبناها 23 مليار دولار”.

وكان بوتين، قد قال في وقت سابق إن روسيا “ستتبرع بـ 300 ألف طن من الأسمدة، المحجوزة في لاتفيا وإستونيا وبلجيكا وهولندا، إلى الدول الأفريقية”؛ بما يمكن أن يُعد، إضافة إلى إسقاط الديون عن عددٍ من الدول الأفريقية، تشجيعًا للدخول في مرحلة جديدة من العلاقات الاستراتيجية، والاقتصادية بين روسيا ودول القارة الأفريقية.

خامسًا: تخفيف حدة الهيمنة الاقتصادية للدولار؛ ففي الوقت الذي تسعى فيه روسيا إلى تحقيق مكانة لعملتها المحلية في الاقتصاد العالمي، خاصة في إطار العقوبات الغربية المفروضة عليها، تحاول الدول الأفريقية هي الأخرى التخفف من ضغوط هيمنة الدولار على التعاملات الاقتصادية.

ولعل هذا ما يبدو بوضوح، عبر تأكيد الرئيس الروسي، في التعليق على نتائج القمة، عن استعداد روسيا لربط المؤسسات المالية الأفريقية بنظام التحويلات المالية الذي طورته روسيا؛ وعلى أن “الهدف هو زيادة التجارة المتبادلة من الناحية الكمية والنوعية”؛ مشيرًا إلى أنه “جرى الحديث عن التحول بشكل منهجي للتسويات المالية للتجارة البينية بالعملات الوطنية”. وهو ما يوضح التلاقي بين الجانبين، على محاولة الانفكاك من ضغوط الدولار الأمريكي، على حركة الاقتصاد العالمي.

مؤشر إيجابي

في هذا السياق، يُمكن القول بأن الكثير من الدول الأفريقية، تميل إلى التعاون الاقتصادي والتجاري مع روسيا، فضلًا عن محاولة الاستفادة من خبراتها التقنية في عديد من المجالات، خاصة مشاريع الطاقة واستخراج المعادن. وتأتي هذه الأبعاد الاقتصادية، في الاهتمام الأفريقي بالتوجه إلى روسيا، ليس فقط باعتبارها يمكن أن تُمثل بديلًا استراتيجيًا يُعتمد عليه، ولكن أيضًا كونها لم تتوغل في أفريقيا استعماريًا في فترات تاريخية سابقة.

وبالرغم من أن انسحاب روسيا من اتفاقية تصدير الحبوب، يبدو نظريًا مؤشرًا سلبيًا؛ إلا أنه، في واقع الأمر، يُعبر عن “مؤشر إيجابي” في العلاقات الأفريقية الروسية، من منظور أنه سيُمثل ورقة استراتيجية روسية، للتوسع في علاقاتها مع دول أفريقيا، التي يُمثل ملف الأمن الغذائي بالنسبة إليها، هاجسًا مزمنًا.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock