تُعد ليبيا أكثر الدول العربية في شمال أفريقيا، تأثرا بالانقلاب العسكري في النيجر؛ إذ لم يخف رئيس حكومة الوحدة الليبية، عبد الحميد الدبيبة، حالة القلق لدى حكومته من تطور الأحداث، في الجارة الجنوبية لبلاده؛ ودعا، عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي “X” (تويتر سابقا)، إلى “وضع حد فوري لهذه التحركات العسكرية، التي تقوض أمن المنطقة واستقرارها”.
وتبدو حالة القلق هذه، بشكل أكثر وضوحًا بعد التهديد باستخدام التدخل العسكري، من خلال القمة الطارئة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس”، في العاصمة النيجيرية، أبوجا، الأحد 30 يوليو؛ حيث أمهلت المجموعة قادة الانقلاب العسكري أسبوعًا واحدًا، لإعادة بازوم إلى السلطة، وإلا فرضت إيكواس عليهم عقوبات؛ فضلًا عن التلويح باستخدام القوة لدحر الانقلاب.
تأثيرات سلبية
هذه الأحداث، وتطورها، من شأنها المساهمة في تعقيد الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ليس في داخل النيجر فقط؛ ولكن في المحيط الجغرافي لها عمومًا، وفي منطقة الجنوب الليبي بشكل خاص، نتيجة البعد القبلي للرئيس بازوم، الذي ينحدر من قبيلة “أولاد سليمان” الليبية، التي يمتد انتشارها من بلدة “هراوة” على البحر الأبيض المتوسط، بالقرب من مدينة “سرت”، إلى النيجر وتشاد جنوبًا.
وكما يبدو، فإن عددًا من التأثيرات لأحداث النيجر، يمكن أن تساهم سلبيًا على الداخل الليبي، ومنطقة الجنوب بشكل خاص.. أهمها ما يلي:
أولًا: تنامي التمركز القبلي قرب المواقع الحيوية؛ حيث إن الصراع المحتمل بين القوى الموالية للرئيس المعزول، والقوى التي قادت الانقلاب العسكري في العاصمة نيامي، ستكون له تأثيرات سلبية على منطقة الجنوب الليبي، من منظور العلاقات الديموغرافية والقبلية بين النيجر وليبيا. والملاحظ، أن قبائل النيجر الموالية لبازوم، يمكن أن تستغل جذورها للتوجه إلى الجنوب الليبي، وتحديدا نحو قبيلة أولاد سليمان التي ينحدر منها باوزم، لإقامة تحالفات “عسكرية” معها.
ومن ثم، يبدو احتمال أن يتحول الجنوب الليبي إلى حاضنة لمعارضي الانقلاب احتمالًا قائمًا؛ تمامًا مثلما تحوَّل إلى حاضنة لمقاتلي “الجنجويد” في إقليم دارفور السوداني. وهنا، ستحاول القبائل التمركز قرب المواقع الحيوية في ليبيا، خاصة النفطية منها؛ وهو الأمر الذي يُتيح إمكانية اندلاع معارك “فرض الوجود”، على حافة حقل “الشرارة” النفطي في جنوب غربي ليبيا، والذي يُمثل أكبر الحقول النفطية الليبية من الناحية الإنتاجية. وبالتالي، فإن ما يحدث في النيجر يحمل نُذُر انكشاف الحدود الليبية الجنوبية على أبعاد أمنية خطيرة، تتعلق بالتوترات القبلية، خاصة التبو والطوارق؛ فضلًا بالطبع عن قبيلة أولاد سليمان وحلفائها من القبائل العربية.
ثانيًا: تزايد معدلات النزوح والهجرة غير الشرعية؛ فإضافة إلى ردة فعل قبيلة أولاد سليمان، الليبية، التي ينحدر منها رئيس النيجر، المعتقل من جانب قادة الانقلاب العسكري؛ فإن الأوضاع الأمنية في النيجر، في حال تدهورها، أو في حال تدخلت قوات “إيكواس” عسكريًا، سوف تؤدي إلى تدفق المزيد من سكان النيجر إلى داخل ليبيا، التي لا تملك الإمكانات الكافية لحماية حدودها، بما يُشكل عبئًا عليها، وعلى جنوبها بشكل خاص.
وفضلًا عن تدفق المهاجرين من النيجر، ونزوحهم إلى الداخل الليبي، مثلما حدث في هجرة عدد كبير من السودانيين إلى الداخل الليبي، نتيجة عدم الاستقرار في السودان؛ فإن هناك احتمالية لتزايد تدفق المهاجرين “غير الشرعيين” من النيجر إلى ليبيا، عبر الحدود المشتركة؛ إذ يبلغ طول الخط الحدودي بين ليبيا والنيجر حوالي 342 كيلو متر، تمتد من النقطة الثلاثية مع تشاد في الشرق، إلى النقطة الثلاثية مع الجزائر في الغرب، وهي حدود طويلة، تنشط من خلالها جماعات تهريب البشر والجريمة المنظمة.
ثالثًا: تمدد نشاط الجماعات والتنظيمات الإرهابية؛ إذ عبر خبرة العامين الماضيين، في دول جوار النيجر، التي مرت بمرحلة انقلابات عسكرية، مثل مالي وبوركينا فاسو؛ فقد تفاقمت الأوضاع الأمنية فيها نتيجة لتمدد نشاط الجماعات والتنظيمات الإرهابية. لذا يتبدى الاحتمال الخاص بتزايد نشاط تنظيم داعش في منطقة الساحل، وتصاعد تحركات تنظيمي نصرة الإسلام والمسلمين الموالية للقاعدة؛ خاصة عند الحدود مع كل من مالي وبوركينا فاسو المجاورتين للنيجر من جهة الغرب والجنوب الغربي.
أضف إلى ذلك، إمكانية أن تنشط جماعة “بوكو حرام”، على الحدود الجنوبية للنيجر، انطلاقًا من نيجيريا. ومع الأخذ في الاعتبار الوضعية الأمنية غير المستقرة، في ليبيا، فإن الاضطرابات المتوقعة في النيجر نتيجة الانقلاب العسكري، ستفتح الطريق إلى عودة هذه الجماعات، وخصوصًا داعش، إلى ليبيا. إذ إن تدهور الأوضاع الأمنية في النيجر، سيسمح لتلك التنظيمات بالنشاط على محور نيجيريا النيجر ليبيا.
رابعًا: تفاقم التنافس الدولي والتسابق على النفوذ؛ حيث يبدو في الأفق محاولة موسكو في ملء الفراغ، الذي سوف يخلفه تقليل اعتماد النيجر على باريس. ولعل هذا التنافس الروسي الفرنسي، الذي تبدى بوضوح خلال السنوات القليلة الماضية، في أكثر من دولة من دول الساحل الأفريقي، مثل مالي وبوركينا فاسو، فضلًا عن أفريقيا الوسطى، وبالتأكيد ليبيا، وخصوصًا جنوبها؛ هذا التنافس سيؤدي إلى “عسكرة” الساحل، وربما يتطور الأمر إلى صدام عسكري بين القوى الفاعلة، في الإقليم.
وهنا، يمكن لروسيا تعزيز العلاقة مع سلطة الانقلاب العسكري، في حال نجحت تنحية الرئيس بازوم، وخروج القوات الفرنسية من النيجر؛ بل وربما تحاول تأسيس وجود لها، عبر ملف مكافحة الإرهاب، ليخدم مصالحها وتمددها في إقليم الساحل الأفريقي.
ومن الواضح، أن حدوث انقلاب بهذا الشكل السهل، في دولة يتواجد بها قرابة 2500 جندي فرنسي، في قواعد مختلفة بالنيجر، يؤشر إلى احتمال أن ترد باريس بطريقة مشابهة لما حدث في مالي، خاصة أن النيجر هي آخر موطئ قدم لباريس في منطقة الساحل؛ وهو ما سيؤثر في ليبيا، التي ستتضرر غالبًا بفعل عدة عوامل، أهمها الاصطفاف الدولي الموجود في البلاد، وعدم الاستقرار الذي يمكن أن ينتج عن تداعيات التنافس الروسي الفرنسي، في النيجر، ودول الساحل عمومًا.
منطقة صراع
في هذا السياق، يُمكن القول بأن تحول الحدود الليبية، خاصة الجنوبية منها، مع عدد من الدول الأفريقية، إلى “منطقة صراع” وتنافس، بل وربما حرب بالوكالة، بين قوى دولية، على رأسها فرنسا المدعومة أمريكيًا، وروسيا، سيؤدي إلى إغراق الجنوب الليبي في الفوضى وعدم الاستقرار؛ بما يساهم في تحول جنوب ليبيا، الغني بالنفط والمياه، إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية والإقليمية أيضًا.
لذلك، فمن المتوقع أن تزداد الضغوط الفرنسية على العسكريين الجدد، سواء عبر “إيكواس”، أو عبر جنودها المتواجدين في داخل النيجر، بما يُنبئ بصعوبة أن يمر هذا الانقلاب بسهولة، وبما سيجعل منطقة الساحل عمومًا، ومنطقة الحدود المشتركة مع النيجر، وفي مقدمتها حدودها مع ليبيا، أكثر اضطرابًا؛ خاصة في حال تراجع القوات الموالية للرئيس المعزول، محمد بازوم، بحكم الامتداد العرقي والقبلي، نحو الجنوب الليبي.