بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عروبة 22
في العقود الثلاثة الأخيرة تغيّر مشهد النظام العالمي ثلاث مرات؛ الأول كان بسقوط الاتحاد السوفييتي ١٩٩٢ وسقوط نظام القطبية الثنائية معه والتحوّل إلى نظام القطب الواحد الأمريكي المهيمن؛ الثاني بدأ عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ والتي تبعها ما يمكن وصفه بأكثر مراحل الانخراط الدموي المباشر للولايات المتحدة في الحروب والغزو العسكري لتأكيد هيمنتها المطلقة على العالم.
أما التغيّر الثالث الحالي فهو اندلاع الحرب الأوكرانية كحرب وكالة بامتياز بين واشنطن التي تريد تحقيق أهم أهداف استراتيجيتها للأمن القومي وهو إبقاء هيمنتها المطلقة على العالم، وبين بكين ووراءها موسكو اللتين تريدان إزاحتها من عرشها وخلق نظام دولي متعدّد الأقطاب.
كان الثابت في كلّ هذه المتغيّرات كل مرّة هو تأكيد القناعة الأمريكية الاستراتيجية في أنّ ضمان الهيمنة الأمريكية العالمية يمرّ بالضرورة عبر السيطرة أو التلاعب بمصائر منطقة ما يسمى بهلال أو قوس الأزمات (The Arc of Crisis). هذا المفهوم كان من أهمّ من طوّروه كمفهوم جغرافي ومحتوى سياسي وعقائدي هو زبيغنيو بريجنسكي.
على النطاق الجغرافي حدّد بريجنسكي، وأيّده في ذلك منظّر أمريكي آخر هو هنري كيسنجر، قوس الأزمات بأنه (تلك المنطقة الشاسعة التي يوجد بقلبها العالم العربي وتمتد من أفغانستان وباكستان وإيران في آسيا وتشمل دول شمال أفريقيا العربية ومصر والجزيرة العربية خاصة السعودية حتى تصل إلي إثيوبيا). وفي بعض مراحل إدارة بوش الابن تمت الإشارة إلى مفهوم قوس الأزمات باسم آخر هو “الشرق الأوسط الكبير” دون تغييرات جوهرية في السياق الجيو -سياسي.
يتّفق كثير من المحللين على أنّ الولايات المتحدة تشنّ حاليًا على الشرق الأوسط ما يمكن وصفه بأقوى هجمة إستراتيجية مرتدة لتعويض هزائمها المريرة أمام ما تسمّيه واشنطن محور (موسكو -بكين –طهران) الاستراتيجي المعادي لها. ويلحظون في الوقت الراهن مشهد الانقلاب الأمريكي والتدريجي ولكن الحازم عن استراتيجياتها الانسحابية السابقة فيما عُرف بـ”القيادة من الخلف وتقليص الوجود المباشر في المنطقة”، والتي أتبعتها بصور مختلفة في عهدَي أوباما وترامب ومرحلة أولى في عهد بايدن.
وهي الاستراتيجية السابقة التي كانت عبّرت عن نفسها في الانسحاب العسكري من العراق ومن أفغانستان وتقليل الوجود العسكري الأمريكي المباشر في الأفراد والأسلحة في السنوات السابقة والتي تبعها حاليًا ندم مرير وصحوة في دولة الأمن القومي الأمريكية تمثّلت بوضوح في دعوة بايدن الشهيرة في زيارته للمنطقة العام الماضي “لن نغادر الشرق الأوسط ونترك فراغًا تملؤه الصين أو روسيا”.
لكن ما هو الجديد في إحياء واشنطن الفعلي الآن لمفهوم قوس الأزمات، وما هي التبعات الخطيرة التي قد تعاني منها المنطقة في حال رأت واشنطن أنّ من مصلحتها إعادة تسخين بؤرة ملتهبة من عشرات البؤر الملتهبة في هذه المنطقة؟
دوافع العودة الأمريكية لمفهوم قوس الأزمات
في التفكير الأمريكي فإنّ هذه المنطقة الهشة المليئة بالصراعات العرقية والدينية والحدودية، وهي بشكل عام دول غير ديمقراطية وبنى الدولة فيها بنى تقليدية وغير حداثية، ولكن بسبب ثرواتها الهائلة خاصة النفط وموقعها الجيوسياسي المهيمن على أهم طرق التجارة والملاحة والذي يجعلها بحسب تعبيرات “ماكيندر” الشهيرة في قلب العالم، لا بدّ لأيّ قوة عظمى تريد الهيمنة على النظام الدولي السيطرة عليها.
وبنت الاستراتيجية الأمريكية مفهومها عن التعامل مع القوس الواسع بمنطق “إدارة” الصراعات فيها، فإذا كان في مصلحتها تسهيل اندلاع صراع عرقي/ ديني/ طائفي أو حدودي، عملت ما بوسعها لحدوث ذلك مهما كانت خسائره البشرية والمادية على الدول المنخرطة فيه أو لدول الإقليم المجاورة، المهم هو أن لا تفلت هذه النزاعات عن السيطرة وتصبح مدخلًا لهيمنة قوة دولية منافسة على قوس الأزمات بدلًا من واشنطن.
دافع كل الواقعيين في واشنطن عن حقّ المخطّط الأمريكي في التلاعب بهشاشة المنطقة والمساعدة في إخراج وتفجير أي لغم راقد فيها فرحبت أشدّ الترحيب بالحرب العراقية/ الإيرانية التي تمنّى مسؤولون أمريكيون علنًا أن تستمرّ لمائة عام، وبنوا فى إثرها خطة استراتيجية وهي تحويل مسار الصراع في المنطقة إلى صراع (سني/ شيعي) (فارسي/عربي) تنقل فيه واشنطن العرب – بعد توقيع اتفاقيات سلام وتطبيع مع دولة الاحتلال – إلى تحالف عربي إسرائيلي في مواجهة إيران بقيادة واشنطن الاستراتيجية.
في هذه المرحلة غرقت منطقة القوس في عشرات الحروب التي غيّرت فيها أمريكا تحالفاتها كما تغيّر جواربها غير النظيفة، وتحالفت مع الجماعات الجهادية ضد السوفييت في أفغانستان وأطلقت عليهم “المقاتلون من أجل الحرية” وعندما انقلب السحر على الساحر وشنّوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر أصبحوا إرهابيين فشنّت ما يُسمى بالحرب الدولية على الإرهاب.
سيطرت هذه السردية الوهمية على المنطقة العقدين الأخيرين، ومعها تشظى العرب بين دول معتدلة ودول ممانعة، وأتت أكلها في تسييد هيمنة أمريكية/اسرائيلية إذ كانت وراء كل حروب الوكالة الإقليمية من سوريا إلى اليمن مرورًا بلبنان والعراق، إلى أن حدثت لحظة توافق استراتيجي بين دول المنطقة خاصة السعودية وإيران، وهنا نجح الصينيون هذا العام في عقد اتفاق تطبيع سعودي / إيراني لتهدئة المنطقة، بدا أنه سيقود إلى تبريد الصراعات المشتعلة وربما حلّها سلميًا.
تأكدت واشنطن من أنّ مشروع الحزام والطريق العملاق الذي يكاد يتطابق مع النطاق الجيوسياسي لقوس الأزمات ليس مجرد طريق تجارة واستثمار بل هو مشروع استراتيجي تهدف منه الصين لإزاحة أمريكا من عرشها الشرق أوسطي المستمر منذ ٨٠ سنة تقريبًا.
لكن أكثر ما دفع واشنطن لإحياء مفهوم قوس الأزمات وتحريك ما فيه من ألغام مدفونة ليس فقط انتقال المنطقة نحو التهدئة وتوجيه التطبيع السعودي الإيراني- إذا استمر- ضربة غير هينة لمنظمة النقب الإقليمية العربية / الإسرائيلية التي بنتها أمريكا كحجر أساس لتحالف عسكري إقليمي موجّه ضد طهران، ولكن، وهذا هو الأخطر، لأن استراتيجية الصين تتحدّى الاستراتيجية الأمريكية فتعمل وفق استراتيجية مضادة تمامًا، ألا وهي تهدئة التوترات الإقليمية والنزاعات العرقية والطائفية والحدودية التي من شأن إندلاع واحدة منها التأثير السلبي على مشروع الحزام والطريق وعلي استثمارات الصين الخرافية فيه.
الحرب الأوكرانية كانت سببًا أساسيًا أيضًا في إزاحة الغلالة الأخلاقية الرقيقة التي استهلت إدارة بايدن عهدها بها، ألا وهي جعل الديمقراطية وحقوق الإنسان عنصرًا رئيسيًا في علاقاتها الدولية. عادت واشنطن بسرعة مخيفة إلى الدوافع الجيوسياسية أي إلى مصالحها المادية المباشرة في التعامل مع دول قوس الأزمات.
الحرب الأوكرانية تحوّلت منذ اللحظة الأولى إلى معركة صفرية يصبح معها أيّ فوز لروسيا هو فوز لها وللصين وضربة للهيمنة الأمريكية، والعكس صحيح.
وكما كسبت واشنطن الحرب الباردة مع الغريم القديم الاتحاد السوفييتي بحرب أفغانستان على مشارف هذا القوس وأكملت ذلك لاحقًا بالقضاء على حصنين من حلفاء موسكو هما نظام صدام في العراق ونظام القذافي في ليبيا، فإنها تأمل عبر ثلاث استراتيجيات أن تنجح في هزيمة الصين الغريم العالمي الجديد وتحطيم طموحها في تقاسم قيادة العالم.
الاستراتيجية الأولى:
طوّر المخطط الأمريكي هذا النطاق ليشمل دول وسط آسيا في القارة الآسيوية ويشمل دول الساحل الأفريقي المجاور لدول الشمال الأفريقي العربية. دوافع ذلك تمثّلت في انتقال مركز الصراع العالمي بين واشنطن وبكين في السنوات الأخيرة إلى آسيا ومنطقة المحيط الهندي والباسيفيكي واشتمال مشروع الحزام والطريق على منطقة وسط آسيا، أي أصبحت في قلب الصراع بينهما واندلاع الحرب الأوكرانية وضرورة كسب مواقع نفوذ أكبر على دول هذه المنطقة بما يمكّنها عند اللزوم من إضعاف حليفين أساسيين في محور الصين العالمي هما روسيا وإيران اللتين تتجاوران مع منطقة وسط آسيا. بعبارة أخرى يتحرك الأمريكيون عبر هذا التطوير لمفهوم قوس الأزمات إلى التأكّد من أن يكونوا باستمرار اليد العليا في أوراسيا ومعها الشرق الأوسط الكبير.
الاستراتيجية الثانية:
هي إحياء ما تسميه الحلف العربي/ الإسرائيلي عبر مبادرة تطبيع كبرى – غير مؤكد نجاحها – بين السعودية وإسرائيل تتضمّن التزامًا أمنيًا أمريكيًا بحماية السعودية من أيّ إعتداء عليها، وبرنامج نووي سلمي ومعدات عسكرية متقدّمة وتجميد الاستيطان في الضفة ودعم السلطة الفلسطينية مقابل تطبيع كامل وسلام شامل مع إسرائيل، لكن اللافت للنظر هو التطوير الإسرائيلي للمبادرة والذي جاء في مقال بالغ الخطورة لوزير خارجية الكيان في “وول ستريت جورنال” طالب فيه أن يكون الالتزام الأمني الأمريكي في الشرق الأوسط على غرار التزامها الذي لم يتزعزع منذ ٧٠ عامًا مع كوريا الجنوبية، على أن “لا يقتصر فقط على السعودية” ولكن يشمل إسرائيل وما وصفه بـ”الدول السنية في مواجهة إيران”.
الاستراتيجية الثالثة:
إعادة نبش جذور النزاعات القديمة بين دول القوس وتحريك ألغام مدفونة بحيث تكون قابلة للانفجار عند الحاجة، أو البدء في تسخين مناطق صراع كان قد طرأ عليه نوع من الهدنات أو السكون الميداني في المرحلة الماضية.
حقل ألغام جيوسياسي لا يحتاج إلا تصريحًا منفلتًا أو استفزازًا حدوديًا أو طلقة خاطئة كي يشتعل قوس الأزمات
نشير فقط إلى بعض هذه الألغام التي تحرّكت فجأة، مع التركيز على ما له علاقة بأهمّ دولتين حاليًا في الجزء الشرق الأوسطي من القوس وهما السعودية وإيران:
– تجدد فجأة الخلاف التاريخي على المياه الذي يصل عمره إلى قرن بأكمله بين إيران الشيعية وأفغانستان طالبان السنية المتشددة، ووقعت اشتباكات حدودية وهناك حشود جاهزة على الحدود.
– مرّة واحدة انفجر الخلاف القديم الساكن بين إيران وكلّ من الكويت والسعودية حول ملكية حقل الدرة النفطي في الخليج.
– عادت الولايات المتحدة بشكل كثيف لحشد قواتها وسفنها في منطقة الخليج، وتمّ إرسال ٣٠٠٠ مقاتل أمريكي وزادت وتيرة الاستفزازات المتبادلة بين القطع البحرية الإيرانية والأمريكية في مضيق هرمز أحد أهم ممرات النفط في العالم.
– عادت الاشتباكات بين الحوثيين المدعومين من إيران وقوات الشرعية المدعومة من السعودية بعد هدنة سكتت فيها المدافع.
– تتزايد الاستفزازات بين “حزب الله” القريب من إيران وجيش دولة الاحتلال على الحدود بعد فترات سكون طويلة، والحديث لا ينقطع يوميًا في إسرائيل عن احتمالات جدّية لعدوان آخر على لبنان يعيده للعصر الحجري، وردَّ مسؤولو الحزب بتهديدات مماثلة.
– طوّرت واشنطن معارضتها لإعادة سوريا للجامعة العربية – إذ تعتبرها هزيمة خالصة لها وانتصارًا خالصًا لروسيا – إلى سياسة تصعيد عملي ميداني تكاد تُنهي عمليًا سنوات من الهدوء النسبي الذي لحق بالبلد بعد توازن القوى الذي جعل إسقاط النظام السوري مستحيلًا، فبعد زيارة غير مسبوقة لرئيس الأركان الأمريكي إلى المناطق التي تسيطر عليها واشنطن وحلفائها الأكراد، أرسلت واشنطن أحدث ما في ترسانتها لسوريا المنهكة مثل صواريخ هيمارس وطائرات إف ٢٢ بل وطائرات إف ٣٥. وتزايدت الاحتكاكات الجوية بين الطيران الأمريكي والطيران الروسي في الأجواء السورية بصورة منذرة، لدرجة أنّ بوتين لم يستبعد حدوث صدام عسكري مع الأمريكيين في سوريا قال إنه لا يريده لكنه مستعد لأي سيناريو إذا أراد أحد ذلك.
– تركيا، التي عادت تحت تأثير أزمتها الاقتصادية إلى التوافق مع واشنطن والناتو، صعّدت من غاراتها الجوية على سوريا ودعمت نحو ١٥ ألفًا من الجماعات الجهادية المتطرّفة في مناطق نفوذها، ورجعت للهجتها المتشدّدة التي تعتبر زوال الحكومة السورية شرطًا لحلّ الأزمة، كما تقوم بتجذير وجودها العسكري والإداري في الشمال السوري وتفرض بشكل أحادي عملية إعادة انتقائية للاجئين إلى مدن سورية كبرى مثل حلب.
– وتصعّد تركيا أيضًا من التوتر في العراق بمضاعفة غاراتها العسكرية في إقليم كردستان وترفض دفع غرامة تحكيم كبرى لاستيرادها النفط العراقي من حكومة الإقليم دون المرور بالحكومة المركزية في بغداد، وما زالت تفاقم من حدة مشكلة المياه بتحكّمها في تدفّق مياه الفرات لكل من سوريا والعراق.
حقل ألغام جيوسياسي واسع لا يحتاج إلا تصريحًا منفلتًا يصدر من طهران أو بيروت أو دمشق أو صنعاء أو الرياض أو كابول أو تل أبيب، أو استفزازًا حدوديًا أو جويًا أو بحريًا أو طلقة خاطئة من هذا الاتجاه أو ذاك، كي يشتعل قوس الأزمات وتموت التهدئة في جنباته وتبقى الهيمنة الغربية جاثمة على الصدور قابضة على الثروات متحكّمة في السياسات التي تتّبعها حكوماته.