عاش نصر مهموما بإنتاج خطاب ثالث؛ ليس ذاك الخطاب المتشدد الذي يدعو إلى صراع مفتوح مع العالم، ويُقال عنه هذا هو الإسلام، وليس ذاك الخطاب الدفاعي الذي يعزل الإسلام عن سياقاته؛ ليبدو حداثيا عصريا، فهذا الفكر التبريري الذي يُقدّم الإسلام كفعل إنساني مثالي، لا يختلف عن المتشدد الذي يُقدمه لنا في صورة مثالية أخلاقية وروحية متجاهلا سياقاته التاريخية الاجتماعية العامة.
حاول نصر تقديم إجابات علمية تُساهم في بناء وعي جيد بالمعنى الديني تحميه من التوظيف النفعي الذي بجعله وقودا في الصراعات السياسية، ويُفقده الطابع الروحي المتسامح، قدّم نصر فكرا إسلاميا يقبل التعدد الثقافي والديني، ويراه مظهرا من مظاهر الرحمة الإلهية، في مواجهة خطابات متشددة تسعى إلى تثبيت صورة الله الغاضب على حساب صورة الله الرحمن الغفور المحب، خطابات ترسّخ النظرة الأحادية الرافضة لكل أنواع التعدد الثقافي والديني، فتعيش صراعات مستمرة مع الخطابات المغايرة من داخل الإسلام وخارجه.
وفي معركة بناء وعي أكبر بحقيقة المعنى الديني كان لابد من الاشتباك المعرفي مع الكثير من المفاهيم الخاطئة الشائعة حول “الإسلام”، وكسر حلقة السجال التي تدور فيها خطابات غربية وشرقية تخلط بين الإسلام والعالم الإسلامي، فتتحوّل الممارسات الحياتية إلى قضايا لاهوتية، وتجعلُ المسلمين أفرادا ومجتمعات حاملين لنسخة واحدة من الفكر الديني، متجاهلين تنوع السياقات الاجتماعية والتاريخية والاختلافات الثقافية بين المسلمين.
كيف نُواجه تلك المغالطات دون أن نقعَ في مصيدة الخطاب المتشدد الذي حوّل نفسه لمركز ينبغي أن ندور حوله في كل مسألة تتصل بالإسلام، فيُحدد لنا أسلوب النقاش أو الجدال، فإما أن نتبنى خطابه العنيف أو أن نتخذ موقفا دفاعيا نعزل من خلاله الإسلام عن سياقاته، وهذا يقودنا إلى المقاربة المعرفية/ المنهجية التي تبناها نصر في جميع دراساته، والتي تقوم على ثلاث مرتكزات:
الأول: أنّ القرآن الكريم، كما قدّم نفسه وطبقا للمعتقد الإسلامي، هو رسالة الله إلى البشر، حملها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان القرآن واضحا في تقديمه صلى الله عليه وسلم بوصفه بشرا رسولا، فنحن أمام رسالة من مرسل مطلق/إلهي إلى متلقي/بشري، والوسيط الاتصالي شفرة أو نظام لغوي، فاللغة العربية، شفرة الاتصال بين المقدس والبشر؛ فالله اختار لغة الإنسان للتواصل؛ لأن شفرة لغة الله/ المقدّس لا يُمكن أن يستوعبها الإنسان، فلن يتحقق التواصل مع المجتمع، ولأن المستهدف بالرسالة المجتمع؛ كانت الرسالة بشفرة/لغة تُفهم بواسطة المجتمع الذي تُخاطبه، “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم” [إبراهيم:٤]، فما كان لرسالة الإسلام أن تُحدث تأثيرا لو أنّ مستقبليها الأوائل عجزوا عن فهمها، لابد أنهم قد فهموها من خلال سياقهم السوسيو – ثقافي، ومن خلال فهمهم وتطبيقهم لها تغيّر مجتمعهم.
وحيث أنّ المرسل/المنشأ للقرآن، وهو الله عز وجلّ، لا يُمكن أن يكون موضوعا للدراسة، فإنّه لا يُمكننا أن نُقدّم مقاربة للنص أو الخطاب المقدس إلا من خلال دراسة لغة النص المقدس مستفيدين من تطور الدراسات اللغوية، من جانب، ومن خلال دراسة المجتمع الذي خُوطب بتلك اللغة من جانب آخر.
من هنا يبدأ الباحث في الدراسات القرآنية دراسته بالوقوف أمام سياق الواقع الذي عاصرته الرسالة (ثقافة القرن السابع الميلادي)، والثقافة هنا عالم المفاهيم الذي تحتويه اللغة في تلك الفترة، وهي المفاهيم نفسها التي حملها القرآن الكريم، فإذا كانت السماء في وعي المجتمع آنذاك سقف تُزينه النجوم، فستكون كذلك في القرآن الكريم.
في ضوء ذلك يُمكننا أن نفهم قول نصر: “القرآن منتَج ثقافي وهو في الوقت نفسه منتِج ثقافي”، فكل نص أو خطاب لغوي يحمل ثقافة/وعي/ مفاهيم المجتمع الذي خرج فيه، “كنص من داخل واقع سوسيو -ثقافي محدد- متضمن في نظام لغوي محدد وهو اللغة العربية”، فمثلا القسم بالعاديات ضبحا في القرآن الكريم تعبير يفهمه مجتمع القرن السابع الميلادي، فهم يعرفون حالة الخوف التي تُحدثها إغارة خيل العدو وأصوات أقدام الخيل التي تضرب الصخر تحتها فتقدح شرارا.
والقرآن الكريم، في الوقت نفسه، مُنتِجا لثقافة جديدة، فبالتدريج “انبثقت ثقافة جديدة من خلال القرآن”، فالقرآن الكريم حين يقول “حرّمت عليكم” يعدّل في ثقافتهم حدود المحرمات، ويقول: “كُتب عليكم” فيعدّل في وعيهم طبيعة الواجبات الدينية..
فالقرآن الكريم بوصفه رسالة عبر لغة، قد حمل كل سمات اللغة بشكل عام، من كونها: اتّصالية، فاللغة هي أداة الاتصال الأكثر فاعلية في المجتمعات الإنسانية، رمزية: فتعتمد على مجموعة من الإشارات والرموز، متغيرة مفتوحة، فأي لغة ليست نظاما مغلقا فهي قابلة لإماتة كلمات وجلب أخرى، وهي كذلك دوما في حالة تغيير وتجديد مكتسب من المجتمع، فنجد في القرآن استبرق وسندس وغيرها من الكلمات التي دخلت إلى العربية من بيئات أخرى، نظامية فهي نظام دقيق من القواعد الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية حتى تُحقق غرض التواصل والإفهام، وأخيرا اللغة سِيَاقية: فالسِّياقات تتدخل في بناء المعني وتحديد المغزى.
وهذا يقودنا للمرتكز الثاني الذي قامت عليه منهجية نصر، وهو “القراءة السياقية” للنصوص الدينية، التي أكّد أنّه استلهمها من رواد النهضة، من أمثال: الإمام محمد عبده والشيخ أمين الخولي، في سعيهم لإعادة فهم القرآن الكريم، ويُمكن أنْ نُعرّف القراءة السياقية: بأنّها تناول القضية/المسألة الدينية في نسق كلي مُركب من مجموعة سياقات:
1- السياق التاريخي الاجتماعي للقرن السابع الميلادي (زمن نزول الوحي) كإحدى السياقات المتعددة للقراءة، وهذا المستوى من القراءة السياقية يُعرف بـ “السوسيو تاريخي”، وهو التحليل الاجتماعي الكلي الذي يبحث في “الصورة الكبيرة” التي تتضمن التغيير التاريخي على مدى عشرات أو مئات السنين..
وهذه “القراءة السياقية” لها جذور لدى المدرسة الأصولية في تراثيتها القديمة، ومقاصديتها المعاصرة، فعلماء الأصول يبحثون، كضرورة لفهم المعنى، في أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وغيرها من مباحث علوم القرآن وعلوم اللغة؛ كي يصلوا إلى بناء مقاصد قرآنية كلية، ولم يقلْ أحد بأنّ الأصوليين عندما بحثوا في الناسخ والمنسوخ كانوا يقولون بـ”وقتية الأحكام”، وأنّهم ينالون من القرآن الكريم، ولم يقل أحد أنّ بحثهم عن أسباب النزول سعي إلى قصرها على السبب.
فلا تختلف القراءة السياقية عن القراءة المقاصدية الأصولية في حاكمية السياق على المعنى، فالسياق في أصول الفقه أو القراءة السياقية هو ما يُمكن أن يُحدد ما هو وحي عابر للزمن، وما هو عادات وأعراف دينية واجتماعية سابقة على الإسلام، وعلى مستوى العادات والأعراف السياق هو ما يُمكنه مرة أخرى أن يميز لنا بين ما تقبله الإسلام تقبلا كاملا مع تطويره كالحج مثلا، وبين ما تقبّله تقبلا جزئيا مع الإيحاء بأهمية أن يُطوّره المسلمون مثل مسألة “العبودية” وقضايا “حقوق المرأة” و”الحروب”.
وكما رأينا ثنائيات عند علماء الأصول من قبيل الناسخ والمنسوخ سنجد ثنائية المعنى والمغزى حاضرة في القراءة السياقية “التي تضع تمييزا بين المعاني والدلالات التاريخية المستنبطة من السياق من جهة، وبين “المغزى” الذي يدل عليه المعنى في السياق التاريخي الاجتماعي للتفسير من جهة أخرى. وهذا التمييز هام جدا بشرط أن يكون المغزي نابعا من المعني ومرتبطا به ارتباطا وثيقا مثل ارتباط النتيجة بالسبب أو المعلول بالعلة، وألا يكون تعبيرا عن هوي المفسر ووثبا علي “المعني” أو إسقاطا عليه”.
٢- سياق ترتيب النزول، أو السياق التتبعي للوحي، “وهو سياق مغاير لترتيب السور والآيات في المصحف، لقد درج المفسرون عموما علي تناول تفسير القرآن وفق هذا الترتيب الأخير، وهو نهج يغفل حقيقة أن ألفاظ القرآن قد أصاب معانيها تطورٌ في سياق السنوات العشرين التي استغرقها نزول الوحي، فاللفظ القرآني ليس من الضروري أن يدل علي المعني نفسه في المواقع المختلفة، وليس معني ذلك التقليل من شأن ترتيب التلاوة (ترتيب المصحف)، بل لابد من الاهتمام به من زاوية الكشف عن التأثير الجمالي النفسي للقرآن؛ لأنه هو الترتيب الذي استقر به النص في أفق التلقي العام. فإذا كانت القراءة بحسب ترتيب النزول أساسية للكشف عن المعاني والدلالات، فإن القراءة بحسب ترتيب التلاوة (ترتيب المصحف) تكشف عن “المغزي” والتأثير، ومنهج القراءة السياقية يهتم بتحليل السياقين في نسق كلي تركيبي لا يغفل الفروق بينهما؛ لأن القراءة التاريخية قادرة علي اكتشاف تطور الدلالة داخل بنية النص (من المكي إلي المدني مثلا) لكنها عاجزة عن اكتشاف التأثير الدلالي الكلي للبنية الراهنة للقرآن، في حين أنّ القراءة التتباعية لعلماء التفسير ربما تنجح في الكشف عن التاثير الدلالي الكلي، وإن كانت تغفل في أحيان كثيرة عن مسألة التطور الدلالي، ومهمة منهج التجديد.. الحرص علي الجمع بين البعدين التاريخي والتتابعي في عملية التفسير”.
٣- يتبع المستوي السابق مستوي آخر هو سياق “السرد “، والمقصود به التمييز بين ما ورد علي سبيل “التشريع” وبين ما ورد على سبيل “المساجلة” أو “الوصف” أو “التهديد والوعيد” أو “العبرة والموعظة”.. إلى غير ذلك من مستويات السرد.
٤- مستوى التركيب اللغوي، وهو مستوى أعقد من مستوى التركيب النحوي الذي اهتم به المفسرون؛ لأنه يتناول بالتحليل علاقات مثل “الفصل” أو “الوصل” بين الجمل النحوية وعلاقات “التقديم والتأخير” و”الإضمار والإظهار” – الذكر والحذف – و “التكرار” .. إلخ. وكلها عناصر دلالة أساسية في الكشف عن مستويات المعنى. وتلك هي العناصر الدلالية التي تناولها “عبدالقاهر الجرجاني” في كتابه الهام “دلائل الإعجاز” تحت مفهوم “النظم”، وقد تناولها نصر بالتحليل في ضوء علم” الأسلوب” أو “الأسلوبية” في دراسة مستقلة.
٥- مستوى التحليل النحوي والبلاغي الذي لا يقف عند حدود علم البلاغة التقليدي بل يوظف أدوات علم “تحليل الخطاب” وعلم “تحليل النصوص” في إنجازاتها المعاصرة. ومن شأن هذا التوظيف أن يكشف عن مستويات أكثر عمقا.
أما فيما يتعلق بالنص التأسيسي الثاني، وهو” السنة النبوية الشريفة” فلا بد من الجمع بين نقد “المتن” ونقد “السند”، أي بين منهج الإمامين أبي حنيفة والشافعي مع الإفادة كذلك من كل إمكانيات منهج فقد النصوص وتوثيقها في اللغويات والأسلوبية المعاصرة، أهم من ذلك ضرورة فتح باب الاجتهاد للفصل بين ما يندرج من كلام الرسول (ص) في مفهوم “السنة” بالمعنى الاصطلاحي، أي الواجبة الاتباع بوصفه رسولا ونبيا، وبين أقواله العادية التي يؤخذ منه ويترك بوصفه بشرا”.
المرتكز الثالث: لمنهجية نصر حتمية أن تتعدد التأويلات التي لا بد أن تختلف عن بعضها البعض بتغير الزمن والثقافة. شريطة أن تكون وفق قواعد منهجية؛ حتى لا يكون النص عرضة للتلاعبات السياسية والنفعية والأيدلوجية كما نرى في واقعنا، ومن أهم تلك القواعد: ضرورة الوعي بأن يكون المغزى مرتبطا بشكل قوي ومتصلا، بعقلانية، بالمعنى لكي نحصل على تأويل أكثر قبولا ومعقولية.
ففهم الجيل الأول من المسلمين والأجيال التي تلته مباشرة ليس فهما واحدا كما يُظن، كما أنه لا يُوجد فهما نهائيا أو مطلقا، فديناميكيات الشفرة اللغوية الخاصة بالقرآن ستسمح دائما بتولد محاولات لا نهائية لا حصر لها لهذه الشفرة.
وبما أن الاعتقاد في رسالة الإسلام ينبني على صلاحيتها لكل البشر، وفي كل زمان ومكان، فإن تعددية التأويل تصبح أمرا حتميا. ولكن يلزم الوعي بالفارق بين السياق الأصلي “المعنى” والذي يعتبر ثابتا، لا يتغير، بسبب تاريخيته، وبين “المغزى” القابل للتغيير.
غير أن تلك المنهجية تُواجهها عقبتين:
الأولى: أن المنهجية المقترحة تستلزم تحليل سوسيو – تاريخي للواقع والثقافة، وتوظيف المنهجيات اللغوية الحديثة، وحتى الآن، ما زال هذا مرفوضا ليس فقط في مجال الدراسات القرآنية، ولكن أيضا في مجال الدراسات الإسلامية بشكل عام، وما زالت المقاربة الفيلولوجية هي المقبولة من المؤسسات الدينية.
الثانية: ما شهده القرن التاسع الميلادي من صراع فكري سياسي حول طبيعة القرآن الكريم، هل هو مخلوق كما تقول المعتزلة أما قديم/ أزلي كما يقول الحنابلة، وقد حسم هذا الصراع لصالح الحنابلة بعد أن تبنته السلطة السياسية، ولم يعد الحديث عن مذهبين يُمكن وصف أحدهما بالصواب والأخر بالخطأ، وإنما أصبح الأمر حقا وباطلا، وأصبح القول بخلافه تهديدا ينال من الإسلام.
وهذا يتعارض مع القراءة السياقية والتأويلية التي تجد نفسها أقرب إلى التصورات الاعتزالية ليس من منطلق الانتصار لمذهب تراثي وإنما من منظور التصور العلمي الأكثر اتساقا مع طبيعة القرآن الكريم كنص أو خطاب اختار اللغة أداة للتواصل.