رؤى

كاتب أمريكي: مصير الامبراطورية الرومانية في انتظار أمريكا؟

* إدوارد وات أستاذ التاريخ في جامعة كاليفورنيا 

*ترجمة وعرض أحمد بركات

مع اقتراب بداية القرن الثالث قبل الميلاد، واجهت «الإمبراطورية الرومانية» تهديدا حادا لسيطرتها على شبه الجزيرة الإيطالية. وعبر سلسلة من المعارك الطاحنة، تمكن بيروس الإبيري في استعراض عسكري مخيف ضم 20 فيلقا حربيا، من سحق جيوش روما. وعندما عرض على الرومان معاهدة سلام غير قاسية نسبيا، تحمس كثير من كبار رجال الإمبراطورية الرومانية لإتمامها، لكن وبفضل القوة التي لا تضاهى للمؤسسات السياسية في روما، انتهت انتصارات «بيروس» بهزيمة منكرة صارت مضرب الأمثال بعد ذلك.

انهارت كجبل الجليد

في كتابه المهم تحت عنوان «الجمهورية الفانية ..كيف سقطت روما في براثن الاستبداد»، يشير «إدوارد وات» أستاذ التاريخ فى جامعة كاليفورنيا في سان دييجو، إلى أنه عندما اجتمع  مجلس الشيوخ في روما لمناقشة بنود المعاهدة والموافقة عليها، حمل أبناء أبيوس كلوديوس – العضو الأعمى الطاعن في السن – أباهم إلى المجلس. وعندما ساد الصمت القاعة، وقف كلوديوس ليوبخ أقرانه، قائلا: «اعتقدت طويلا أن ما أصابني من عمى هو ابتلاء لا أستطيع له صبرا، والآن وددت لو فقدت سمعي أيضا قبل أن أسمع قادة روما يناقشون قرارات مخزية ستمحو مجد بلادهم إلى الأبد». وحذر كلوديوس من أن الاستسلام لبيروس يعني استدعاء مزيد من القوى الخارجية للعبث بروما. وبرغم احتمالات النصر المتدنية، لم يكن أمام روما من خيار سوى مواصلة القتال.

ويستطرد ادوارد وات مبينا كيف لجأ بيروس إلى الرشوة بعد أن أعجزته قوة المؤسسة السياسية في روما عن إخضاعها بطريق المعاهدات والاتفاقات السياسية. فعندما ذهب إليه فابريسيوس – أحد أعضاء مجلس الشيوخ البارزين الذي كان يعيش على الكفاف – للتفاوض بشأن تبادل الأسرى، عرض عليه بيروس ذهبا يجعله أغنى أغنياء العالم، لكن فابريسيوس تمنع على هذا الإغراء، قائلا: «إن جمهورية روما تمنح من يدخل الحياة العامة كل ما يحتاج إليه». ولأن الفقير كان يمكنه أن يتبوأ

أعلى المناصب، فقد فاقت أهمية الشرف عند فابريسيوس أهمية المال.

الموت المنظم..وبذور الزوال

يبني وات نظريته في سقوط الإمبراطوريات في كتابه، الذي صدر في نوفمبر الماضي، على هاتين العبارتين اللتين  تجمعان – من وجهة نظره -الأسس التي بُني عليها مجد روما القديمة. ففي بداية عهدها بالوجود «أسست الجمهورية هيكلا قانونيا وسياسيا وجه الطاقات الفردية للرومان بطرق أفادت الكومنولث الروماني بأكمله». لكن على مدى القرون التي تعاقبت على هذا البناء التليد، ضعف هذا الأساس تدريجيا حتى انهار فجأة كجبل جليد.

ولأن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، صاغوا نظامها السياسي على غرار النموذج الروماني، فإن «إدوارد وات» يفتش  من خلال دراسته في الماضي، عن دروس عميقة للحاضر والمستقبل، حيث يتمثل الهدف الأساسي من هذا الكتاب، كما يوضح يقول مؤلفه، في «منح القارئ الفرصة ليقيم على نحو أفضل المشكلات الخطيرة التي يتولى كبحها والتغاضى عنها السياسيون الذين ينتهكون القواعد السياسية للجمهورية، والمواطنون الذين لا يختارون معاقبتهم على اقتراف هذا الإثم». فهل أنجز وات هذا الهدف الطموح؟

أسباب الانهيار

في سردية «وات» عن ’الموت المنظم‘ للجمهورية الرومانية، تنثر التحولات الهيكلية البطيئة تدريجيا بذور الزوال  لهذه الإمبراطورية. فمع زيادة أعداد السكان وتعقد الاقتصاد، راحت الأعداد المتزايدة من المواطنين الفقراء تلح في طلب الإصلاح ، لكن نظرا لأن مؤسسات الجمهورية كان يهيمن عليها أرستقراطيون لديهم الكثير مما يمكن أن يخسروه جراء هذه الإصلاحات، فقد عكف هؤلاء على المراوغة وعدم الاستجابة لهذه المطالب ومعالجة المظالم بشكل كامل. ومع تصاعد حدة الغضب الشعبي ضد هذه المؤسسات المعطلة، شرع أرستقراطيون طامحون وعازمون على التفوق على منافسيهم في حشد الجماهير وتكوين قواعد شعبية متحمسة عن طريق تقديم وعود براقة إلى حد الزيف. وقام بعض الشعبويين من شاكلة تيبيريوس جراتشوس، وشقيقه الأصغر غايوس، بخرق بعض قواعد الجمهورية الأكثر رسوخا في محاولتهم الوصول إلى السلطة.

في هذه الأثناء، أدت التحولات التي طرأت على جيش روما إلى زيادة تعقيد إشكالية عدم المساواة في المجتمع الروماني. ففي الأيام الأولى من عمر الجمهورية كان الجنود ينظرون إلى مشاركتهم في الخدمة العسكرية باعتبارها واجبا وطنيا محضا. لكن طموح القادة في الحصول على مزيد من التكريم المادي والمعنوي، والحراك نحو الأعلى في سلك المناصب القيادية استفحل إلى درجة كبيرة أفضت إلى خصخصة الجيش في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد. حيث أدرك القادة أن نهب أراض جديدة سيضمن لهم الحصول على ثروات طائلة. وسار الجنود في ركابهم طمعا في الحصول على مساحات سخية من الأراضي تمكنهم من بناء مزارع خاصة بهم.

ومع زيادة ولاء الجنود لقادتهم وتكالب القادة على مضاعفة ثرواتهم، لم يعد مجلس الشيوخ قادرا على النهوض بواجباته. واستغرق الأمر وقتا غير قصير لخلق هذه الحالة من التوتر بين فئات المجتمع المختلفة. ولكن بمجرد أن بلغت التوترات مراحل متقدمة من التعقيد، كان سقوط روما في براثن الفوضى سريعا إلى درجة مذهلة.

Image result for ‫مجلس الشيوخ‬‎

وفي الفترة بين هزيمة بيروس وصعود تيبيريوس جراتشوس، التي استمرت على مدى قرن ونصف من الزمان، لم تشهد روما أي تفش للعنف السياسي على نطاق واسع. واندفع تيبيريوس في تطبيق سياسات إصلاح الأراضي بلا هوادة ،متجاهلا معارضة مجلس الشيوخ. وأدت الصراعات التي نجمت عن ذلك إلى مقتل تيبيريوس ومئات من أتباعه، وسقطت على إثر ذلك هالة القدسية عن سياسات القوة المجردة، ولم تعد من جديد.

وعلى مدى السنوات التالية، أصبح دأب السياسيين الشعبويين في روما أن يتجاهلوا القواعد الراسخة للجمهورية لتحقيق أهدافهم، بينما صار هَمُ القادة العسكريين أن يُخضعوا مجلس الشيوخ لإرادتهم عن طريق التهديد باحتلال روما، و رغبة الجنرالات المتنافسين أن يعلنوا الحرب على بعضهم البعض.

وفي غضون جيل من أول عملية اغتيال سياسي تشهدها روما، عكف السياسيون على تسليح مؤيديهم واستخدام التهديد باندلاع موجات عنف للتأثير على عمليات التصويت داخل المجالس وانتخابات القضاة. وفي غضون جيلين سقطت روما في براثن الحرب الأهلية».

ترامب.. والمنظومة السياسية الفاشلة

ويحذر «إدوارد وات» من أنه إذا كان للأمريكيين أن يتجنبوا مصير الرومان، فإنه «يتعين علينا جميعا أن نعي كيف نجح النظام الجمهوري في روما، وماذا أنجز، ولماذا انصرف عنه مواطنوه بعد قرابة خمسة قرون إلى استبداد أوغسطس». من أحد الوجوه، فشل الكتاب في تحقيق هذا الطموح، فبينما يتقدم وات في سرديته، يتغافل – أو يغفل – تقديم تحليل عميق للتوجهات التي دفعت بالجمهورية نحو العديد من الصراعات التي مزقت وحدتها في القرن الأخير من عمرها. لكن، من وجوه أخرى، يساعد هذا التكرار السردي الخالص  للنكبات التي ألمًت بروما، في إبراز الرسالة الأهم لهذا الكتاب. فإذا كان لنا أن نستجمع ملامح التشبيه الضمني بين جمهورية روما والولايات المتحدة ،والذي حرص وات على أن تنفُذ به روح أفكاره وكلماته بطول الكتاب وعرضه، فسيكون دونالد ترامب بلا شك، هو ذلك ’التناسخ الهزلي‘ لتيبيريوس جراتشوس. فعلى غرار الشعبوي الروماني الحقيقي، صعد ترامب إلى قمة هرم السلطة التنفيذية عبر إخفاقات حقيقية ومريعة لمنظومة سياسية عجزت عن كبح جماح اللامساواة المتصاعدة وتعبئة المواطنين حول تصور مشترك للصالح العام. وعلى غرار تيبيريوس جراتشوس أيضا، يعتقد ترامب أن انتهاكه، وربما تمزيقه، لتقاليد الجمهورية مبرر تماما لأنه يتحدث باسم المحرومين.

Image result for ‫مجلس الشيوخ‬‎

لو صح هذا التشبيه، فإن ’الخبر السار‘ الذي يزفه وات هو أن ترامب سيتحول إلى شخصية ثانوية نسبيا بمجرد كتابة تاريخ «جمهوريتنا الفانية».  ويضيف وات قائلا «فبغض النظر عن اضطلاعه بمفرده بتدمير «نظامنا السياسي»، يبقى ترامب الشخصية الانتقالية التي يُظهر انتخابها “الآثار الدامية لإخفاقات ديمقراطيتنا على مدى عقود من الزمان».

أما الخبر السيء فهو أنه من غير المرجح أن تحمل لنا العقود القادمة لحظات كثيرة من الهدوء والسكينة. فبرغم تتابع أربعة أجيال بين مقتل تيبيريوس جراتشوس الدامي وصعود أوغسطس السريع إلى قمة هرم السلطة المطلقة، فإن القرن الفاصل كان زاخرا بالفوضى والخوف. وإذا كان التشبيه المركزي الذي يبعث حياة  «الجمهورية الفانية» في الجسد الأمريكي صحيحا، فمن المرجح أن يستمر التحدي الراهن للنظام السياسي الأمريكي لفترة طويلة بعد مغادرة الرئيس الحالي البيت الأبيض.

نص الكتاب

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock