رياضة

بوفون يخلع قفازه ويغادر الملعب.. “چيچي” أنت الظل الباقي (2-2)

لا ينسى چيچي بوفون أنه تحدّر من كرارا.. مدينة الرخام في توسكانا.. المدينة النائمة على ضفاف نهر كاريوني الهادئ.. برودة الرخام المقتطع من جبال ماسا كرارا، بالإضافة إلى هدوء كاريوني، ساهما بشكل ملحوظ في امتلاك بوفون أعصابا فولاذية.. لكنه الآن في مطلع الألفية الجديدة، بعد نهاية رحلته في بارما؛ يجد نفسه في تورينو ذات السمات العديدة والتاريخ الطويل، التي لا تقل جمالا وبهاء عن روما وفينيسا وفلورنسا ونابولي.. بل ربما تتفوق في العديد من الجوانب.. لكن تورينو ظلت تعاني الظلم والتهميش.. لا تنال مكانتها المستحقة بين المدن الإيطالية، رغم تلك الميزات بالإضافة إلى كونها عاصمة صناعة السيارات، إلى جانب العديد من الاستثمارات الضخمة.. لكن كل ذلك نسيته تورينو عندما صارت معقل اليوفي.. فباتت بذلك الشرف محجّا للملايين من عشاق الساحرة المستديرة في العالم؛ ليس بشكل موسمي بل على مدار العام.

يصف البعض العبقري بأنه ذلك الشخص الذي يؤهله ذكاؤه لصنع منجز عملي على نحو مبهر في مجال من المجالات.. أما العبقرية التي صاغت مسيرة بوفون مع اليوفي فيمكننا تعريفها بأنها ذلك الذكاء الذي أهّله لصنع إنجاز عظيم أثناء السير في حقل ألغام!

في أول موسمين سار الأمر على نحو اعتيادي.. فقد حصد فريق السيدة العجوز، الإسكودتيو مع المدرب مارشيلو ليبي.. كما وصل إلى نهائي الشامبيونز ليج أمام الميلان.. في هذا اللقاء تألق چيچي ومنع العديد من الأهداف، منها ما شهدته الدقيقة السابعة عشرة من اللقاء عندما حوّل فيلبو إنزاجي كرة سيدورف برأسه من الوضع راقدا قبل خط منطقة الستة ياردات – في المرمى على ارتفاع نص متر تقريبا على يسار بوفون الذي أبعد الكرة إلى خارج المرمى بارتماءة استغرقت عدة أجزاء من الثانية وسط ذهول الجميع.. وصلت المباراة بالتعادل الصفري إلى ضربات الحظ، تصدى بوفون ببراعة لضربتي سيدورف، كالاتزا.. لكن تريزجيه ومارسيلو زالايتا ومونتيرا أهدروا ركلاتهم في ظل تغاضي الحكم الألماني ماركوس ميرك عن تقدم الحارس البرازيلي ديدا بشكل غير قانوني أثناء تنفيذ الضربات.. ليخسر البيانكونيري الكأس ذات الأذنين، تلك الكأس التي استعصت على بوفون طوال مسيرته.. أسلمت چيچي هذه الخسارة إلى نوبة اكتئاب حادة، خضع خلالها للعلاج على يد متخصص لمدة ستة أشهر.

في كأس العالم بألمانيا 2006، تصدرت إيطاليا مجموعتها بسبع نقاط حصيلة فوزها على غانا والتشيك بنتيجة واحدة، هدفين للاشيء وتعادلها مع الولايات المتحدة بهدف لمثله.

في الدور الثاني عبر الآزوري استراليا بهدف دون رد، وفي دور الثمانية استطاع الطليان إظهار كامل قدراتهم أمام الأوكران؛ ليفوزوا بثلاثية نظيفة، قبل أن يقصوا ألمانيا المضيفة في مباراة قبل النهائي بهدفين دون رد في لقاء شهد أداءً استثنائيا لبوفون.. بالتصدي لقنبلة بودولسكي.

قبيل المباراة النهائية أمام منتخب الديوك.. حدث زلزال الكالتشيوبولي وهي الفضيحة الكبرى التي عصفت بالكالتشيو بسبب التلاعب في نتائج المباريات، واتهامات وجهت لبعض اللاعبين بتعاطي المنشطات، وانتهت الكالتشيوبولي بصدور قرار الاتحاد الإيطالي لكرة القدم بهبوط اليوفي للدرجة الثانية.. جبل كرارا الرخامي تعامل مع الكارثة بهدوء تام، وحافظ على تركيزه في المباراة النهائية التي انتهى وقتها الأصلي بالتعادل بهدف لمثله.

في الشوط الإضافي الأول وتحديدا في الدقيقة 103 حوّل زيدان كرة عرضية وصلته في نقطة أقرب للمرمى من نقطة الجزاء من عرضية سانيول- برأسه قوية في اتجاه المرمى بعد أن ارتقى لها عاليا.. ذهبت الكرة كالقذيفة في اتجاه أعلى منتصف المرمى تماما.. لتجد اليد اليمنى لبوفون لتحولها أعلى العارضة، في لقطة شبه إعجازية لسرعة الكرة وقوتها ومباغتتها.. هذه الكرة ربما تكون هي ما أفقد زيدان أعصابه وجعله ينطح ماتيرازي لينال البطاقة الحمراء.. وتفوز إيطاليا بالكأس بضربات الترجيح.. وليحصل فابيو كانافارو على جائزة الكرة الذهبية.. بالرغم أن بوفون كان الأحق بها.. لكنه جزء من أحزان المركز المظلوم يعرفه أعظم الحراس جيدا.

أصر بوفون على البقاء في اليوفي رغم الإغراءات المتعددة، وقرر خوض منافسات السيري آ بكل جدية، برغم تخلي كانافارو  وإيمرسون اللذين غادرا إلى ريال مدريد، وتورام وزامبروتا الراحلين إلى الفريق الكتالوني، أما باتريك فييرا فقد فضّل الانتقال إلى الميلان.

كان موسما ناجحا عاد بعده اليوفي إلى الدرجة الأولى، لكن الأمر استغرق عدة سنوات لحصد الإسكودتيو مجددا في موسم 2011-2012 بعد تسع سنوات من اللقب الأخير موسم 2002-2003.

في عام 2015، كان اللقاء الثاني لچيچي بذات الأذنين في النهائي الأوروبي أمام البلوجرانا، لكن الكأس الغالية تستعصي على الحارس الأمين للمرة الثانية، بعد هزيمة اليوفي الذي لم يكن في أحسن حالاته، بثلاثة أهداف لهدف، رغم تصدي بوفون للعديد من الكرات الخطرة أهمها كرة داني ألفيس الصاروخية في الدقيقة الثالثة عشرة التي صدها بوفون بيسراه رغم تحركه إلى  الزاوية المعاكسة.

تكرر الأمر بعد عامين في نهائي كارديف أمام ريال مدريد.. وخسر اليوفنتوس بأربعة أهداف لهدف، لتكون ذات الأذنين هي الكأس الوحيدة التي استعصت على بوفون بعد ثلاثة نهائيات لم تعرف سوى الخسارة.

في العام التالي انتقل چيچي إلى باريس سان جيرمان وفاز معه بدوري وكأس فرنسا قبل أن يعود إلى اليوفي لموسمين ليفوز معه بكأس إيطاليا.. قبل أن يختم مسيرته مع فريقه الأول بارما في السيري آ.

حصد بوفون خلال مسيرته مع الأندية الثلاثة التي مثّلها ومع المنتخب الإيطالي- خمسة وعشرين لقبا، وخاض مع الآزوري 176 مباراة، وتشير بعض الإحصائيات إلى أنه تخطى حاجز 1100 مباراة إجماليا.

لبوفون صور كثيرة يرتدي فيها الكوفية الفلسطينية والأعلام الفلسطينية، وقيل أنه صرخ في مباراة لإيطاليا أمام منتخب الكيان الصهيوني بحرية فلسطين وسقوط الاحتلال، لكن الأمر ليس مؤكدا.. وهناك كثير من القصص حول استخدامه أرقاما ورموزا تشير إلى النازية والفاشية، كما أن لديه سجلا من التهم المتعلقة بالتلاعب بنتائج المباريات الرياضية، من أجل المراهنات.. هذا غير عدم استقرار حياته اجتماعيا لفترات طويلة.. كل ذلك لا يمنع أن بوفون هو أعظم من ارتدى القفاز في ملاعب كرة القدم على مر التاريخ.. لذلك سيبقى ظله بين القائمين وتحت العارضة أمام الشباك؛ لأطول مما يتخيل أحد.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock